عرفت المقاهي طريقها إلى البلاد العربية في بدايات القرن السادس عشر الميلادي، ولكن في سنة 1551، تم إغلاق العديد منها بعدما أصدر السلطان العثماني سليمان القانوني فرماناً ينص على تحريم شرب القهوة وإغلاق المقاهي في جميع أنحاء السلطنة.
وفي نهايات القرن الثامن عشر، بدأت ظاهرة المقاهي الثقافية في الانتشار عربياً لتتحوّل مع مرور الزمن إلى مراكز حيوية وهامة للحراك الفكري والأدبي.
يستعرض المقال أبرز هذه المقاهي والدور الذي لعبته في ثقافة المدن التي احتضنتها، وأبرز الأدباء الذين ارتبطت أسماؤهم بها.
القاهرة
كانت القاهرة أولى العواصم العربية التي احتضنت المقاهي الثقافية، وكان ذلك في عام 1869، عندما قام أحد المهندسين الإيطاليين ببناء مقهى "متاتيا" في عمارة كبيرة تطل على حديقة "الأزبكية" وترام "العتبة" ومبنى الأوبرا الكبير سابقاً.
بدأت شهرة المقهى بسبب ارتياده من قِبل المصلح والسياسي جمال الدين الأفغاني، الذي اعتاد إلقاء خطبه هناك، ليجمع أيضاً العديد من كبار السياسيين والمفكرين مثل أحمد عرابي وسعد زغلول وعبد الله النديم ومحمد عبده ومحمود سامى البارودي.
من جهة أخرى، ارتاد المقهى شعراء وأدباء بارزون، مثل حافظ إبراهيم، ومحمد المويلحي، وإبراهيم المازني، وعبد العزيز البشري.
في سنة 1932 توفى حافظ إبراهيم، وعانى "متاتيا" بعدها من انصراف الشعراء والأدباء عنه، لينتهي عصره ويتحوّل إلى حانة من الدرجة الثالثة قبل أن تغلق أبوابها.
وشهد عام 1999 النهاية الحتمية للمقهى، بعد أوامر المحافظة بهدم المبنى الذي يضمّ المقهى، نتيجة التصدّعات.
احتضنت القاهرة أيضاً مقهى "ريش" الذ أقيم عام 1908 على أنقاض قصر قديم لمحمد علي باشا يقع قرب ميدان "طلعت حرب" في وسط العاصمة المصرية.
لسنوات طويلة اعتاد الروائي نجيب محفوظ ارتياد هذا المقهى للقاء محبيه وتلاميذه. وكان من المعتاد أن يشهد المقهى إقامة اللقاء الدوري لمحفوظ في يوم الخميس أسبوعياً، وهو الأمر الذي رسم شخصية "ريش".
مع مرور الوقت، صار المقهى مركزاً وملتقى لعشرات المثقفين المصريين المتميزين، أمثال يحيى الطاهر عبد الله، وأمل دنقل، وإبراهيم أصلان، وثروت أباظة، ومحمد البساطي، وجمال الغيطاني، وعبد الرحمن الأبنودي، ويوسف القعيد وغيرهم.
شهد المقهى كذلك ولادة العديد من المشروعات الأدبية المهمة، كمجلة "الكاتب المصري" التي صدرت أواسط الأربعينيات. ومجلة "غاليري 68" التي ظهرت في أعقاب هزيمة 1967.
من جهة أخرى، حضرت ذكرى "ريش" في العديد من الأعمال الأدبية والفنية المهمة. على سبيل المثال، ذكرها شاعر العامية أحمد فؤاد نجم في إحدى قصائده الشهيرة التي غناها الشيخ إمام، فقال:
"يعيش المثقّف على مقهى ريش
يعيش يعيش يعيش
محفلط مزفلط
كثير الكلام..
عديم الممارسة عدوّ الزحام..."
