الزعيم الكردي ملا مصطفى بارزاني مع مقاتلين أكراد في قرية بشمال العراق، في 28 فبراير 1963.
الزعيم الكردي ملا مصطفى بارزاني مع مقاتلين أكراد في قرية بشمال العراق، في 28 فبراير 1963.

يعيش الأكراد في جنوب شرقي تركيا وشمال شرقي سوريا وشمالي العراق وشمال غربي إيران، وجنوب غربي أرمينيا. وعلى مر السنين حاولوا تأسيس وطن قومي لهم، وخاضوا في سبيل تحقيق هذا الحلم العديد من المعارك.

في هذا المقال، نسلط الضوء على أهم الزعماء التاريخيين للأكراد الذين سعوا لإقامة دولة كردية، سواء من خلال الكفاح المسلّح أو عبر حلول سلمية، ونستعرض جوانب من حياتهم والعوامل التي أسهمت في صعودهم سياسياً.

 

في العراق

عرف أكراد العراق ظهور العديد من الشخصيات الهامة التي حاولت تأسيس وطن قومي للشعب الكردي، من بينها الشيخ محمود الحفيد البرزنجي.

ولد البرزنجي لأسرة كردية مشهورة في منطقة السليمانية، وبدأ حياته السياسية حليفاً للأتراك العثمانيين الذين أمدّوه بالسلاح ضد القوات الإنجليزية في الحرب العالمية الأولى، كما وضعوا تحت تصرفه الفوج العثماني من لواء السليمانية.

بعد هزيمة العثمانيين في الحرب، انضم البرزنجي إلى الإنجليز، وأعلن تسليم لواء السليمانية إلى القوات البريطانية، فقوبل هذا التصرف بتعيينه حاكماً للسليمانية.

بعد فترة من الهدوء، دخل البرزنجي في خصومة مع الإنجليز، لأنه أراد أن يوسع سلطاته في مناطق سكن الأكراد ما أدى لاشتعال الحرب بينه وبين الجيش الإنجليزي.

انتهت المعارك بالقبض على البرزنجي ومحاكمته، وصدر حكم الإعدام بحقّه،  ثم خُفف لاحقاً إلى السجن مدة عشر سنوات مع النفي إلى الهند.

في عام 1922 سمح الإنجليز بعودة البرزنجي إلى العراق مرة أخرى للتصدي للنفوذ التركي، حينذاك  أعلن البرزنجي نفسه ملكاً على كردستان، ودخل في معارك متعددة ضد الحكومة العراقية.

في مايو 1931، أُسدل الستار على ذلك الصراع الطويل بعد تمكّن القوات العراقية من الانتصار على قوات البرزنجي، فانتهت ثورته وسلم نفسه. ت

فرضت عليه الإقامة الجبرية في جنوب العراق. وفي عام 1941 تمكن من العودة للسليمانية وظل بها حتى توفي في 1956.

من القادة الآخرين ملا مصطفى البارزاني. ولد في مارس 1903 بمنطقة بارزان التابعة لمحافظة دهوك شمالي العراق.

في صغره، درس القرآن والحديث والعلوم الدينية في السليمانية وتأثر بالحركة الكردية التي قادها الشيخ البرزنجي. وفي بداية ثلاثينيات القرن الماضي، خاض مصطفى مع أخيه أحمد بعض المعارك ضد القوات العراقية والإنجليزية، واضطرّ في عام 1932 للسفر  إلى تركيا، ليعود بعدها بعامين على أثر عفو الدولة عنه.

يذكر فاضل البراك في كتابه "مصطفى البارزاني: الأسطورة والحقيقة" أنه كان على صلة قوية بكافة القيادات الكردية في العراق وخارجه ولذلك اختاره قاضي محمد ليكون وزير الدفاع في جمهورية مهاباد في إيران، وهي الجمهورية التي سرعان ما سقطت بعد شهور قليلة من تأسيسها.

في أغسطس 1946، أسس مصطفى البارزاني "الحزب الديمقراطي الكردستاني" واُنتخب رئيساً له. عقب الكثير من المصادمات بين الأكراد وبغداد شهد يوم 11 مارس 1970 عقد اتفاق الحكم الذاتي العراقي–الكردي بينه وبين نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين، وبموجبها اعترفت الحكومة العراقية بالحقوق القومية للشعب الكردي ومُنح الأكراد حكماً ذاتياً في محافظات كردستان الثلاث (أربيل والسليمانية ودهوك).

