Shiite Muslim worshippers gather at the holy shrine of Imam Hussein in Karbala, Iraq, Friday, Jan, 12, 2024. (AP Photo/Hadi…
صورة تعبيرية من مرقد الإمام الحسين في مدينة كربلاء في العراق

تقع مدينة كربلاء على بعد 100 كيلومتر جنوب غرب العاصمة بغداد، وتشغل أهمية كبرى بالنسبة للشيعة لارتباطها بذكرى مقتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب وعدد من أقاربه وأتباعه عام 61 هجرية.

وعلى مرّ القرون زار العديد من الرحالة الغربيين كربلاء ووصفوها في كتاباتهم. فمن هم هؤلاء الرحالة؟ وما أبرز الملاحظات التي سجلوها أثناء مرورهم بتلك المدينة؟

 

بيدرو تكسيرا

يُعدّ البرتغالي بيدرو تكسيرا أحد من أشهر الرحالة الأوربيين في القرن السابع عشر الميلادي. مرّ بمنطقة الخليج، فزار العديد من المدن الإيرانية، ثم عبر مضيق هرمز وتوجه نحو الأراضي العراقية، وقدم وصفاً ممتعاً للعديد من المدن.

بعد مغادرته للنجف الأشرف، سارت القافلة التي التحق بها تكسيرا صوب كربلاء ووصلتها في سبتمبر عام 1604. ووصف كربلاء بأنها "كانت تحتوي على أربعة آلاف بيت وسكانها خليط من العرب والإيرانيين والأتراك وكانت مهمة الأتراك الإشراف على المناطق المحيطة بكربلاء لكنهم انسحبوا في ذلك الوقت إلى بغداد بسبب الحرب مع الإيرانيين، كما غادر كربلاء الإيرانيون بسبب هذه الحرب أيضاً لأنهم لم يعودوا يشعرون بالطمأنينة والأمان".

كما اهتم تكسيرا بوصف النواحي العمرانية والاقتصادية، بقوله إن أسواق كربلاء "مبنية بناءً محكماً بالطابوق، ومليئة بالسلع والحاجيات التجارية، ومحال للحوم والفواكه والحبوب المتوفرة فيها، فضلاً عن السقاة الذين كانوا يسقون ماء السبيل طلباً للأجر، وهم يحملون القرب الجلدية، بأيديهم الكؤوس النحاسية الجميلة...".

من جهة أخرى، أبدى الرحالة البرتغالي إعجابه ببساتين المدينة حيث قال "المدينة تحيطها النخيل والأشجار الكثيرة التي تُسقى من الجداول المتفرعة من نهر الفرات الذي يبعد ثمانية فراسخ عن البلدة...".

في السياق نفسه، تحدث تكسيرا عن "لطف الهواء فيها -أي كربلاء- وأن الجو فيها أحسن منه في جميع الأماكن التي زارها" دون أن ينسى الإشارة لبعض المباني الدينية المقدسة في المدينة، فتطرق للحديث عن الروضة الحسينية، التي "يتوافد إليها المسلمون لزيارتها من جميع الأنحاء". كما أشار لـ"بئر العباس"، الذي "يفيض منه ماءً يتبرك منه الناس، اعتقاداً منهم ببركة العباس بن علي بن أبي طالب".

 

كارستن نيبور

في عام 1765، وصل الرحالة الألماني الشهير كارستن نيبور إلى كربلاء قادماً من مدينة الحلة،  ووصف الطريق للمدينة بأنه مليء بأشجار النخيل، مشيراً إلى دور السلاطين الصفويين في إحياء تلك النواحي وعمرانها.

بعدها، تطرق الرحالة الألماني لتاريخ كربلاء، فقال "لم تكن منطقة كربلاء مأهولة بعد عندما فقد الحسين والكثير من أقاربه وأصدقائه حياتهم هناك، غير أن تلك الموقعة سببت إعمار هذه المنطقة، حيث جُلب الماء من الفرات إلى هناك...".

كذلك، أسهب نيبور في وصف بعض مظاهر العمران بالمدينة، فأشار إلى السور العظيم الذي يحيط بها والأبواب الخمسة الموجودة فيه، كما تحدث عن "مذبح الحسين"، وهو المسجد الذي شُيد في المكان الذي شهد مقتل الحسين.

