صورة أرشيفية لعراقيين في ميدان "أبو سيف" وسط بغداد، عام 1925- تعبيرية
صورة أرشيفية لعراقيين في ميدان "أبو سيف" وسط بغداد، عام 1925- تعبيرية

أكثر من مئة عام مرت على أحد أهم الأحداث في تاريخ العراق المعاصر، "ثورة العشرين"، وحتى الآن لا يغيب الجدل حول أسبابها ونتائجها وزعاماتها.

يقول عالم الاجتماع علي الوردي في كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث"، إن "ثورة العشرين هي أول حدث في تاريخ العراق يشترك فيه العراقيون بمختلف طبقاتهم وفئاتهم، فقد شوهدت فيها العمامة إلى جانب الطربوش، والكشيدة إلى جانب اللفة القلعية والعقال إلى جانب الكلاو وكلهم يهتفون (يحيا الوطن)".

ولم يشهد العراق خلال حكم العثمانيين، بحسب الوردي، أية معركة اشترك فيها أهل المدن مع العشائر "فقد كان هناك نفور بينهما اختفى أثناء ثورة العشرين"، ولم يكن للمعارك السابقة "أية صبغة دينية إلا نادراً، ولم يحدث  أن أفتى العلماء بتأييدها، أما ثورة العشرين فقد أفتى العلماء بتأييدها واعتبروها جهاداً في سبيل الله".

ويرى أن مفاهيم "الوطنية" و"الاستقلال" لم تكن معروفة لدى العراقيين ومن الممكن اعتبار "ثورة العشرين" المدرسة الشعبية الأولى التي علمت العراقيين تلك المفاهيم.

ومناطقياً لم يحدث أن امتدت معركة سابقاً في أنحاء العراق بمثل ذلك النطاق الذي امتدت بها "ثورة العشرين".

وعلى مستوى التناول التاريخي، فإن "ثورة العشرين" وقعت بين مبالغة الثوريين المتحمسين، و بين المغالين في نقدها وهم في الغالب خصومها من البريطانيين وغيرهم ممن حاول تحجيمها بأنها "امتداد للمعارك التي شنتها العشائر العراقية ضد الحكومة التركية بين آن وآخر"، يتابع الوردي.

الرئيسان السوري شكري القوتلي والمصري جمال عبد الناصر خلال اعلان "الجمهورية العربية المتحدة"
لماذا فشلت تجارب "الوحدة العربية" في القرن العشرين؟
"إن منح العرب وعداً بدولة كبيرة هو مجرد تضليل. إذ لا يمكن لدولة مماثلة ان تبصر النور. لا يمكنكم تحويل مجموعة قبائل إلى كيان واحد قابل للعيش"، هذا القول هو للديبلوماسي الفرنسي، جورج بيكو، الذي وقّع مع نظيره البريطاني مارك سياكس اتفاقية سايكس-بيكو الشهيرة التي قسّمت الشرق الأوسط بين الدولتين الاستعماريتين.

رفض الاحتلال

يقول أستاذ التاريخ السياسي الحديث أحمد الركابي لـ"ارفع صوتك" إن السبب الرئيسي لـ"ثورة العشرين" الأوضاع السيئة التي كان يعانيها العراقيون تحت الاحتلال البريطاني.

ويضيف أنها لم تكن الحدث الأول من نوعه "فمنذ دخول القوات البريطانية إلى العراق حصلت العديد من المواجهات في الوسط والجنوب".

يذكر الركابي بعض تلك المواجهات: "معركة الشعيبة عام 1915، وثورة النجف 1918 وغيرها مما كان شاهداً على رفض العراقيين للاحتلال الذي سبب مشاكل عديدة في البلد، بعضها يتعلق بفرض قوانين وضرائب وأعراف تعسفية، دون أن يدركوا إن العراقيين شعب صعب المراس ولا يشبه الشعوب الأخرى التي كانت بريطانيا قد استعمرتها سابقاً".

