تعود شخصية علي الزيبق التاريخية إلى العهد العباسي.
تعود شخصية علي الزيبق التاريخية إلى العهد العباسي.

عرفت الثقافة العربية الإسلامية مصطلحي الشطّار والعيارين منذ فترة مبكرة. وبحسب ما ورد في "القاموس المحيط" لمجد الدين الفيروز آبادي، فإن العيّار هو النشيط، الكثير الحركة. أما الشطّار، فهو جمع شاطر، أي الشخص الذي "أعيا أهله ومؤدبه خبثاً ومكراً"، وفق ما يذكر مرتضى الزبيدي في كتابه "تاج العروس".

اهتمت الكثير من القصص الشعبية الإسلامية بذكر قصص الشطّار، واعتبرتهم رموزاً للمقاومة ضد الظلم والاستبداد.

في هذا السياق، انتشرت السيرة الشعبية لعلي الزيبق في المجتمع المصري عبر القرون، وحملت الكثير من المضامين والقيم التي عبّرت عن رغبات الطبقات الشعبية المهمشة.

 

الشطّار والعيارون

تذكر المصادر التاريخية أن الشطّار والعيارين كانوا امتداداً لطبقة الصعاليك التي عرفتها القبائل العربية قبل الإسلام.

كان هؤلاء الصعاليك من "الفقراء والخلعاء والعزباء الذين خرجوا عن النظام القبلي" وكانوا يتبعون القوافل التجارية الضخمة، ويستولون عليها، ويوزعون أسلابها فيما بينهم، وذلك بحسب ما يذكر الباحث محمد رجب النجار في كتابه "الشطّار والعيّارون: حكايات في التراث العربي".

وعلى الأرجح، فقد ظهرت طبقة العيارين للمرة الأولى في التاريخ الإسلامي في العاصمة العباسية بغداد إبان الحرب الأهلية التي اندلعت بين الأخوين محمد الأمين وعبد الله المأمون في بدايات القرن الثالث الهجري.

ويذكر المسعودي في كتابه "مروج الذهب" الدور المهم الذي لعبته تلك الطبقة في الحرب، فيقول إن الخليفة محمد الأمين لمّا هُزم أمام أخيه، استعان بالكثير من الأوباش والشطّار واللصوص والعامة، فأخرجهم من السجون، وتم تنظيمهم بطريقة معينة، فقد كان كل عشرة منهم تحت قيادة عريف، ووضع كل عشرة عرفاء تحت قيادة نقيب، وانتظم كل عشرة نقباء تحت قيادة قائد. أما الأمير فكان يشرف على عشرة من القادة.

وبحسب ما يذكره المسعودي، فإن عدد شطار بغداد وصل إلى ما يقرب من 100 ألف جندي، وكان أهم قائد لهم يُدعى حاتم بن الصقر، وهو شخص شبه مجهول، لا تقدم المصادر التاريخية أي معلومات عن تفاصيل حياته، ولا نعرف شيئاً عن مصيره بعد انتهاء الحرب.

في ثلاثينيات القرن الثالث الهجري، لعب العيارون دوراً مهماً على الساحة السياسية مرة أخرى، واعترض الكثير منهم على أوامر الخليفة الواثق بالله في مسألة الإجبار على القول بخلق القرآن، ويبدو أن الكثير منهم أظهر تأييده للفقيه أحمد بن نصر الخزاعي الذي جاهر برفض ذلك القول.

تم القضاء على تلك الحركة المعارضة في مهدها عندما أقدم الخليفة الواثق على قتل الخزاعي وبطش بمن أيده من جماعة العيارين والشطّار.

 

شخصيات تاريخية

على الرغم من أن قصة علي الزيبق هي قصة شعبية فلكلورية إلا أن الكثير من أبطالها كان لهم وجود تاريخي حقيقي لا يمكن التشكيك فيه، فعلى سبيل المثال، ورد اسم الزيبق بشكل صريح في كتاب "الكامل في التاريخ" لابن الأثير.

