أكثر من مئة عام مرت على أحد أهم الأحداث في تاريخ العراق المعاصر، "ثورة العشرين"، وحتى الآن لا يغيب الجدل حول أسبابها ونتائجها وزعاماتها.
يقول عالم الاجتماع علي الوردي في كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث"، إن "ثورة العشرين هي أول حدث في تاريخ العراق يشترك فيه العراقيون بمختلف طبقاتهم وفئاتهم، فقد شوهدت فيها العمامة إلى جانب الطربوش، والكشيدة إلى جانب اللفة القلعية والعقال إلى جانب الكلاو وكلهم يهتفون (يحيا الوطن)".
ولم يشهد العراق خلال حكم العثمانيين، بحسب الوردي، أية معركة اشترك فيها أهل المدن مع العشائر "فقد كان هناك نفور بينهما اختفى أثناء ثورة العشرين"، ولم يكن للمعارك السابقة "أية صبغة دينية إلا نادراً، ولم يحدث أن أفتى العلماء بتأييدها، أما ثورة العشرين فقد أفتى العلماء بتأييدها واعتبروها جهاداً في سبيل الله".
ويرى أن مفاهيم "الوطنية" و"الاستقلال" لم تكن معروفة لدى العراقيين ومن الممكن اعتبار "ثورة العشرين" المدرسة الشعبية الأولى التي علمت العراقيين تلك المفاهيم.
ومناطقياً لم يحدث أن امتدت معركة سابقاً في أنحاء العراق بمثل ذلك النطاق الذي امتدت بها "ثورة العشرين".
وعلى مستوى التناول التاريخي، فإن "ثورة العشرين" وقعت بين مبالغة الثوريين المتحمسين، و بين المغالين في نقدها وهم في الغالب خصومها من البريطانيين وغيرهم ممن حاول تحجيمها بأنها "امتداد للمعارك التي شنتها العشائر العراقية ضد الحكومة التركية بين آن وآخر"، يتابع الوردي.
رفض الاحتلال
يقول أستاذ التاريخ السياسي الحديث أحمد الركابي لـ"ارفع صوتك" إن السبب الرئيسي لـ"ثورة العشرين" الأوضاع السيئة التي كان يعانيها العراقيون تحت الاحتلال البريطاني.
ويضيف أنها لم تكن الحدث الأول من نوعه "فمنذ دخول القوات البريطانية إلى العراق حصلت العديد من المواجهات في الوسط والجنوب".
يذكر الركابي بعض تلك المواجهات: "معركة الشعيبة عام 1915، وثورة النجف 1918 وغيرها مما كان شاهداً على رفض العراقيين للاحتلال الذي سبب مشاكل عديدة في البلد، بعضها يتعلق بفرض قوانين وضرائب وأعراف تعسفية، دون أن يدركوا إن العراقيين شعب صعب المراس ولا يشبه الشعوب الأخرى التي كانت بريطانيا قد استعمرتها سابقاً".
بالنتيجة "لم يحتمل الشعب العراقي طريقة البريطانيين لإدارة العراق فاشتعلت شرارة الثورة التي استمرت من 30 يونيو حتى نهاية أكتوبر" بحسب الركابي.
وذكر عبد الرزاق الحسني في كتابه "الثورة العراقية الكبرى"، مقدمات سبق اندلاع الثورة "تتعلق بالوضع الاقتصادي وسوء إدارة الاحتلال المتمثلة باحتياجات الجيش المحلية، التي تضمنت السخرة وجمع الطعام وإشغال العقارات ببدلات ضئيلة وإذلال الناس وسلب ثروات البلاد، بينما كان العامل الأبرز موقف علماء الدين".
وأضاف أن هناك "أوضاعاً اجتمعت مع بعضها خلال تلك الفترة بين ظروف الحرب العامة وعنف الموظفين البريطانيين ضد رجال القبائل التي بعثت فيهم روح التكتل وتناسي الضغائن العصبيات القبلية، لتحلّ محلها العصبية القبلية العامة".
"ومن جانب آخر تأثرت المدن بحركة الأحزاب السياسية والحركة الثقافية الكبيرة والحس الوطني الذي بدأ بالنمو حتى قبل الإطاحة بالحكم العثماني"، وفق الحسيني.
سلوك البريطانيين كما يصفه علي الوردي وصل إلى حد "الرعونة" في حالات كثيرة ومن قبل بعض الحكام بالإضافة لقسوتهم وعدم معرفتهم بعادات وتقاليد العراقيين أبرزهم الميجر ديلي الذي كان يحكم الديوانية والكولونيل ليجمن الذي كان يحكم الموصل ثم تحوّل إلى الرمادي.