بالنتيجة "لم يحتمل الشعب العراقي طريقة البريطانيين لإدارة العراق فاشتعلت شرارة الثورة التي استمرت من 30 يونيو حتى نهاية أكتوبر" بحسب الركابي.

وذكر عبد الرزاق الحسني في كتابه "الثورة العراقية الكبرى"، مقدمات سبق اندلاع الثورة "تتعلق بالوضع الاقتصادي وسوء إدارة الاحتلال المتمثلة باحتياجات الجيش المحلية، التي تضمنت السخرة وجمع الطعام وإشغال العقارات ببدلات ضئيلة وإذلال الناس وسلب ثروات البلاد، بينما كان العامل الأبرز موقف علماء الدين".

وأضاف أن هناك "أوضاعاً اجتمعت مع بعضها خلال تلك الفترة بين  ظروف الحرب العامة وعنف الموظفين البريطانيين ضد رجال القبائل التي بعثت فيهم روح التكتل وتناسي الضغائن العصبيات القبلية، لتحلّ محلها العصبية القبلية العامة".

"ومن جانب آخر تأثرت المدن بحركة الأحزاب السياسية والحركة الثقافية الكبيرة والحس الوطني الذي بدأ بالنمو حتى قبل الإطاحة بالحكم العثماني"، وفق الحسيني.

سلوك البريطانيين كما يصفه علي الوردي وصل إلى حد "الرعونة" في حالات كثيرة ومن قبل بعض الحكام بالإضافة لقسوتهم وعدم معرفتهم بعادات وتقاليد العراقيين أبرزهم الميجر ديلي الذي كان يحكم الديوانية والكولونيل ليجمن الذي كان يحكم الموصل ثم تحوّل إلى الرمادي.

يبيّن الركابي أن بريطانيا "عملت في العراق وفق سياسة فرق تسد، فكانت تأتي إلى العشيرة وتختار شخصاً منافساً لرئيسها وتمنحه  الإقطاعيات والأموال وعدداً من الشبانة (الشرطة) لحمايته، بالتالي حاولت شق العشيرة إلى نصفين، فاستفادت بعض العشائر وأخرى تضررت".

أما العامة من الطبقات المسحوقة والكادحة، كما يقول الركابي، فقد عانت من جراء سياسات الاحتلال ورفضته تماماً، ساعدها على ذلك تأييد عدد كبير من رجال الدين.

وطالما نُظر إليه على أنه "رجل الإنقاذ" الذي يلجأ له الملك كلما ضاقت به السُبُل واستحكمت الأزمات السياسية- أرشيفية
نوري السعيد.. رجل الهاشميين الأول في العراق
لا يُمكن استحضار تاريخ العراق الملكي دون المرور على شخص السياسي البارز نوري السعيد، ذلك الرجل الذي مثّل حجر الزاوية الأساسي لتلك الفترة دون منازع حتى من الملوك أنفسهم. فلطالما نُظر إليه على أنه "رجل الإنقاذ" الذي يلجأ له الملك كلما ضاقت به السُبُل واستحكمت الأزمات السياسية.

وعود

المعروف عن السياسة البريطانية أنها أغدقت بالوعود الخلابة على العرب خلال الحرب وكان من أشهر تلك الوعود بيان صدر عقب احتلال بغداد تضمن العبارة المشهورة "جئناكم محررين لا فاتحين".

وفي 30 نوفمبر 1918 قررت بريطانيا إجراء استفتاء في العراق يتعلق بطبيعة الحكم الذي يرغبون به، تضمن ثلاثة أسئلة هي "هل يفضلون دولة عربية واحدة تحت إرشاد بريطانيا تمتد من حدود ولاية الموصل الشمالية إلى الخليج، وهل يرغبون في أن يرأس هذه الدولة رجل عربي من أولي الشرف، ومَن هو هذا الرئيس الذي يريدونه؟"، كما جاء في كتاب الوردي.

نتيجة لذلك الطرح البريطاني، تم تقديم أسئلة تتعلق بالاستفتاء إلى المرجع الديني المطاع الشيخ محمد تقي الحائري في "جواز انتخاب غير المسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين"، فأفتى الحائري ما نصّه "ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب ويختار غير المسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين".