لم تلتزم بغداد ببنود الاتفاق، وفي 1975 عقدت "اتفاقية الجزائر" مع إيران، وتخلت طهران بموجبها عن دعم الأقلية الكردية في العراق. على أثر ذلك، خرج مصطفى البارزاني من العراق إلى إيران ثم سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية للعلاج من مرض السرطان ومكث فيها 4 سنوات حتى توفي في مارس 1979.

بشكل عام، ترك الزعيم الكردي أثراً كبيراً في وجدان قومه، واعتبر واحداً من أهم رموز القضية الكردية في العصر الحديث، حتى أُطلق عليه لقب "أبو القضية الكردية".

كذلك، اشتهر جلال الطالباني، الذي يُعدّ أول رئيس كردي للعراق. ولد جلال حسام الدين طالباني في 1933 بقرية كلكان التابعة لمحافظة السليمانية. درس المرحلة الابتدائية في كركوك والتحق بكلية الحقوق في بغداد في المرحلة الجامعية.

في نهاية الأربعينيات، التحق طالباني بصفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني، وفي الستينيات أصبح أحد قادة البيشمركة، كما شارك في المعارك التي دارت بين الأكراد وحكومة الرئيس العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم. وخلال الثمانينيات قاد الطالباني المعارضة الكردية ضد صدام حسين.

عقب خسارة الجيش العراقي في حرب الخليج الثانية، تهيأت الظروف لإقامة إقليم كردي شبه مستقل في كردستان العراق. وفي هذا السياق، وقع التقارب بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني، وأُدير الإقليم بقيادة مشتركة من الحزبين، لكن سرعان ما وقعت المواجهة المسلحة بينهما.

لم ينته الصراع بينهما حتى توقيع اتفاقية السلام بين البارزاني والطالباني في العاصمة الأميركية واشنطن عام 1998.

بعد الغزو الأميركي للعراق سنة 2003، سُمح للأكراد بدخول الساحة السياسية العراقية. وفي 2005م، انتخب البرلمان طالباني رئيساً للعراق بعد حصوله على غالبية الأصوات. وفي أكتوبر 2017، توفي الزعيم الكردي عن عمر ناهز 84 عاماً.

 

في إيران

عقب نهاية الحرب العالمية الأولى، ظهر الحلم بتأسيس دولة للأكراد في إيران. قاد الزعيم الكردي سمكو آغا حركة ثورية محاولاً أن يقيم إمارة كردية مستقلة في غربي إيران.

ولد سمكو آغا عام 1895، وفي شبابه قاد عشيرة الشكاك الكردية التي استوطنت مساحات واسعة في الأراضي الواقعة غربي بحيرة أرومية، وطالب بتأسيس دولة قومية للأكراد.

في سبيل تحقيق هذا الهدف، عقد العديد من الاجتماعات مع قيادات الأكراد في كل من إيران والعراق، ثم أعلن الثورة على الدولة القاجارية الحاكمة في إيران، ودخل في العديد من المعارك ضدها بين (1918- 1922).

وفي 1930 تمكنت السلطة القاجارية من القضاء على تمرد سمكو آغا بشكل كامل بعدما نجحت في استدراجه ثم قامت باغتياله.

تجدد حلم إقامة الدولة الكردية أثناء الحرب العالمية الثانية. ففي عام 1941، سيطرت القوات السوفيتية على شمالي إيران وسمح السوفييت للأكراد بإقامة نوع من أنواع الحكم الذاتي في الأراضي التي يشكلون أغلبية فيها.

على أثر ذلك تشكل حزب "جمعية إحياء كردستان" وقام زعماء الحزب بإدارة الأمور في مدنهم. وفي يناير 1946 تم الإعلان عن تأسيس جمهورية مهاباد الكردية، واختيار قاضي محمد زعيم الحزب رئيساً للجمهورية الوليدة. لم يطل عمر تلك الدولة، حيث انسحب السوفييت بعد شهور وتركوا الأكراد دون مساندة.