يروي موضحاً ما بذله من جهد لتقديم صورة جليّة عن ذلك المسجد: "وجدت أن محاولة وضع رسم تخطيطي لهذا الجامع أخطر عاقبة من سابقه في مشهد علي، ولم أتمكن من التجاسر بالدخول إلى صحنه حتى في وضح النهار، وقد قمت في هذه الأثناء بالذهاب إلى هناك ليلاً مرتدياً عمامة تركية برفقة زميلي في الرحلة، وحيث أن كافة الأطراف كانت مضاءة احتفالاً بالعيد، فقد رسمت بعد عودتي رسماً لها، كي أعطي للقارئ فكرة على الأقل عن طراز إنشاء هذا الجامع".

كما أشار نيبور إلى المنارات المحيطة بمرقد الحسين وإلى مساكن العلماء والدراويش التي تقع بالقرب من المشهد الحسيني. ولم يفته الحديث عن مرقد أبو الفضل العباس بن علي بن أبي طالب، وذكر القصة الشهيرة عن مقتل العباس أثناء محاولته الحصول على الماء لسقي العطشى في جيش الحسين.

وحكى عن تأثير تلك القصص في نفوس العراقيين، فذكر أنه لمّا أخبر صاحبة الدار التي كان يسكن فيها بخبر زيارته لمقام العباس "سرت كثيراً... فقد كان هذا الأخير وليّها المفضل. وقد تحدثت إلي والدموع تملأ عينيها عن أن هذا الشاب الشجاع كان على أهبة الزواج، أي أن القاضي كان قد عقد قرانه بحضور الشهود، حين استشهد بمعية الحسين والشهداء الآخرين، في النهار الذي سبق ليلة زفافه، وقد كانت هذه المرأة الطيبة القلب ملمة بكل كلمة تبادلها كلا المحبين بينهما، قبيل نشوب القتال" بحسب ما ورد في كتاباته.

من جهة أخرى، تحدث نيبور عن بعض أفراد الجيش الإنكشاري المطرودين من الخدمة العسكرية الذين اعتادوا أن يضيقوا الخناق على الزائرين القادمين من أرمينيا وإيران طمعاً في الحصول على بعض المال.

كذلك، تحدث عن الإقبال الشديد على شراء المسابح والتربة الحسينية التي يتم تجهيزها في بعض المصانع المملوكة لأحد السادة الأشراف من أحفاد الحسين بن علي. ووصف الرحالة الألماني الأشكال الفنية البديعة المرسومة على تلك المنتجات فقال "...جميع هذه الأشكال مرسومة بصورة بدائية وملونة دون اقتصاد في تذهيبها وطلائها بالفضي. ومنها الحصان (البراق) الذي اتخذ محمد طريقه إلى السماء عليه، والجمل المحمل بالستار الثمين الذي يُرسل كل سنة من القاهرة إلى مكة، والأسد ويُراد تمثيل علي به، وجواد علي الملون الشهير (دلدل)، وعبده الصادق (عنبر)، وسيفه الشهير (ذو الفقار)، والختم الذي كان على ظهر النبي محمد...".

 

جيمس بيلي فريزر

قام الرحالة الإسكتلندي جيمس بيلي فريزر برحلة واسعة في أنحاء الهند وتركيا وإيران والعراق في ثلاثينيات القرن التاسع عشر الميلادي.

في 1834، وصل فريزر إلى كربلاء وقدم وصفاً مقتضباً لأحوالها السياسية المضطربة، حيث أشار إلى ضعف السلطة العثمانية في المدينة، وقال إن "جميع العتبات التي لها قدسية خاصة تقريباً قد جُعلت ملاذاً لشر الناس في المجتمع... كما هو الحال في محلة الشيخ عبد القادر ببغداد نفسها، وقد حصل مثل هذا الوضع في النجف وكربلاء معاً، ولكن بمقياس أوسع وحالة أسوأ بكثير، إذ ازداد عدد المتردين المتجمعين هناك بحيث لم يعد من الممكن لحكام المنطقة ولا لسلطنة الباشا أن تسيطر عليهم".

شرح فريزر الجرائم التي ارتكبها هؤلاء بحق زوار الحسين، فقال إنهم "لا يفعلون ما يشاؤون فحسب، بل كانوا يطلبون من الزوار الذين يأتون لزيارة العتبات المقدسة الإذعان لأوحش الطلبات وأبعدها عن المألوف والمعقول، وفي حالة عدم الانصياع للطلبات، كانوا ينهبون أمتعتهم ويجردونهم حتى من ألبستهم، كما يسلبوهم زوجاتهم وبناتهم في بعض الأحيان...".

بشكل عام، يتفق وصف فريزر مع الأوصاف التي أوردها نيبور في رحلته، الأمر الذي يعكس الفوضى التي سادت في كربلاء لفترات طويلة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين.