ووقع الاختيار من قبل كثير من الأعيان والشيوخ على أن يكون العراق دولة مستقلة عن التاج البريطاني، يرأسها ملك عربي مسلم وهو أحد أنجال الشريف حسين مقيداً بمجلس تشريعي وطني مقرّه عاصمة العراق بغداد. كان ذلك في يناير 1919، لكن في المقابل وضع العراق تحت الانتداب البريطاني في 25 أبريل 1920.

شرارة الثورة

بدأت شرارة الثورة كما يؤرخ عالم الاجتماع علي الوردي من "الرميثة" نتيجة لعدة وقائع هي "أحداث دير الزور، وواقعة تلعفر وأحداث رمضان في بغداد ونفي ابن الشيرازي"، انتهت بقمع البريطانيين لأهل هذه المناطق بوحشية ونفي عدد كبير من قادة الاحتجاجات.

قبلها بخمسة أيام سمع الميجر ديلي أن عشيرة "الظوالم" رفعت راياتها مظهرة أنها في حرب مع الحكومة، فأوعز باعتقال رئيس الظوالم شعلان أبو الجون وإرساله إلى الديوانية، وفي 30 يونيو أرسل إلى أبو الجون للحضور إلى سراي الرميثة وجرى توقيفه.

أرسل أبو الجون الخبر إلى ابن عمه غثيث الحرجان الذي سارع مع عشرة رجال مسلحين لتحريره، وهو ما تم بعد قتل اثنين من الحراس الأربعة، وعادوا به إلى عشيرتهم لتبدأ أحداث "ثورة العشرين" بسلسلة من المعارك بعد قيامه باقتلاع أخشاب سكة الحديد، واستمرت عشائر الرميثة تقاتل البريطانيين منفردة وحدها زهاء أسبوعين.

بعدها بدأت رايات الثورة ترفع في مناطق عديدة من الفرات الأوسط (النجف وكربلاء والديوانية وبابل والمثنى) بالإضافة إلى العاصمة بغداد. أشهر تلك المعارك كانت "الرارنجية" التي استمرت ست ساعات استخدمت فيها العشائر السلاح الأبيض و"الفالة" و "المكوار".

ولم يتمكن من النجاة إلا نصف الرتل الإنجليزي حتى وصفها الجنرال هالدين بـ"الكارثة" وقُدرت خسائرها بـ20 قتيلاً و318 مفقوداً. هذه المعركة كانت نقطة تحوّل كبيرة لصالح الثورة شكلت محور دعاية كبيرة جعلت العشائر المترددة تندفع نحو الانضمام كما يقول الوردي.

لكن، ما إن انتهى شهر أغسطس حتى بدأت القوات البريطانية تتوارد إلى العراق، وتسلم الجنرال هالدين برقية من وزير الحربية ونستون تشرشل أعلمه فيها أن "الوزارة قررت وجوب القضاء على الثورة".

من ثورة العشرين إلى "النهضة النسائية".. جانب من سيرة المرأة العراقية
خاضت المرأة العراقية نضالاً طويلاً من أجل نيل حقوقها، وهو نضال تعدّدت جبهاته، فهو ضد السلطة المعادية لحقوق المرأة، والعادات والتقاليد الاجتماعية التي أعاقت تطورها في شتى المجالات. وخلال مسيرة النضال الطويلة برزت المئات من الناشطات العراقيات في شتى المجالات، نستعرض عدد منهن.

نتائج

الهجوم الشرس الذي قادته بريطانيا تضمن قصف المدن والقرى والعشائر بالطائرات والمدافع، في وقت لم يكن لدى العراقيين سوى البنادق والأسلحة البيضاء والتقليدية، وخلال خمسة أشهر من بداية الثورة كانت المؤن والعتاد نفدت.

