نصب تذكاري لمؤسس تركيا مصطفى كمال أتاتورك الذي حارب بضراوة أي حراك كردي للاستقلال- تعبيرية
نصب تذكاري لمؤسس تركيا مصطفى كمال أتاتورك الذي حارب بضراوة أي حراك كردي للاستقلال- تعبيرية

في مثل هذه الأيام أُعدم الشيخ سعيد بيران الذي قاد أول ثورة كردية ضد حُكم الرئيس التركي مصطفى كمال أتاتورك.

رغم فشل حركة بيران في تحقيق أهدافها إلا أنها مثّلت سابقة في تاريخ علاقة الدولة التركية في ثوبها العلماني الجديد وبين الأقلية الكردية التي طمحت دائماً للاستقلال عنها.

 

عوامل الظهور

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى شعر الأكراد بالإحباط بسبب تراجع الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك وغيره من قادة الدول الكبرى عن وعودهم بالموافقة على إقامة دولة كردستان المستقلة.

بالمخالفة لمبادئ الرئيس الأميركي وودرو ويلسون الشهيرة التي أصدرها مطلع 1918 ووعدت الشعوب في البلاد المحتلة بالحق في "تقرير المصير"، لم تستجب القوى المنتصرة في الحرب العالمية لرغبة الأكراد المُلحة في إقامة دولتهم المستقلة، واكتفت بمادة فضفاضة الصياغة في معاهدة "سيفر" وعدت بإقامة منطقة كردية تتمتع بحُكم ذاتي دون أن تحدّد كيفية تشكيلها ولا مناطق نفوذها.

بعدها بثلاثة أعوام سيخسر الأكراد هذا الحق إثر توقيع معادة "لوزان" بين تركيا وقوى الحلفاء، التي لم تنصُّ على أي حقٍّ للأكراد في إقامة دولتهم المستقلة.

على أنقاض دولة الخلافة بنَى أتاتورك الدولة التركية الحديثة على أساس الهوية التركية التي عبّر عن مدى غرامه بها بتصريحه الشهير "سعيد من يقول إنه تركي"، بديلاً للدولة العثمانية الجامعة لمختلف الأعراق والشعوب، فقد أسّس أتاتورك بُنيان دولته على القومية التركية التي أصرّ على فرضها على جميع قاطني حدود دولته بما فيهم الأكراد، ورفض بشدة السماح لهم بأي شكلٍ لحُكم منفصل.

استجابةً لهذه السياسات الجديدة أطلق المسؤولون الأتراك على الأكراد اسم "أتراك الجبل"، ونصَّت المادة (88) من الدستور التركي على "تركية" جميع سكان البلاد "بغض النظر عن دياناتهم وقومياتهم"، الأمر الذي دفع إحدى الصحف المحلية للتصريح وقتها بأنه "يجب على غير الأتراك إما أن يندمجوا في المجتمع التركي أو يرحلوا".

من جانبٍ آخر، وسعياً وراء علمانية الدولة، اتخذ أتاتورك حزمة القرارات التي هدف بها إلى اجتثاث الهوية العثمانية الدينية من البلاد.

بداية من نوفمبر 1922 أعلن إلغاء السلطة وإقامة الجمهورية بدلاً منها، بعدها ألغى الخلافة ووزارة الأوقاف والتعليم الديني والمحاكم الشرعية وأمر باعتماد الأبجدية اللاتينية بدلاً من العربية.

أثارت هذه الخطوات السريعة اعتراضاً مزدوجاً لدى بعض أقطاب الصوفية الأكراد الذين رأوا أن أتاتورك يحرمهم تماماً من الدولة الكردية الإسلامية التي حلموا بتأسيسها، من بين هؤلاء هو القيادي الكردي سعيد بيران شيخ الطريقة النقشبندية، الذي وُلد سنة 1865 في قرية بيران، وورث الزعامة الدينية عن والده، حسبما ورد في كتاب "عظماء منسيون في التاريخ الحديث".

