صورة من داخل مقهى "ريش" في العاصمة المصرية القاهرة، التقطت عام 2001- ا ف ب
صورة من داخل مقهى "ريش" في العاصمة المصرية القاهرة، التقطت عام 2001- ا ف ب

عرفت المقاهي طريقها إلى البلاد العربية في بدايات القرن السادس عشر الميلادي، ولكن في سنة 1551، تم إغلاق العديد منها بعدما أصدر السلطان العثماني سليمان القانوني فرماناً ينص على تحريم شرب القهوة وإغلاق المقاهي في جميع أنحاء السلطنة.

وفي نهايات القرن الثامن عشر، بدأت ظاهرة المقاهي الثقافية في الانتشار عربياً لتتحوّل مع مرور الزمن إلى مراكز حيوية وهامة للحراك الفكري والأدبي.

يستعرض المقال أبرز هذه المقاهي والدور الذي لعبته في ثقافة المدن التي احتضنتها، وأبرز الأدباء الذين ارتبطت أسماؤهم بها.

الأميرة نازلي فاضل، مي زيادة، ومريانا مراش أسسن صالونات ثقافية في القرن الماضي
في مصر والعراق وسوريا.. أشهر الصالونات الثقافية النسائية العربية
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، عادت ظاهرة الصالونات الثقافية النسوية في العالم العربي إلى الواجهة مرة أخرى بعد طول غياب. ما هي أبرز تلك الصالونات؟ وما هي أهم القضايا التي نوقشت فيها؟ وكيف لعبت تلك الصالونات دوراً مهماً في النهضة العربية الحديثة؟

القاهرة

كانت القاهرة أولى العواصم العربية التي احتضنت المقاهي الثقافية، وكان ذلك في عام 1869، عندما قام أحد المهندسين الإيطاليين ببناء مقهى "متاتيا" في عمارة كبيرة تطل على حديقة "الأزبكية" وترام "العتبة" ومبنى الأوبرا الكبير سابقاً.

بدأت شهرة المقهى بسبب ارتياده من قِبل المصلح والسياسي جمال الدين الأفغاني، الذي اعتاد إلقاء خطبه هناك، ليجمع أيضاً العديد من كبار السياسيين والمفكرين مثل  أحمد عرابي وسعد زغلول وعبد الله النديم ومحمد عبده ومحمود سامى البارودي.

من جهة أخرى، ارتاد المقهى شعراء وأدباء بارزون، مثل حافظ إبراهيم، ومحمد المويلحي، وإبراهيم المازني، وعبد العزيز البشري.

في سنة 1932 توفى حافظ إبراهيم، وعانى "متاتيا" بعدها من انصراف الشعراء والأدباء عنه، لينتهي عصره ويتحوّل إلى حانة من الدرجة الثالثة قبل أن تغلق أبوابها.

وشهد عام 1999 النهاية الحتمية للمقهى، بعد أوامر المحافظة بهدم المبنى الذي يضمّ المقهى، نتيجة التصدّعات.

احتضنت القاهرة أيضاً مقهى "ريش" الذ أقيم عام 1908 على أنقاض قصر قديم لمحمد علي باشا يقع قرب ميدان "طلعت حرب" في وسط العاصمة المصرية.

لسنوات طويلة اعتاد الروائي نجيب محفوظ ارتياد هذا المقهى للقاء محبيه وتلاميذه. وكان من المعتاد أن يشهد المقهى إقامة اللقاء الدوري لمحفوظ في يوم الخميس أسبوعياً، وهو الأمر الذي رسم شخصية "ريش".

مع مرور الوقت، صار المقهى مركزاً وملتقى لعشرات المثقفين المصريين المتميزين، أمثال يحيى الطاهر عبد الله، وأمل دنقل، وإبراهيم أصلان، وثروت أباظة، ومحمد البساطي، وجمال الغيطاني، وعبد الرحمن الأبنودي، ويوسف القعيد وغيرهم.

شهد المقهى كذلك ولادة العديد من المشروعات الأدبية المهمة، كمجلة "الكاتب المصري" التي صدرت أواسط الأربعينيات. ومجلة "غاليري 68" التي ظهرت في أعقاب هزيمة 1967.