لا توجد إحصاءات دقيقة للخسائر كما يقول الحسني في كتابه، مكتفياً بذكر الخسائر التي سجلها الجنرال البريطاني هالدين، وأفادت بمقتل  312 بريطانياً منهم 19 ضابطاً، بالإضافة لجرح 1228 بريطانيا، أما المفقودين منهم فوصل عددهم إلى 451، بينما بلغ عدد القتلى والجرحى العراقيين نحو 8450.

ومجموع الغرامات التي استلمتها الحكومة من الثوار تجاوزت 63 ألف بندقية صالحة للاستخدام وأكثر من ثلاثة ملايين خرطوشة ومبلع 867 روبية (54 جنيه إسترليني آنذاك).

بحسابات الحروب، فإن العراقيين تكبدوا خسائر فادحة من الناحيتين البشرية والمادية، إلا أن النتيجة المباشرة للثورة كما يؤكد الأستاذ أحمد الركابي، كانت "إلغاء مشروع بريطاني قضى باقتطاع الجزء الجنوبي من العراق وربطه بالهند، وعمل عليه ويلسون وغيره من قادة الاحتلال في العراق".

يوضح "بعد الثورة، تم التعجيل بالمطالبة المهمة، أن يحكم العراق حاكم عربي حدده بعض الثوار وشيوخ القبائل بالأمير فيصل بن الحسين. وهو ما توافق لاحقاً مع إرادة البريطانيين لرد الجميل للشريف حسين الذي ساندهم في الحرب، ما أدى لقيام الحكومة العراقية ثم استقلال العراق".

 

جدل الشيخ ضاري

قبل أيام، شهدت صفحات العراقيين على مواقع التواصل الاجتماعي جدلاً واسعاً، بعد إلقاء الفنان علي سمير لقصيدة والده الراحل الشاعر سمير صبيح، التي تلمّح إلى محاولات سرقة "ثورة العشرين" من قبل "حزب البعث" وعشائر معينة في المنطقة الغربية من العراق.

الشيخ ضاري رياض محمد اقرأ التاريخ من دون شحنات طائفية. الشيخ ضاري لم يكن بطلا عظيما كما يصوره السنة ولم يكن سارقا...

Posted by Riyadh Mohammed on Friday, June 21, 2024

وهو جدل ليس بجديد على الساحة العراقية، حيث بدأ في ثمانينيات القرن الماضي حين أنتجت الحكومة العراقية فيلماً حمل عنوان "المسألة الكبرى" نُسب فيها إلى الشيخ ضاري، الفضل في إطلاق شرارة الثورة وتحويل أهم أحداثها من الفرات الأوسط إلى المنطقة الغربية.

بغض النظر عن التراشقات الطائفية والمناطقية فإن الكولونيل لجمن قتل على يد أبناء وأتباع الشيخ ضاري (12 أغسطس 1920 أي بعد نحو ستة أسابيع من قيام الثورة)، بعد توجيهه إهانات للشيخ وبصقه على وجهه بسبب حادث سلب في منطقة كان مسؤولاً عن الأمن فيها.

يقول علي الوردي إن الشيخ ضاري "كان واحداً من الشيوخ الذين اختارتهم بريطانيا ضمن سياسة اختيار شيخ واحد في كل منطقة يدعمونه بالمال والنفوذ ليكون مسؤولاً عن الأمن والنظام فيها، كما كان واحداً من الشخصيات التي وصلها كِتاب من الثوار في الجنوب، وأبدى استعداده لإعلان الثورة".

حادث مقتل الكولونيل ليجمن كان ضربة موجعة للحكومة البريطانية، خصوصاً أنها جاءت بعد أيام على معركة الرارنجية الشهيرة التي أسهمت في نشر الثورة بمناطق عديدة في العراق.

وبعد مقتل الكولونيل أعلن الشيخ ضاري الانضمام إلى الثورة، وتوجه إلى كربلاء في أكتوبر 1920 ولم يبق فيها طويلاً، بل عاش متنقلاً بين العشائر حتى أُلقي القبض عليه عام 1927 وجرت محاكمته وسجنه حتى وفاته عام 1928.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".