في ديسمبر 1946، دخلت القوات الإيرانية إلى مهاباد وسيطرت على جميع مدنها. كما قامت بحظر اللغة الكردية. وتم شنق قاضي محمد بتهمة الخيانة العظمى.

زعيم آخر كردي، هو عبد الرحمن قاسملو. وُلد عام 1930م في مدينة أورمية وتلقى فيها تعليمه الابتدائي والإعدادي، قبل أن يرحل إلى تركيا ليتابع دراساته في المرحلة الجامعية بإسطنبول.

يذكر الدكتور محمد علي الصويركي في كتابه "تراجم أعلام الكورد" أن قاسملو بدأ نشاطه السياسي في 1945، ولعب دوراً مهماً في تشكيل "اتحاد الشباب الديمقراطيين" في كردستان، الذي كان أحد مؤسسات الحزب الديمقراطي الكردستاني.

بعد فترة قصيرة أصبح قاسملو عضواً رسمياً في الحزب، واُنتخب سكرتيراً عاماً له، ثم ترقى فيه حتى وصل إلى منصب الأمين العام للحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي كان ينادي بالاستقلال الذاتي لمنطقة كردستان الشرقية.

بعد ذلك رحل قاسملو إلى أوروبا لدراسة علم السياسة والاقتصاد. فدرس في فرنسا، وتشيكوسلوفاكيا. ثم عمل بعدها على تدريس اللغة الكردية والتاريخ الكردي في بعض الجامعات الأوروبية.

في 1950، عاد إلى إيران وانتخب رئيساً للجنة المركزية في الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني. وعرف بمعارضته لسياسات الدولة الإيرانية الشاهنشاهية، فتعرض للحبس عدة مرات.

مع تزايد المعارضة ضد الحكم البهلوي، عاد قاسملو إلى كردستان في أواخر 1978، وقام برفقة 20 ألف مقاتل من قوات البيشمركة بحملة ضد جيش الشاه، واستولى أتباعه على السلاح من الجيش والشرطة في إيران خلال الاضطرابات التي عمت البلاد، وسيطرت البيشمركة على ثماني مدن وعشرين بلدة في كردستان الشرقية، وبذلك وضع الشعب الكردي حجر الأساس لدولته، وأسس فروعاً لحزبه في أنحاء البلاد.

بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، تم تهميش الدور الكردي إلى حد بعيد واضطر قاسملو للهجرة إلى أوروبا. وفي يوليو 1989 اغتيل في العاصمة النمساوية فيينا، ووجهت أصابع الاتهام للمخابرات الإيرانية.

مقاتل من حزب العمال الكردستاني- صورة أرشيفية
كيف أثّر حزب العمال الكردستاني تاريخياً على العلاقات العراقية التركية؟
خلال الشهر الماضي فقط، صنف العراق حزب العمال الكردستاني منظمة محظورة، لأول مرة منذ الصراع بين الحزب وتركيا. وخلال زيارته للعراق، صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بأنه يأمل رؤية "نتائج ملموسة" لهذا التصنيف، مضيفا أنه يتطلع إلى "المساعدة العراقية في هذه المعركة". ماذا نعرف عن حزب العمال الكردستاني؟ وكيف أثر تاريخيا على العلاقة بين بغداد وأنقرة؟
 

في تركيا

من أبرز زعماء الكرد في تركيا، كان الشيخ سعيد بيران، الذي ولد عام 1865. درس في صغره العلوم الدينية كما اعتنق التصوف على الطريقة النقشبندية، وحظي بمكانة معتبرة بين الأكراد في منطقة الأناضول وشمال سوريا.

وضح الدور القومي للشيخ سعيد في عشرينيات القرن العشرين، حيث انتهج مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة نهجاً متشدداً ضد الأقلية الكردية، واتبع سياسة التتريك في المناطق التي يقطنها الأكراد.

في فبراير 1925، اجتمع ممثلون عن أكراد تركيا وسوريا في مدينة حلب. واتفقوا على الوقوف ضد سياسة تركيا الكمالية، كما توافق المجتمعون على انتخاب الشيخ سعيد قائداً عاماً لهم. في مارس من العام ذاته، بدأت الثورة الكردية -تحديداً يوم عيد النوروز-  في مناطق عديدة من جنوب شرق تركيا.