من جهة أخرى، حضرت ذكرى "ريش" في العديد من الأعمال الأدبية والفنية المهمة. على سبيل المثال، ذكرها شاعر العامية أحمد فؤاد نجم في إحدى قصائده الشهيرة التي غناها الشيخ إمام، فقال:

"يعيش المثقّف على مقهى ريش

يعيش يعيش يعيش

محفلط مزفلط

كثير الكلام..

عديم الممارسة عدوّ الزحام..."

بغداد

في كتابه "مقاهي الأدباء في الوطن العربي" تحدث الباحث رشيد الذوادي عن أشهر المقاهي الثقافية التي عرفها العراق في القرن العشرين، فوصفها أنها "مثلت العمق الشعبي وحلقات الاتصال بين الناس، وعمقت وجدانهم وإحساسهم بالتواصل".

كما أنها في الوقت نفسه، كانت "بمثابة المدارس الشعبية المفتوحة وذات الطابع المتميز" وفق الذوادي.

وأضاف أن المقاهي الأدبية البغدادية وصلت إلى منتهى ازدهارها في حقبة الأربعينيات من القرن العشرين. ومن أشهرها "مقهى الجسر القديم"، وهو مقهى صيفي كان يقع على مقربة من الجسر القديم الذي شُيد للربط بين منطقة الأعظمية ومنطقة الكاظمية.

في هذا المقهى اعتاد أدباء بغداد أن يلتقوا بالشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي، ليسمعوا منه قصائده ويناقشوه في أفكاره.

مقهى آخر هو "البيروتي"، الذي كان يُطل من جهة الكرخ على شاطئ دجلة. وكان في الأربعينيات ملتقى لنخبة من الأدباء والشعراء يتصدرهم توفيق الفكيكي، ومحمد الهاشمي، فضلاً عن جماعة من الأدباء والشعراء المتمسكين بنمط الأدب القديم والرافضين لأشكال الحداثة.

أما مقهى "الرشيد"، فكان أشهر المقاهي الثقافية البغدادية على الإطلاق. اُفتتح في شارع الرشيد وسط العاصمة عام 1940، وكان قبلة لكبار الشعراء والأدباء العراقيين،  في طليعتهم محمد المهدى الجواهري، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي.

لا ننسى أيضاً المقهى "السويسري" الذي تأسس في منتصف الأربعينيات ويقع في الشارع نفسه، وكان المكان المفضل لأدباء الخمسينيات والستينيات. وشهد تأسيس  رابطة أدبية شهيرة عُرفت باسم "جماعة الوقت الضائع".

مع مرور الأيام، تمكنت هذه الجماعة من نشر عدة كتب منها ديوان "خفقة الطين" لبلند الحيدري سنة 1946 ومجموعة قصصية باسم "أشياء تافهة" لنزار سليم.

حالياً، قل عدد المقاهي الثقافية في بغداد ولم يتبق منها إلا القليل، كمقهى "أم كلثوم" وصار اسمه "ملتقى الأسطورة". يقع في شارع الرشيد أيضاً، وتم تأسيسه في أواخر الستينيات، ويتميز  بمحافظته على الديكور التراثي البغدادي واحتوائه على العديد من الجداريات الخاصة ببعض الشخصيات العراقية والعربية المعروفة، كذلك يشتهر المقهى بإذاعة أغاني أم كلثوم بشكل شبه دائم.

مقهى كتاب في مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان بشمال العراق
مقاهي الكتاب في كردستان متى تستعيد عافيتها؟
كانت مقاهي الكتاب تستقبل خلال الأعوام الماضية إلى جانب رواد الكتب والقراء والمثقفين عددا كبيرا من طلاب الجامعات، لكن إغلاق الجامعات واعتماد نظام التعليم عن بعد تسبب بفقدان نصف أعداد زبائن هذه المقاهي حتى بعد تخفيف إجراءات الحجر الصحي وافتتاح المقاهي.
دشتي عباس، طالبة جامعية، كانت تمضي مع صديقاتها قبل الحجر الصحي يوميا ساعتين في إحدى مقاهي الكتاب بمحافظة السليمانية، تناقش خلال هذا الوقت بحث التخرج.

 

دمشق

يقول نعمان قساطلي في كتابه "الروضة الغناء في دمشق الفيحاء" إن عدد المقاهي الدمشقية بلغ 110 في القرن التاسع عشر، وتنوعت في الحجم وانتشرت في مختلف أرجاء العاصمة السورية.

