تعود تسمية الأسرة البدرخانية إلى الأمير بدرخان بن عبد الله خان الذي حكم إمارة بوتان
تعود تسمية الأسرة البدرخانية إلى الأمير بدرخان بن عبد الله خان الذي حكم إمارة بوتان

يعيش الأكراد في جنوب شرقي تركيا، وشمال شرقي سوريا، وشمالي العراق، وشمال غربي إيران، وجنوب غربي أرمينيا.

على مر السنين، حاول الأكراد تأسيس وطن قومي لهم وخاضوا في سبيل تحقيق هذا الحلم العديد من المعارك.

نسلط الضوء في هذا المقال على الأسرة البدرخانية، وهي واحدة من أهم الأسر الكردية التي سعت لإقامة دولة كردية، سواء بالسلاح أو بالحل السلمي.

 

الأمير بدرخان

تعود تسمية الأسرة البدرخانية إلى الأمير بدرخان بن عبد الله خان الذي حكم إمارة بوتان -الواقعة في جنوبي شرق الأناضول- في الفترة الممتدة بين سنتي 1821- 1847. تذكر الباحثة المصرية فائزة محمد حسن ملوك في دراستها "سياسة الدولة العثمانية تجاه الإمارات الكردية في كردستان 1514-1851" أن الأمير بدرخان عمل على وضع الخطط لتنظيم انتفاضة كردية تجاه الدولة العثمانية.

في هذا السياق، بادر بدرخان بالاتصال بزعماء الأكراد لتكوين تحالف كردى ضد السلطات العثمانية، ومن أهم هؤلاء الزعماء مصطفي بك، ودرويش بك وخان محمود (حكام مناطق وان) ونور الله بك (أمير هكاري) وفتاح بك (أحد أمراء هكاري) وخالد بك (أمير خيزان) وشريف بك (أمير بدليس) وكور حسين بك (زعيم العشائر الكردية في منطقة قارص). عُرف هذا التحالف بالحلف المقدس، وتولى الأمير بدرخان قيادته.

وفي أربعينيات القرن التاسع عشر أعلن الأكراد ثورتهم، وبدأوا يفرضون سلطانهم على مساحات واسعة من الأراضي التي تعيش فيها أغلبية كردية، وصلت حدود إمارة بوتان إلى أطراف الموصل جنوباً، وسننداج شرقاً، وديار بكر وسيفورك غرباً. في تلك الأثناء، وقعت بعض الاعتداءات الكردية على الأقليات المسيحية النسطورية في العراق، وتسبب ذلك في تأييد الدول الأوروبية السلطات العثمانية في محاولتها القضاء على الثورة الكردية.

بعد فترة من المواجهة العسكرية، قامت السلطات العثمانية بتقديم الهدايا لبعض زعماء الأكراد ليتخلوا عن دعم بدرخان، ونجحت تلك الخطة في تقليص قوة بدرخان، وعزله عن العديد من القادة الأقوياء، الأمر الذي أضعف الثورة.

وفي سنة 1847، نجحت الدولة العثمانية في حصار بدرخان، فاضطر إلى التسليم مع جميع أفراد اسرته، وأرسل بهم جميعاً إلى إسطنبول، حيث تم نفيه مع عائلته إلى جزيرة كريت في البحر المتوسط، وبقى بها لمدة خمسة عشر عاماً ثم سمح له السلطان العثماني بالذهاب إلى الشام حيث مات بدمشق في سنة 1869، بعد أن نال لقب الباشوية.

 

مقداد مدحت بدرخان

ولد مقداد مدحت بدرخان في مدينة كانديا بجزيرة كريت في سنة 1858، وفي شبابه، انتقل إلى إسطنبول لمتابعة دراسته، وعُرف بإتقانه التركية والعربية والفارسية، إلى جانب لغته الأم الكردية.

بعد نفي الأسرة البدرخانية، سافر مقداد وشقيقه عبد الرحمن إلى مصر- والتي عُرفت في تلك الفترة باستقلالها عن السلطنة العثمانية بسبب سياسات الخديوي عباس حلمي الثاني-. في تلك المرحلة، قام الشقيقان بإصدار صحيفة "كردستان". ونُشرت أول أعدادها من دار الهلال في القاهرة سنة 1898.

كتب مقداد مقالات الصحيفة باللهجة الكرمانجية، المُستخدمة على نطاق واسع في تركيا وسوريا وأجزاء من العراق وإيران، كما كتب أيضاً باللهجة السورانية المُستخدمة من قِبل بعض الأكراد في إيران والعراق. 

سلطت الصحيفة الضوء على معاناة الأكراد، وكان القائمون عليها يعملون على توزيعها -بشكل مجاني- في مختلف أنحاء كردستان عبر دمشق وبيروت. لم يمر وقت طويل على إصدار الصحيفة حتى تعرض القائمون عليها للملاحقة من قِبل السلطات العثمانية، وتسبب ذلك في تغيير مقر الصحيفة ما بين مصر وبريطانيا وسويسرا.