 

جان مكر ديولافوا

في عام 1881، سافرت الأديبة الفرنسية جان مكر ديولافوا إلى إيران بصحبة زوجها المهندس الآثاري مارسيل ديولافوا.

وفي ديسمبر من ذات العام بعد فترة من التجوال، توجهت ديولافوا إلى كربلاء، وقدمت وصفاً مقتضباً للطريق الذي اتخذته للوصول للمدينة، فقالت "ولقد تغيرت المناظر منذ وطئت أقدامنا هذه الطرق فبدل تلك الصحراء القاحلة الكتيبة أخذت تطالعنا بساتين وحدائق مزدهرة يانعة مكتظة بأشجار الليمون وبالنخل والأزهار البديعة مختلفة الألوان".

عند وصولها لكربلاء، بدأت الأديبة الفرنسية في رصد مختلف الأنشطة الإنسانية التي لاحظتها. على سبيل المثال، تحدثت عن باب المدينة والساحة الواسعة الموجودة أمامه، وهي الساحة التي "كان يشغلها عدد من الحجارين المنهمكين في قطع وصقل الأحجار والصخور المستعملة في تشييد المقابر وما شابه ذلك. وكان قسم من هذه الصخور مصقولة ومهيأة للبيع والقسم الآخر في طريق إكمالها وعرضها على الطالبين..." على حدّ تعبيرها.

وأضافت أن الحجارين كانوا يستقبلون القوافل القادمة إلى كربلاء لدفن الموتى، فيعرضون عليهم الصخور المصقولة ليتم نصبها على القبور، ويقضون فترات طويلة للنقاش حول السعر حتى يصلوا إلى اتفاق في نهاية المطاف.

من جهة أخرى، أشارت ديولافوا للزائرين الفقراء الذين لم يمنعهم فقرهم من تلبية نداء حفيد الرسول محمد، كتبت: "...مررنا بجماعات كبيرة من الناس كانوا قد أقاموا معسكرات، ولقد علمنا أن هؤلاء كانوا من الزوار الذين وفدوا على المدينة المقدسة ولضعف حالتهم المادية لم يستطيعوا الإقامة في الخانات والمنازل التي في الداخل، لذلك اضطروا إلى الإقامة في الخارج على شكل معسكرات أو مضارب من الخيم. ورأيت كلاً من هؤلاء الزوار المساكين يقيم بجانب أثاثه الساذج وأمام دابته الواهنة وهو في حالة تعبّد وتهجّد، وفريق منهم منهمك في مضغ التمر الذي نواته أكبر من شحمه ومواده...".

استغرقت بعد ذلك في وصف الجهود التي قامت بها مع زوجها لزيارة مرقد الإمام الحسين، إذ  توجهت لمقابلة القنصل الإيراني في كربلاء، وعرضت عليه طلبها، فأخبرها بصعوبة تحقق هذا الطلب لأن زيارة المرقد ممنوعة على المسيحيين، ولكنه -أي القنصل- أرسل في طلب كليدار الحضرة الحسينية، وهو الخادم المُكلف بالإشراف على أمور المرقد الشريف.

لمّا قدم الكليدار قابل ديولافوا وزوجها "وشرح لهما عظمة وجلال المرقد المطهر الذي زاره شاه إيران مشياً على قدمه عندما كان في هذه المدينة. وفي الأخير قال إنه ينبغي لنا أن نكون في غاية الشكر والاعتراف لأنه لم يُسمح لقبلنا من الأجانب بزيارة الضريح الشريف وأن نعدّ هذه الزيارة فرصة ذهبية قيمة..." وفق قولها.

بعد نقاش طويل، تم السماح للزائرين الفرنسيين بمشاهدة قبر الحسين في الصباح الباكر من أعلى أحد المنازل القريبة منه، لكن لم يف الكليدار بوعده ولم يتسنّ لديولافوا أن تزور المرقد الحسيني.

في طريقها لمغادرة كربلاء، وصفت ديولافوا الفتيات اللاتي رأتهن في شوارع المدينة وللمكانة العلمية الكبيرة التي نالتها كربلاء، لدرجة أنها كانت "بمثابة جامعة كبيرة يؤمها الطلاب من مختلف أصقاع البلاد الاسلامية لتلقي علوم الدين ويقضون فيها لهذا الغرض أكثر سني حياتهم. ويعيش هؤلاء الطلاب جميعاً الصغير والكبير الشاب والهرم على التبرعات التي يتبرع بها الزوار ووجوه المسلمين الذين يعيشون خارج هذه المدينة...".

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".