بغداد
في كتابه "مقاهي الأدباء في الوطن العربي" تحدث الباحث رشيد الذوادي عن أشهر المقاهي الثقافية التي عرفها العراق في القرن العشرين، فوصفها أنها "مثلت العمق الشعبي وحلقات الاتصال بين الناس، وعمقت وجدانهم وإحساسهم بالتواصل".
كما أنها في الوقت نفسه، كانت "بمثابة المدارس الشعبية المفتوحة وذات الطابع المتميز" وفق الذوادي.
وأضاف أن المقاهي الأدبية البغدادية وصلت إلى منتهى ازدهارها في حقبة الأربعينيات من القرن العشرين. ومن أشهرها "مقهى الجسر القديم"، وهو مقهى صيفي كان يقع على مقربة من الجسر القديم الذي شُيد للربط بين منطقة الأعظمية ومنطقة الكاظمية.
في هذا المقهى اعتاد أدباء بغداد أن يلتقوا بالشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي، ليسمعوا منه قصائده ويناقشوه في أفكاره.
مقهى آخر هو "البيروتي"، الذي كان يُطل من جهة الكرخ على شاطئ دجلة. وكان في الأربعينيات ملتقى لنخبة من الأدباء والشعراء يتصدرهم توفيق الفكيكي، ومحمد الهاشمي، فضلاً عن جماعة من الأدباء والشعراء المتمسكين بنمط الأدب القديم والرافضين لأشكال الحداثة.
أما مقهى "الرشيد"، فكان أشهر المقاهي الثقافية البغدادية على الإطلاق. اُفتتح في شارع الرشيد وسط العاصمة عام 1940، وكان قبلة لكبار الشعراء والأدباء العراقيين، في طليعتهم محمد المهدى الجواهري، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي.
لا ننسى أيضاً المقهى "السويسري" الذي تأسس في منتصف الأربعينيات ويقع في الشارع نفسه، وكان المكان المفضل لأدباء الخمسينيات والستينيات. وشهد تأسيس رابطة أدبية شهيرة عُرفت باسم "جماعة الوقت الضائع".
مع مرور الأيام، تمكنت هذه الجماعة من نشر عدة كتب منها ديوان "خفقة الطين" لبلند الحيدري سنة 1946 ومجموعة قصصية باسم "أشياء تافهة" لنزار سليم.
حالياً، قل عدد المقاهي الثقافية في بغداد ولم يتبق منها إلا القليل، كمقهى "أم كلثوم" وصار اسمه "ملتقى الأسطورة". يقع في شارع الرشيد أيضاً، وتم تأسيسه في أواخر الستينيات، ويتميز بمحافظته على الديكور التراثي البغدادي واحتوائه على العديد من الجداريات الخاصة ببعض الشخصيات العراقية والعربية المعروفة، كذلك يشتهر المقهى بإذاعة أغاني أم كلثوم بشكل شبه دائم.
دشتي عباس، طالبة جامعية، كانت تمضي مع صديقاتها قبل الحجر الصحي يوميا ساعتين في إحدى مقاهي الكتاب بمحافظة السليمانية، تناقش خلال هذا الوقت بحث التخرج.
دمشق
يقول نعمان قساطلي في كتابه "الروضة الغناء في دمشق الفيحاء" إن عدد المقاهي الدمشقية بلغ 110 في القرن التاسع عشر، وتنوعت في الحجم وانتشرت في مختلف أرجاء العاصمة السورية.
كان مقهى "لونابارك" (سُميّ لاحقاً بـ الرشيد) أحد أشهر المقاهي الأدبية التي استضافت أنشطة ثقافية وفنية. واعتاد روّاده على مشاهدة العروض السينمائية نهاراً، وفي الليل يتحوّل لمسرح يعرض مسرحيات وأعمالاً فنية.