مدونات إرفع صوتك
الأكراد الفيليون ومشروع استقلال كردستان العراق
لا تقتصر الاعتراضات على مشروع استقلال إقليم كردستان العراق على الجهات الدوليّة والقوى الإقليميّة وحتّى موقف بغداد نفسه، إذ أنّ هناك أكراداً تابعين للمذهب الشيعيّ ومعروفين بالأكراد الفيليّين معارضون أساسيّون لانفصال الإقليم عن العراق.

في سنة 1906، اُعتقل مقداد مدحت بدرخان أثناء وجوده في إسطنبول، وصدر قرار بنفيه إلى مدينة طرابلس الليبية، وبعد 4 سنوات، عاد مقداد إلى تركيا، وتابع أنشطته الثقافية والسياسية الداعية لنهضة الأمة الكردية إلى أن تُوفي سنة 1915.

 

جلادت بدرخان

يُعدّ جلادت أمين بدرخان أحد أبرز اعلام عائلة بدرخان. ولد جلادت في إسطنبول، وتعلم فيها إلى أن انتسب إلى الكلية الحربية، وتخرج ضابطاً بالجيش العثماني.

بعد الحرب العالمية الأولى، تم إيفاد جلادت من قِبل "جمعية تعالي الكردية" لكردستان لإعداد قوة عسكرية مسلحة، بهدف تحرير المناطق التي يسكن فيها الأكراد.

في تلك الأثناء، قابل جلادت المبعوث الإنجليزي ميجر نونيل الذي زار كردستان للوقوف على تطلعات ومطالب الشعب الكردي، وقد تسبب هذا اللقاء في تغيير مسار جلادت، لأنه أختار أن يتخلى عن الحل العسكري، وآمن بأهمية جمع التراث الكردي الشفهي، بهدف نشر الثقافة الكردية في كل مكان.

في سنة 1922، صدرت أوامر مصطفى كمال أتاتورك بنفي بعض زعماء الأكراد خارج حدود تركيا، وقد كان جلادت واحداً من هؤلاء الزعماء، واضطر عندها إلى السفر لألمانيا ليتابع دراسته بالحقوق في جامعة لايبزغ.

 وبعد تخرجه سافر إلى مصر ثم لبنان ثم سوريا، وذلك بحسب ما يذكر محمد فتحي عبد العال في كتابه "قطوف من الحضارات".

 في سوريا، قدم جلادت خدمة عظيمة للأمة الكردية، وذلك عندما نشر أبجدية كردية تتألف من 31 حرفاً.

نشر جلادت هذه الأبجدية في الأعداد الستة الأولى من مجلة (هوار)،وهي المجلة التي أصدر جلادت عددها الأول في 1932، ثم ألحق بها مُلحقا مُصورا باسم (روناهي) في إبريل 1942.

في سنة 1951، توفي جلادت بدرخان، ودُفن في دمشق بعد أن ترك العديد من المؤلفات اللغوية والصحافية.

 

كاميران بدرخان

ولد كاميران بدرخان سنة 1895، في إسطنبول، ودرس الحقوق في المرحلة الجامعية، وامتهن المحاماة. بعدها انتسب إلى "جمعية تعالي الكردية"، ورافق شقيقه جلادت في رحلته في كردستان، وفي تلك الفترة، صاحب المبعوث البريطاني ميجر نويل في رحلاته عبر العراق.

بعد صدور قرار نفيه، تنقل كاميران بين سوريا ولبنان. وفي سنة 1943، أصدر صحيفتي "اليوم الجديد"، و"النجمة"، وفي سنة 1947، رحل كاميران إلى فرنسا، واستقر في باريس، وأصبح أستاذاً في جامعة باريس، قسم اللغات الشرقية، واختص فيها بتدريس اللغة الكردية، وفي العاصمة الفرنسية أسس كاميران مركز الدراسات الكردية، وفي سنة 1948، سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وقدم مذكرة باسم الشعب الكردي للسكرتير العام للأمم المتحدة بشأن القضية الكردية.

بشكل عام، ألف كاميران العديد من الكتب التي تناولت القضية الكردية، كما اشتهرت ترجماته لتفسير القرآن باللغة الكردية، والتي نشرها في شكل حلقات متتابعة على صفحات مجلة هاوار.

 سنة 1978، توفي كاميران بدرخان في باريس عن عمر ناهز 83 عاماً.

 

عبد الرزاق بدرخان

ولد عبد الرزاق بن نجيب بن بدرخان باشا في إسطنبول سنة 1864، وعمل في شبابه عدة سنوات موظفاً في وزارة الخارجية العثمانية ثم عُين في بداية التسعينات سكرتيراً في السفارة العثمانية في بطرسبورغ، وهناك تعلم الروسية وأصبح مقرباً من الحكومة الروسية.