حزب الاستقلال (آزداي)

في 1923 تأسست منظمة "آزداي" الكردية برئاسة خالد جبري وعضوية يوسف ضياء وكمال فوزي والشيخ سعيد بيران، بهدف العمل على استقلال كردستان ومقاومة سياسات التتريك التي فرضها أتاتورك على القرى التركية مثل فرض اللغة التركية في المناهج الدراسية والأوراق الرسمية وتسمية القرى الكردية بألقاب تركية.

بدعوى تخطيطه للقيام بثورة ضد نظام الحُكم، أُلقي القبض على خالد جبري وأُعدم فحلَّ محله الشيخ سعيد في قيادة المنظمة، وكان يتمتّع بمكانة اجتماعية هامة بفضل رئاسته للطريقة النقشبندية وعلاقاته القوية مع باقي الزعماء الكرد.

بحسب تقديرات كوران سلام في كتاب "القضية الكردية في العلاقات التركية الإيرانية"، فإن عدد أتباع الشيخ سعيد تجاوزوا 10 آلاف فرد.

في عام 1924 أعلن أتاتورك إلغاء الخلافة العثمانية، الأمر الذي اعتبرته الطرق الصوفية الكردية ضربة كبيرة لها. في العام نفسه عقدت جمعية "آزداي" مؤتمراً حاشداً قرر أعضاؤها خلاله القيام بحركة شاملة لنيل الاستقلال بعدما وُعدوا بدعمٍ خارجي من بريطانيا والاتحاد السوفييتي، كما تلقى الشيخ سعيد مدداً من سوريا بعدما ساهم بعض أكرادها في حركته العسكرية، حسبما ذكر دكتور حامد عيسى في كتابه "المشكلة الكردية في الشرق الأوسط".

وفق كتاب "التنظيمات الجهادية في كردستان" للدكتور جهاد عودة، فإن تنصيب شيخٍ ديني لقيادة حركة سياسية أمرٌ ليس بالغريب على الأكراد، فقد حصل سابقا مع  الشيخ عبيدالله النهري عام 1880، والشيخ عبدالسلام بارزاني عام 1914.

 

تمرد سابق للأوان

بدأت الأزمة حينما وفدت فرقة عسكرية تركية على بلدة بيران لاعتقال بعض أهل البلدة في ظِل وجود الشيخ سعيد وعددٍ من أعوانه، فوقع اشتباكٌ بين الطرفين قُتل فيه أغلب عناصر الفرقة التركية وأُسر قائدها.

تسبّب هذا الحادث في إشعال الثورة الكردية قبل موعدها الذي خطط له الشيخ سعيد. في البداية نجح الثوار في الاستيلاء على عدة مناطق شرق تركيا منها محافظة "كينجو" التي أعلنوها محافظةً مؤقتة للإدارة الكردية المستقلة الجديدة.

قرر أتاتورك مواجهة هذه الثورة بعُنف بالغ حتى لا يُكرر معارضوه في إسطنبول هذا السيناريو؛ وعلى الفور عقد مجلس الوزراء التركي جلسة عاصفة أعلن بعدها حالة الطوارئ في منطقة الانتفاضة التركية، بعدها استقالت حكومة علي فتحي أوكيار وتولّى عصمت إينونو رئاسة الوزراء بدلاً منه.

نحو المناطق الكردية وجّه الجيش التركي حملة عسكرية تكوّنت من 70 ألف جندي مزودين بأسلحة ثقيلة وطائرات حاصرت المتمردين من الشمال والجنوب.

فشلت خطة الشيخ سعيد في الصمود أمام الجحافل التركية بعدما تنكّرت روسيا وبريطانيا لوعودهما بمساندته، كما أن بعض قادة العشائر التركية تراجعوا عن دعمه في اللحظات الأخيرة. وعندما حاول الشيخ سعيد نيل دعم الفقيه الكردي الشهير سعيد النورسي لم يستجب له بسبب رفضه الاشتغال بالسياسة منذ سقوط الخلافة العثمانية مصداقاً لمقولته الشهيرة "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة"، وفقاً لما ذكرته دكتورة رنا الخماش في كتابها "النظام السياسي التركي في عهد حزب العدالة والتنمية".