يبيّن الركابي أن بريطانيا "عملت في العراق وفق سياسة فرق تسد، فكانت تأتي إلى العشيرة وتختار شخصاً منافساً لرئيسها وتمنحه الإقطاعيات والأموال وعدداً من الشبانة (الشرطة) لحمايته، بالتالي حاولت شق العشيرة إلى نصفين، فاستفادت بعض العشائر وأخرى تضررت".
أما العامة من الطبقات المسحوقة والكادحة، كما يقول الركابي، فقد عانت من جراء سياسات الاحتلال ورفضته تماماً، ساعدها على ذلك تأييد عدد كبير من رجال الدين.
وعود
المعروف عن السياسة البريطانية أنها أغدقت بالوعود الخلابة على العرب خلال الحرب وكان من أشهر تلك الوعود بيان صدر عقب احتلال بغداد تضمن العبارة المشهورة "جئناكم محررين لا فاتحين".
وفي 30 نوفمبر 1918 قررت بريطانيا إجراء استفتاء في العراق يتعلق بطبيعة الحكم الذي يرغبون به، تضمن ثلاثة أسئلة هي "هل يفضلون دولة عربية واحدة تحت إرشاد بريطانيا تمتد من حدود ولاية الموصل الشمالية إلى الخليج، وهل يرغبون في أن يرأس هذه الدولة رجل عربي من أولي الشرف، ومَن هو هذا الرئيس الذي يريدونه؟"، كما جاء في كتاب الوردي.
نتيجة لذلك الطرح البريطاني، تم تقديم أسئلة تتعلق بالاستفتاء إلى المرجع الديني المطاع الشيخ محمد تقي الحائري في "جواز انتخاب غير المسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين"، فأفتى الحائري ما نصّه "ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب ويختار غير المسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين".
ووقع الاختيار من قبل كثير من الأعيان والشيوخ على أن يكون العراق دولة مستقلة عن التاج البريطاني، يرأسها ملك عربي مسلم وهو أحد أنجال الشريف حسين مقيداً بمجلس تشريعي وطني مقرّه عاصمة العراق بغداد. كان ذلك في يناير 1919، لكن في المقابل وضع العراق تحت الانتداب البريطاني في 25 أبريل 1920.
شرارة الثورة
بدأت شرارة الثورة كما يؤرخ عالم الاجتماع علي الوردي من "الرميثة" نتيجة لعدة وقائع هي "أحداث دير الزور، وواقعة تلعفر وأحداث رمضان في بغداد ونفي ابن الشيرازي"، انتهت بقمع البريطانيين لأهل هذه المناطق بوحشية ونفي عدد كبير من قادة الاحتجاجات.
قبلها بخمسة أيام سمع الميجر ديلي أن عشيرة "الظوالم" رفعت راياتها مظهرة أنها في حرب مع الحكومة، فأوعز باعتقال رئيس الظوالم شعلان أبو الجون وإرساله إلى الديوانية، وفي 30 يونيو أرسل إلى أبو الجون للحضور إلى سراي الرميثة وجرى توقيفه.
أرسل أبو الجون الخبر إلى ابن عمه غثيث الحرجان الذي سارع مع عشرة رجال مسلحين لتحريره، وهو ما تم بعد قتل اثنين من الحراس الأربعة، وعادوا به إلى عشيرتهم لتبدأ أحداث "ثورة العشرين" بسلسلة من المعارك بعد قيامه باقتلاع أخشاب سكة الحديد، واستمرت عشائر الرميثة تقاتل البريطانيين منفردة وحدها زهاء أسبوعين.
بعدها بدأت رايات الثورة ترفع في مناطق عديدة من الفرات الأوسط (النجف وكربلاء والديوانية وبابل والمثنى) بالإضافة إلى العاصمة بغداد. أشهر تلك المعارك كانت "الرارنجية" التي استمرت ست ساعات استخدمت فيها العشائر السلاح الأبيض و"الفالة" و "المكوار".
ولم يتمكن من النجاة إلا نصف الرتل الإنجليزي حتى وصفها الجنرال هالدين بـ"الكارثة" وقُدرت خسائرها بـ20 قتيلاً و318 مفقوداً. هذه المعركة كانت نقطة تحوّل كبيرة لصالح الثورة شكلت محور دعاية كبيرة جعلت العشائر المترددة تندفع نحو الانضمام كما يقول الوردي.