بحسب ما يذكر عبد الفتاح علي يحيى في دراسته "عبد الرزاق بدرخان البوتاني... نشاطه الثقافي والسياسي" فإن السلطات العثمانية تخوفت من العلاقات الوطيدة التي انعقدت بين عبد الرزاق وعدوتها التقليدية روسيا، فنقلته بعد سنة واحدة إلى طهران ليكون سكرتيراً في السفارة العثمانية، في تلك الأثناء، فكر عبد الرزاق في الهرب، وتمكن من ذلك بمساعدة موظفي السفارة الروسية فهرب سنة 1893 إلى روسيا، ثم غادرها إلى إنجلترا، ولكنه اضطر للعودة إلى إسطنبول مرة أخرى بعد أن مارست السلطات العثمانية ضغوطاً قوية ضد أسرته. سنة 1906، قُبض على عبد الرزاق مع مجموعة أخرى من أفراد الأسرة البدرخانية، وتم نفيهم إلى طرابلس الليبية، وظل في المنفى حتى سنة 1910.

بعد الإفراج عنه سافر إلى روسيا واتفق مع القيصر على تشكيل جيش كردي يساعد الروس في حربهم ضد العثمانيين، وفي هذا السياق، نشر عبد الرزاق العديد من البيانات للأكراد، والتي أكد فيها أن الحرب الروسية العثمانية ليست حرباً دينية، وأن العثمانيين لا يهتمون بالشأن الكردي، ولذلك فمن الافضل أن يبحث الاكراد عن مصلحتهم مع الروس بهدف تأسيس وطن قومي لهم.

ومع تطور احداث الحرب، وقع الخلاف بين عبد الرزاق والروس بسبب اكتشافه أطماعهم في السيطرة على منطقة كردستان.  وفي سنة 1918، اُسدل الستار على قصة عبد الرزاق بدرخان عندما تمكنت المخابرات العثمانية من إلقاء القبض عليه، ليتم تسليمه أسيرا إلى علي إحسان باشا قائد الجيش العثماني الفيلق السادس في جبهة العراق، ليُعدم عبد الرزاق في مدينة الموصل.

 

روشن بدرخان

طوال عقود، برزت العديد من نساء أسرة بدرخان، بحيث عملن في خدمة القضية الكردية بأكثر من طريقة، في هذا السياق، اشتهر اسم روشن بدرخان باعتبارها واحدةً من أهم المناضلات الكرديات.

ولدت روشن بدرخان في سنة 1909، في مدينة قيصرية أثناء فترة نفي أسرتها، وفي عمر السنتين، انتقلت روشن مع أسرتها لإسطنبول، قبل أن يتم نفي الأسرة مرة أخرى إلى سوريا.

في دمشق، استقرت عائلة روشن بدرخان هناك، وتعلمت الفتاة الصغيرة العربية والفرنسية، كما التحقت بدار المعلمات، وتحصلت على شهادة الدبلوم في تعليم اللغة العربية.

في سنة 1935، تزوجت روشن من قريبها جلادت بدرخان، وفي تلك المرحلة ظهر الدور التنويري لروشن.

يذكر الباحثان إسلام عبد الله يونس وعلي صالح حمدان في دراستهما "روشن بدرخان: دراسة في حياتها ودورها الثقافي" أن الاميرة الكردية أدت دوراً تنويرياً واضحاً في الصحف والمجلات العربية بعد تخرجها من دار المعلمات، وذلك عندما كتبت في الصحافة الفلسطينية حول مشكلات المرأة في جريدة "مرآة الشرق"، كما نشرت مقالات ومواضيع اجتماعية وسياسية مهمة في مجلة "منيرفا" اللبنانية.

في السياق التثقيفي نفسه، عملت روشن بدرخان معلمةً للغة العربية في إحدى المدارس الفرنسية بريف دمشق، كما باشرت التدريس في عدد من المدارس الحكومية السورية، ومنها مدرسة خولة بنت الأزور، ومدرسة ليلى الأخيلية.

وفي سنة 1934، ساهمت روشن في تأسيس جمعية خريجات دور المعلمات، وبعد 10 سنوات شاركت في المؤتمر النسائي العالمي الذي عُقد في القاهرة.

من جهة أخرى، عُرفت روشن بترجمتها العديد من الأعمال الأدبية التركية إلى اللغة العربية، ومنها كتاب "مذكرات امرأة" لكوزيدا صبري، و"مذكرات معلمة" لرشاد نوري، وقصيدة "رسالة للشعب الكردي" من تأليف عبد الله سليمان كوران. كما ألفت روشن بعض الكتب المهمة، ومنها "جلادت بدرخان كما عرفته"، و"صفحات من الأدب الكردي".

في سنة 1992، توفيت روشن بدرخان عن عمر ناهز 83 عاماً. ودُفنت - بناء على وصيتها- في دمشق بالقرب من مدفن جدها بدرخان وزوجها جلادت بدرخان.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".