هكذا كُتبت على الشيخ سعيد هذه المواجهة الصعبة وحيداً فلم يستطع الصمود طويلاً. وبنهاية مارس 1925 وقع تحوّل كبير في موازين القوى وبدأت فيالق الأكراد في التراجع.

خلال شهر واحد اضطر الشيخ سعيد وعددٍ من أتباعه إلى الاستسلام فقُبض عليهم وسيقوا إلى محكمة تركية عاقبتهم بالإعدام شنقاً بنهاية يونيو داخل ساحة المسجد الكبير في ديار بكر بصحبة 47 رجلاً من أعوانه.

بحسب عيسى، فإن هذه الأحداث انتهت بتدمير 200 قرية كردية ومقتل 15 ألف كردي وتمركز أكثر من 80 ألف جندي تركي في المناطق الكردية.

تقول الخماش "هكذا نجح أتاتورك في إخماد أول ثورة عارضت سياساته التغريبية مستخدماً الشعور القومي بعدما صوّرها على أنها ثورة كردية تُطالب بالانفصال عن الدولة التركية، فيما كانت البواعث الدينية لهذه الحركة كانت سببها الأول".

تبعات دبلوماسية خطيرة

بعد استسلام الشيخ سعيد، استمرت العمليات العسكرية التركية لملاحقة باقي قيادات حركته فاضطر بعضهم إلى الهرب نحو الأراضي الفارسية التي لم ترحب بهم ولاحقتهم عسكرياً أيضاً حتى أن الشيخ علي رضا -نجل الشيخ- كان بين هؤلاء الفارين فقبض عليه وأودع السجن في إيران.

تزامن عام 1925 مع انقلاب الضابط رضا بهلوي على الشاه أحمد مرزا القاجاري منهياً حُكم الدولة القاجارية في إيران ومؤسساً نظامٍ حاكم جديد، امتلك رضا بهلوي إعجاباً كبيراً بشخصية أتاتورك وآمَن بخطورة القضية الكردية على طهران وعلى علاقتها بأنقرة في ضوء التوتر الذي عاشته تلك المنطقة بسبب "حركة سعيد"، فقرر العمل على تحسين علاقة البلدين.

في 1926 وقع البلدان معاهدة صداقة أسهمت في تبادل عشرات الزيارات وتوقيع سلسلة من الاتفاقيات الثنائية المتنوعة، أعقب ذلك عقد اتفاقية لترسيم الحدود في 1932، و"هكذا تطورت العلاقات الفارسية التركية في ضوء الخطر المشترك الذي شكله سعيد بيران"، على حد وصف كوران سلام.

يضيف دكتور عيسى أن الإجراءات القمعية التي اتخذها الأتراك بحق الأكراد بعد ثورة الشيخ سعيد خلّفت آثاراً كبيرة على حياة الأكراد فاعتصم بعضهم في الجبال أو لجأوا إلى سوريا ومصر وبعض الدول العربية.

بمرور الوقت سعوا لعقد مؤتمر كردي حاشد يضمُّ الأطياف المشتتة من الشعب الكردي، فعُقد المؤتمر الوطني الأول في باريس عام 1927، تلاه مؤتمر آخر في لبنان، وحّدوا فيهما جهودهم وصفوفهم من أجل مواصلة العمل العسكري ضد الأتراك، الأمر الذي نتَج عنه اندلاع "ثورة أرارات" في 1930 بقيادة الضابط الكردي إحسان نوري باشا، التي انتهت بالفشل أيضاً إلا أن أحسان كان مصيره أفضل من الشيخ سعيد بعدما نجا من السجون التركية عقب نجاحه في الفرار إلى إيران.

ورغم مرور وقتٍ طويل على حركته فإن سيرة الشيخ سعيد كبطل قومي ظلّت حاضرة في مخيلة الأكراد لسنوات طويلة. ففي 1983 نفّذ الجيش التركي عملية عسكرية ضد مجموعة كردية تحت اسم "الشيخ سعيد بيران"، تحصنت في جبال العراق ومارست عملها السري ضد تركيا، حسبما ذكر حامد عيسى في كتابه.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".