ورد في الكتاب في أحداث سنة 444- للهجرة "...وفيها حدثت فتنة بين السنة والشيعة ببغداد وامتنع الضبط وانتشر العيارون، وتسلطوا وجابوا الأسواق وأخذوا ما كان يأخذه أرباب الأعمال، وكان في مقدمتهم الطقطقي والزيبق وأعاد الشيعة الأذان بحي (على خير العمل)، وكتبوا على مساجدهم‏:‏ محمد وعلي خير البشر وجرى القتال بينهم وعظم الشر‏".

الإشارة إلى الزيبق وردت بشكل مبطن في كتابات تاريخية أخرى، فيذكر ابن تغري بردي في كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" في أحداث تلك السنة "عادت الفتنة بين أهل السّنّة والرافضة ببغداد، وكتب أهل الكرخ على برج الباب: "محمد وعلي خير البشر، فمن رضى فقد شكر، ومن أبى فقد كفر". وثارت الفتنة بينهم، ولم يقدر على منعهم الخليفة ولا السلطان. واستنجد الخليفة بعيّار من أهل درب ريحان، فأحضر إلى الديوان واستتيب عن الحرام، وسلّط على أهل الكرخ، فقتل منهم جماعة كثيرة...".

الزيبق لم يكن الوحيد الذي ورد اسمه في المدونات التاريخية الإسلامية، لنجد أيضاً أن بعض الكتابات التاريخية قد تحدثت عن "دليلة المحتالة". يتحدث المسعودي في كتابه "مروج الذهب" عن واحد من كبار المحتالين العراقيين في زمن الخليفة المتوكل على الله فيقارنه بدليلة المحتالة، ويقول: "هذا الشيخ قد برز في مكايده، وما أورده من حيلة على دليلة المحتالة وغيرها من سائر المكارين والمحتالين ممن سلف وخلف منهم...".

وبالطريقة نفسها، ورد اسم أحمد الدنف في كتاب "بدائع الزهور في وقائع الدهور" لابن إياس الحنفي. يقول ابن إياس في وقائع سنة 891 للهجرة "في شهر ذي القعدة سنة 891 للهجرة، رسم سلطان العصر الملك الأشرف قايتباي أبو النصر المعروف بالمحمودي الظاهري بتوسيط شخص من كبار المفسدين يُقال له أحمد الدنف، وله حكايات في فن السرقة يطول شرحها...".

 

القصة الشعبية

على الرغم من وقوع قصة الزيبق ورفاقه في العراق، إلا أن أحداثها اشتهرت في مصر عبر القرون، وبطبيعة الحال لا نعرف شخصية المؤلف الأول لتلك السيرة، وأغلب الظن أنها -كحال باقي السيّر الشعبية- قد أُلفت على مدار سنوات طويلة، وأن العشرات من المؤلفين والشعراء شاركوا في وضع قصصها المثيرة.

تعود أقدم النسخ المعروفة لسيرة علي الزيبق إلى سنة 1880، وهي من تأليف الحافظ أحمد بن عبد الله المصري. كما وردت حكايات الزيبق في الكثير من قصص "ألف ليلة وليلة".

وقد قام مؤلفو سيرة علي الزيبق باستحضار جميع الشخصيات التاريخية التي تحدثنا عنها سابقًا -علي الزيبق، وأحمد الدنف، ودليلة المحتالة، وغيرهم- ولكنهم أعادوا صياغة ملامح تلك الشخصيات لتتماشى مع الهدف الأهم للسيرة الشعبية، والذي يتمثل بالأساس في الانتصار للمظلوم والانتقام من الظالم.

اختار الوجدان الشعبي المصري أن يستعيد ذكرى الزيبق التي ترجع إلى القرن الخامس الهجري، وأعاد إحياءها في العصر العثماني، وأضفى عليها طابعاً مميزاً من الخيال والفكاهة.