لكن، ما إن انتهى شهر أغسطس حتى بدأت القوات البريطانية تتوارد إلى العراق، وتسلم الجنرال هالدين برقية من وزير الحربية ونستون تشرشل أعلمه فيها أن "الوزارة قررت وجوب القضاء على الثورة".
نتائج
الهجوم الشرس الذي قادته بريطانيا تضمن قصف المدن والقرى والعشائر بالطائرات والمدافع، في وقت لم يكن لدى العراقيين سوى البنادق والأسلحة البيضاء والتقليدية، وخلال خمسة أشهر من بداية الثورة كانت المؤن والعتاد نفدت.
لا توجد إحصاءات دقيقة للخسائر كما يقول الحسني في كتابه، مكتفياً بذكر الخسائر التي سجلها الجنرال البريطاني هالدين، وأفادت بمقتل 312 بريطانياً منهم 19 ضابطاً، بالإضافة لجرح 1228 بريطانيا، أما المفقودين منهم فوصل عددهم إلى 451، بينما بلغ عدد القتلى والجرحى العراقيين نحو 8450.
ومجموع الغرامات التي استلمتها الحكومة من الثوار تجاوزت 63 ألف بندقية صالحة للاستخدام وأكثر من ثلاثة ملايين خرطوشة ومبلع 867 روبية (54 جنيه إسترليني آنذاك).
بحسابات الحروب، فإن العراقيين تكبدوا خسائر فادحة من الناحيتين البشرية والمادية، إلا أن النتيجة المباشرة للثورة كما يؤكد الأستاذ أحمد الركابي، كانت "إلغاء مشروع بريطاني قضى باقتطاع الجزء الجنوبي من العراق وربطه بالهند، وعمل عليه ويلسون وغيره من قادة الاحتلال في العراق".
يوضح "بعد الثورة، تم التعجيل بالمطالبة المهمة، أن يحكم العراق حاكم عربي حدده بعض الثوار وشيوخ القبائل بالأمير فيصل بن الحسين. وهو ما توافق لاحقاً مع إرادة البريطانيين لرد الجميل للشريف حسين الذي ساندهم في الحرب، ما أدى لقيام الحكومة العراقية ثم استقلال العراق".
جدل الشيخ ضاري
قبل أيام، شهدت صفحات العراقيين على مواقع التواصل الاجتماعي جدلاً واسعاً، بعد إلقاء الفنان علي سمير لقصيدة والده الراحل الشاعر سمير صبيح، التي تلمّح إلى محاولات سرقة "ثورة العشرين" من قبل "حزب البعث" وعشائر معينة في المنطقة الغربية من العراق.
وهو جدل ليس بجديد على الساحة العراقية، حيث بدأ في ثمانينيات القرن الماضي حين أنتجت الحكومة العراقية فيلماً حمل عنوان "المسألة الكبرى" نُسب فيها إلى الشيخ ضاري، الفضل في إطلاق شرارة الثورة وتحويل أهم أحداثها من الفرات الأوسط إلى المنطقة الغربية.
بغض النظر عن التراشقات الطائفية والمناطقية فإن الكولونيل لجمن قتل على يد أبناء وأتباع الشيخ ضاري (12 أغسطس 1920 أي بعد نحو ستة أسابيع من قيام الثورة)، بعد توجيهه إهانات للشيخ وبصقه على وجهه بسبب حادث سلب في منطقة كان مسؤولاً عن الأمن فيها.
يقول علي الوردي إن الشيخ ضاري "كان واحداً من الشيوخ الذين اختارتهم بريطانيا ضمن سياسة اختيار شيخ واحد في كل منطقة يدعمونه بالمال والنفوذ ليكون مسؤولاً عن الأمن والنظام فيها، كما كان واحداً من الشخصيات التي وصلها كِتاب من الثوار في الجنوب، وأبدى استعداده لإعلان الثورة".
حادث مقتل الكولونيل ليجمن كان ضربة موجعة للحكومة البريطانية، خصوصاً أنها جاءت بعد أيام على معركة الرارنجية الشهيرة التي أسهمت في نشر الثورة بمناطق عديدة في العراق.
وبعد مقتل الكولونيل أعلن الشيخ ضاري الانضمام إلى الثورة، وتوجه إلى كربلاء في أكتوبر 1920 ولم يبق فيها طويلاً، بل عاش متنقلاً بين العشائر حتى أُلقي القبض عليه عام 1927 وجرت محاكمته وسجنه حتى وفاته عام 1928.