في بداية الأمر، حقق الثوار الأكراد بعض الانتصارات، وتمكنوا من فرض الحصار على مدينة ديار بكر. وفي أبريل هُزموا أمام الجيش التركي، كما أُسر الشيخ سعيد بيران مع عدد من أتباعه.

في يونيو من السنة نفسها، حوكم الشيخ سعيد أمام محكمة تركية بتهمة الخيانة. وصدر بحقه حكم بالإعدام، ونُفذ في آخر شهر يونيو ضمن ساحة المسجد الكبير في ديار بكر.

مثال آخر، هو عدد من القادة الأكراد من عائلة بدرخان. وتُنسب إلى عميدها الأمير بدرخان باشا حاكم جزيرة بوتان جنوبي شرق الأناضول.

تولى الأمير بدرخان الحكم في سنة 1812 وتمكن من توحيد القبائل الكردية تحت رايته، ومدّ سلطته حتى وصلت حدود دولته إلى أطراف الموصل جنوباً، وسننداج شرقاً، وديار بكر وسيفورك غرباً.

في عام 1847، تمكن العثمانيون من اجتياح دولة بدرخان باشا وأسروا الأمير ثم نقلوه إلى إسطنبول، ومنها إلى جزيرة كريت، قبل أن يُسمح له بالعودة إلى دمشق ليقضي فيها السنوات الأخيرة من حياته، حيث توفى عام 1869.

لم ينته تأثير الأسرة البدرخانية بوفاة بدرخان باشا، إذ تمكن أبناؤه وأحفاده من إذكاء الروح القومية لدى الأكراد بطرق متعددة. على سبيل المثال، قام عبد الرزاق بدرخان في 1913 بتأسيس أول جمعية ثقافية كردية باسم "كيهاندن" في مدينة خوي في إيران، كما قاد الانتفاضة الكردية لسنوات بدعم من روسيا حتى قُبض عليه وتم إعدامه من قِبل الأتراك في نهاية المطاف.

كذلك، قام جلادت بدرخان بتأليف الأبجدية الكردية اللاتينية، فيما أصدرت زوجته، روشن بدرخان مجلة هاوار من سوريا عام 1932، وعملت من خلالها على نشر الأبجدية الكردية في جميع أنحاء كردستان.

أيضاً كان منهم الأمير مقداد مدحت بدرخان، الذي أصدر صحيفة "كردستان" من القاهرة في عام 1898 وعمل من خلالها على تسليط الضوء على القضية الكردية.

ويُعدّ عبد الله أوجلان من أشهر الشخصيات التي ارتبط اسمها بالقضية الكردية في العصر الحديث. ولد في 1948 في محافظة أورفة التركية. وفي بداية السبعينيات التحق بكلية الحقوق في جامعة إسطنبول ثم تحول لدراسة العلوم السياسية بجامعة أنقرة.

في عام 1978، أسس أوجلان حزب العمال الكردستاني بهدف تأسيس دولة كردية على أجزاء من إيران وتركيا والعراق وسوريا، لكنه اضطر عام 1980 للرحيل إلى سوريا، وهناك أقام معسكرات لتدريب أعضاء حزبه. بعدها بأربع سنوات قام الحزب بعمليات عسكرية مختلفة في كل من إيران والعراق وتركيا.

في 1998، طالبت سوريا أوجلان بمغادرة أراضيها بعد أن تعرضت دمشق لضغوط من قِبل أنقرة.

إثر ذلك، تنقل بين روسيا وإيطاليا وكينيا. وفي فبراير 1999 قُبض عليه في كينيا وتم تسليمه للسلطات التركية ليُحاكم بتهمة الإرهاب، فصدر بحقه حكم بالإعدام تحوّل لاحقاً إلى السجن مدى الحياة، وما زال فيه حتى اليوم.

خلال مسيرته، دخل حزب العمال الكردستاني، الذي أسسه أوجلان، في مواجهات دامية مع القوات التركية، نفذ أعضاؤه هجمات داخل الأراضي التركية وخارجه، ما وضعه في قائمة الإرهاب في أكثر من دولة، وعلى رأسها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".