تم تصوير الزيبق على أنه أحد العيارين الشطّار، الذين يسرقون من قادة الجند العثماني الظالمين، ليعيدوا الحق إلى الفقراء. ومثلها مثل باقي السيّر الشعبية، تم تصوير صراع الزيبق والكلبي، باعتباره امتداداً لصراع أقدم، إذ تحدثت السيرة الشعبية عن حسن راس الغول، والد علي الزيبق، الذي يواجه الكلبي الظالم، ويُلحق به الهزيمة مراراً وتكراراً، إلى أن يقتله الكلبي، فتفر أرملته فاطمة الفيومية من مكان إلى أخر، بعيداً عن عيون العثمانيين المترصدة، وتهتم بتعليم ابنها فنون القتال والمبارزة والشجاعة، وتخفي عنه حقيقته، إلى أن توقعه الأقدار فيما بعد في مواجهة الكلبي، وتبدأ رحلة البحث عن الثأر القديم.

تغيرت أسماء أبطال السيرة لتأخذ دلالات مهمة معبرة عن أهداف مؤلفيها، فعلى سبيل المثال، عُرف سنقر الأشقر باسم سنقر الكلبي، في إشارة لوفائه وإخلاصه إلى الظاهر بيبرس وأبنائه، أما فاطمة الفيومية فقد سُميت بفاطمة اللبؤة -أنثى الأسد- وتماشى ذلك مع دورها في السيرة، فهي التي تحمي وليدها وتشفق عليه أحياناً، وهي التي ترفع سيفها وتنقذ ابنها في المواقف الصعبة التي يجد نفسه عالقاً في شباكها في أحيان أخرى.

من الملاحظات المهمة التي تظهر عند استقراء سيرة علي الزيبق أنها تتماشى مع الخط السردي المعروف في القصص الشعبية القديمة، ومنها ما جاء في إحدى حكايات سيرة الزيبق أنه قد رافق جماعة من التجار في إحدى الرحلات، وسافروا لمدة طويلة "...إلى أن أقبلوا على مغارة فيها غابة، وفي تلك الغابة سَبْعٌ كاسِر، وكلما تمر قافلة يعملون القرعة بينهم، فكلُّ مَن خرجت عليه القرعة يرمونه إلى السبع، فعملوا القرعة فلم تخرج إلا على شاه بندر التجار، وإذا بالسبع قطع عليهم الطريق ينتظر الذي يأخذه من القافلة، فصار شاه بندر التجار في كرب شديد، وقال للمقدم: الله يخيب كعبك وسفرتك، ولكن وصيتك بعد موتي أن تعطي أولادي حمولي، فقال الشاطر علي: ما سبب هذه الحكاية؟ فأخبروه بالقصة، فقال: ولأي شيء تهربون من قطِّ البر؟ فأنا ألتزم لكم بقتله، وراح المقدم إلى التاجر وأخبره فقال: إن قتله أعطيته ألف دينار، وقال بقية التجار: ونحن كذلك نعطيه، فقام علي وخلع المشلح، فبان عليه عدة من فولاذ، فأخذ شريط فولاذ وفرك لولبه، وانفرد قدام السبع وصرخ عليه، فهجم عليه السبع فضربه علي المصري بالسيف بين عينيه فقسمه نصفين...".

رسم لحسن الصباح.. شخصية أثارت جدلا واسعا
بعيدا عن الأساطير والقصص الدرامية.. ماذا يقول التاريخ عن "الحشاشين"؟
لم يكن مسلسل "الحشاشين" التاريخي الذي يعرض ضمن الموسم الرمضاني، أول الأعمال الدرامية والفنية التي تسلط الضوء على هذه الجماعة الإسلامية من القرون الوسطى، إذ لطالما ألهمت قصص طائفة "الحشاشين" الروائيين والكتاب والمخرجين، بل وحتى منتجي الألعاب الإلكترونية.

تتشابه تلك الحكاية بشكل واضح مع العديد من القصص الشعبية الأسطورية التي راجت في البلدان العربية في العصور الوسط، فمنها كذلك قصة اشتهرت في مصر، هي قصة البطل مارجرجس الذي قتل التنين العظيم، فيما شاعت في العراق بعض القصص الفلكلورية التي أبرزت شجاعة الإمام علي بن أبي طالب وانتصاره على الأسود القوية. ما يعني أن السيّر الشعبية كانت تسير على المنهج ذاته، كما أنها كانت تستخدم الحبكات الدرامية نفسها  المُتعارف عليها في منطقة الشرق الأدنى القديم.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".