كان مقهى "لونابارك" (سُميّ لاحقاً بـ الرشيد) أحد أشهر المقاهي الأدبية التي استضافت أنشطة ثقافية وفنية. واعتاد روّاده على مشاهدة العروض السينمائية نهاراً، وفي الليل يتحوّل لمسرح يعرض مسرحيات وأعمالاً فنية.

في سنة 1946، أغلق المقهى أبوابه بشكل جزئي. وبشكل نهائي أغلق نهاية القرن العشرين وهدم مبناه، ليُقام على أنقاضه المركز الثقافي السوفيتي.

مقهى آخر هو "الروضة" الذي تأسس عام 1937م، على أنقاض سينما قديمة. ويقع في شارع العابد مقابل مبنى البرلمان السوري.

لفترات طويلة، شهد المقهى سجالات ومناقشات بين النواب والسياسيين الذين كانوا يرتادون المقهى بعد الانتهاء من جلسات البرلمان. وفي نفس الوقت جذب إليه العديد من الأدباء والشعراء السوريين ومن دول عربية أخرى، مثل ممدوح عدوان، وأدونيس والعراقي سعدي يوسف.

بالقرب منه كان مقهى "البرازيل" الذي اشتهر إلى حد بعيد في مرحلة ما قبل الاستقلال، وكان المثقفون والوطنيّون السوريون يرتادونه ليتناقشوا حول مصير سوريا، الأمر الذي دفع السلطات الفرنسية لإغلاقه مرات عدة.

كذلك يوجد مقهى "الهافانا"، الذي كان قبلة للكثير من الأدباء والمثقفين من أمثال محمد الماغوط، وهاني الراهب، ومظفر النواب (عراقي)، وصدقي إسماعيل.

حديثاً، كان صاحب المقهى ينوي تحويله لمحل ملابس، لكن اعتراض العديد من المثقفين السوريين أدى بحكومة النظام لشرائه والحفاظ على الطابع التراثي الثقافي فيه.

 

بيروت

اشتهرت بيروت بانتشار العديد من المقاهي الثقافية في شوارعها. البعض منها تم إغلاقه وصار جزءاً من التاريخ، بينما تمكن البعض الآخر من الصمود حتى الآن.

من أشهر تلك المقاهي "فيصل" الذي يقع أمام البوابة الرئيسية للجامعة الأميركية في بيروت. تأسس في العقد الثاني من القرن العشرين، وبقي لعقود جزءاً لا يتجزأ من الحياة الفكرية في لبنان حتى أغلق أبوابه تحت وطأة الحرب الأهلية اللبنانية في نوفمبر 1985.

بشكل عام، شهد المقهى نقاشات حامية دارت في حقبة الثلاثينيات بين طلبة الجامعة والمثقفين البيروتيين. وفي الستينيات، كان المقهى أحد المعاقل الأكثر أهمية للحركة القومية في لبنان، سواء حزب "البعث" أو حركة القوميّين العرب، أو الأحزاب اللبنانيّة الخالصة، كحزب "الكتائب".

في الوقت ذاته، شهد "فيصل" ارتياد العديد من الشعراء والأدباء، مثل سعيد عقل الذي نظم على إحدى طاولات المقهى قصيدة "العروة الوثقى" الشهيرة، فضلاً عن بعض القصائد الرومانسية الغرامية.

كذلك كان المقهى المكان المفضل لأدباء وشعراء عرب، مثل بدر شاكر السياب (عراقي)، وغادة السمان (سورية)، ونزار قباني (سوري)، وعبد الوهاب البياتي (عراقي)، وإبراهيم طوقان (فلسطيني).

من جهة أخرى، تتواجد العديد من المقاهي الثقافية البيروتية الواقعة في شارع "الحمرا" الشهير الذي يقع في الناحية الغربية من العاصمة اللبنانية. يُعدّ مقهى "الويمبي" أحدها، خصوصاً أنه اشتهر باعتباره مركزاً لتجمع المثقفين البيروتيين في ثمانينيات القرن العشرين.

في 24 سبتمبر 1982، شهد المقهى هجوماً شنته جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية على بعض الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يرتادون المقهى، وحظيت تلك الحادثة بأهمية رمزية قوية لأنها اُعتبرت بداية أعمال المقاومة المسلحة ضد الوجود الإسرائيلي في لبنان.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".