في سنة 1946، أغلق المقهى أبوابه بشكل جزئي. وبشكل نهائي أغلق نهاية القرن العشرين وهدم مبناه، ليُقام على أنقاضه المركز الثقافي السوفيتي.
مقهى آخر هو "الروضة" الذي تأسس عام 1937م، على أنقاض سينما قديمة. ويقع في شارع العابد مقابل مبنى البرلمان السوري.
لفترات طويلة، شهد المقهى سجالات ومناقشات بين النواب والسياسيين الذين كانوا يرتادون المقهى بعد الانتهاء من جلسات البرلمان. وفي نفس الوقت جذب إليه العديد من الأدباء والشعراء السوريين ومن دول عربية أخرى، مثل ممدوح عدوان، وأدونيس والعراقي سعدي يوسف.
بالقرب منه كان مقهى "البرازيل" الذي اشتهر إلى حد بعيد في مرحلة ما قبل الاستقلال، وكان المثقفون والوطنيّون السوريون يرتادونه ليتناقشوا حول مصير سوريا، الأمر الذي دفع السلطات الفرنسية لإغلاقه مرات عدة.
كذلك يوجد مقهى "الهافانا"، الذي كان قبلة للكثير من الأدباء والمثقفين من أمثال محمد الماغوط، وهاني الراهب، ومظفر النواب (عراقي)، وصدقي إسماعيل.
حديثاً، كان صاحب المقهى ينوي تحويله لمحل ملابس، لكن اعتراض العديد من المثقفين السوريين أدى بحكومة النظام لشرائه والحفاظ على الطابع التراثي الثقافي فيه.
بيروت
اشتهرت بيروت بانتشار العديد من المقاهي الثقافية في شوارعها. البعض منها تم إغلاقه وصار جزءاً من التاريخ، بينما تمكن البعض الآخر من الصمود حتى الآن.
من أشهر تلك المقاهي "فيصل" الذي يقع أمام البوابة الرئيسية للجامعة الأميركية في بيروت. تأسس في العقد الثاني من القرن العشرين، وبقي لعقود جزءاً لا يتجزأ من الحياة الفكرية في لبنان حتى أغلق أبوابه تحت وطأة الحرب الأهلية اللبنانية في نوفمبر 1985.
بشكل عام، شهد المقهى نقاشات حامية دارت في حقبة الثلاثينيات بين طلبة الجامعة والمثقفين البيروتيين. وفي الستينيات، كان المقهى أحد المعاقل الأكثر أهمية للحركة القومية في لبنان، سواء حزب "البعث" أو حركة القوميّين العرب، أو الأحزاب اللبنانيّة الخالصة، كحزب "الكتائب".
في الوقت ذاته، شهد "فيصل" ارتياد العديد من الشعراء والأدباء، مثل سعيد عقل الذي نظم على إحدى طاولات المقهى قصيدة "العروة الوثقى" الشهيرة، فضلاً عن بعض القصائد الرومانسية الغرامية.
كذلك كان المقهى المكان المفضل لأدباء وشعراء عرب، مثل بدر شاكر السياب (عراقي)، وغادة السمان (سورية)، ونزار قباني (سوري)، وعبد الوهاب البياتي (عراقي)، وإبراهيم طوقان (فلسطيني).
من جهة أخرى، تتواجد العديد من المقاهي الثقافية البيروتية الواقعة في شارع "الحمرا" الشهير الذي يقع في الناحية الغربية من العاصمة اللبنانية. يُعدّ مقهى "الويمبي" أحدها، خصوصاً أنه اشتهر باعتباره مركزاً لتجمع المثقفين البيروتيين في ثمانينيات القرن العشرين.
في 24 سبتمبر 1982، شهد المقهى هجوماً شنته جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية على بعض الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يرتادون المقهى، وحظيت تلك الحادثة بأهمية رمزية قوية لأنها اُعتبرت بداية أعمال المقاومة المسلحة ضد الوجود الإسرائيلي في لبنان.