صورة أرشيفية لمدينة تدمر الأثرية في سوريا- وكالات
صورة أرشيفية لمدينة تدمر الأثرية في سوريا- وكالات

تعمل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة ("اليونسكو") على الاهتمام بالمواقع الأثرية المنتشرة في دول العالم كافة. لذلك، أعدت المنظمة ما عُرف باسم "قائمة التراث العالمي"، وهي القائمة التي تتضمن العشرات من المواقع الأثرية القديمة التي تتعاظم أهميتها بسبب تاريخها الثقافي والحضاري. 

من جهة أخرى، أعدت "اليونسكو" قائمة ثانية بعنوان "التراث العالمي المعرض للخطر". في تلك القائمة، جمعت المنظمة المواقع المُهددة بسبب النزاعات العسكرية المسلحة، والزلازل، والتلوث البيئي، والتوسّع الحضري غير المنضبط، وغير ذلك من الأسباب التي من شأنها تهديد المواقع الأثرية. في هذا السياق، أُدرجت 7 دول عربية ضمن قائمة التراث العالمي المعرض للخطر، وهي: مصر، ليبيا، الأراضي الفلسطينية، سوريا، العراق، اليمن، ولبنان. نلقي الضوء في هذا التقرير على أهم المواقع الأثرية المُعرضة للخطر في هذه الدول.

 

سوريا

تحتوي سوريا على أكبر عدد من المواقع الأثرية المُعرضة للخطر بين الدول العربية. تتمثل تلك الأخطار في الصراعات العسكرية المسلحة التي بدأت منذ سنة 2011م، ولم تنته معاركها حتى اللحظة. من أهم المواقع الأثرية المتواجدة في القائمة، موقع "مدينة حلب القديمة" في شمالي سوريا. يحتوي الموقع على العشرات من الأبنية والمساجد والمنازل والأسواق. وفي سنة 1986م أعلنت اليونسكو الموقع جزءًا من التراث العالمي.

تحتوي سوريا أيضاً على موقع "مدينة بُصْرَى التاريخية". والتي تتبع محافظة درعا، وتقع على مسافة 140 كم من دمشق. بحسب المصادر التاريخية الإسلامية، كانت بصرى عاصمة دينية وتجارية مهمة على طريق الحرير القديم. وترتبط المدينة بذكرى خاصة في الذاكرة الإسلامية بسبب الروايات التي تذكر أن النبي محمد قد مر بها في شبابه قبل البعثة. وأنه قابل فيها الراهب بحيرى النصراني. والذي تنبأ بأن هذا الشاب سوف يصبح نبي العرب الذي بشرت به الكتب القديمة.

كذلك تحتوي سوريا على موقع "مدينة دمشق القديمة"، وموقع "المدن المنسية" التي تقع ضمن الحدود الإدارية لمحافظتي حلب وإدلب. ويعود بناؤها إلى الفترة بين القرنين الأول والسابع للميلاد. وتشتهر بكاتدرائية القديس سمعان العمودي التي كانت مكاناً للحج المسيحي لقرون طويلة.

تتضمن القائمة أيضاً قلعتي الحصن وصلاح الدين. تعود الأولى لفترة الحروب الصليبية، وتقع ضمن سلاسل جبال الساحل في محافظة حمص في سوريا. أما القلعة الثانية، فتقع في مدينة اللاذقية. وتعتبر واحدة من أهم قلاع القرون الوسطى المحفوظة في العالم. في سنة 2006م، سجل اليونسكو القلعتين على لائحة التراث العالمي.

أيضاً، تحضر مدينة تدمر التاريخية في قائمة المواقع الأثرية المُعرضة للخطر. تقع المدينة في محافظة حمص في الجزء الأوسط من سوريا. ويعود تاريخها إلى العصر الحجري الحديث. اشتهرت تدمر بثرائها الذي حققته من كونها مركزاً تجارياً مهماً على طريق الحرير الشهير. في القرن الثالث الميلادي، تمكن ملوك تدمر من الاستقلال عن الحكم الفارسي. وفي عهد الملكة الشهيرة زنوبيا تأسست مملكة تدمر الشهيرة. وخاضت الحرب ضد الإمبراطورية الرومانية قبل أن تُهزم وتفقد استقلالها. في 2015م، سيطرت عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" على موقع مدينة تدمر، وخرّبت ودمّرت الكثير من المواقع الأثرية المهمة في المدينة، قبل أن تستعيد القوات السورية سيطرتها عليها في العام 2017م.

Tourists visit Roman ruins in Palmyra, Syria, Tuesday, May 11, 2023. Palmyra was captured by the Islamic State militants in…
الاعتداء على قبر معاوية يجدد المخاوف.. من يحمي الآثار السورية؟
تعرّض قبر معاوية للتدمير في أيام العباسيين، وأعيد بناؤه أكثر من مرة، بحسب الباحث السوري تيسير خلف، و"لدينا شاهدة قبر من الفترة الأيوبية- المملوكية، ويبدو انه جدّد حينذاك". والاعتداء الذي وقع عليه مؤخراً كان لفظياً ولم يتعرض القبر لأي أذى ماديّ.

العراق

في تصنيفات "اليونسكو" تقع بعض المواقع الأثرية المُهددة بالخطر في العراق. على رأس تلك المواقع "مدينة أشور القديمة". تقع المدينة على بعد 60 ميلاً جنوبي مدينة الموصل حالياً في شمال العراق. وكانت عاصمة للمملكة الأشورية التي توسعت في الألف الثاني قبل الميلاد، قبل أن تسقط على يد الميديين والبابليين في سنة 612 ق.م.

في يونيو 2014م، سيطر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام على المدينة التاريخية. وتم تخريب بعض المواقع الأثرية قبل أن تتمكن القوات العراقية من استعادة السيطرة الكاملة على المنطقة في سبتمبر 2016م.

كذلك، تتضمن القائمة "مدينة سامراء التاريخية". تقع المدينة شرقي نهر دجلة في محافظة صلاح الدين، وتبعد 125 كيلومتر شمالي العاصمة بغداد. تتحدث المصادر التاريخية عن ظروف تأسيس وإعمار تلك المدينة في العصر العباسي. بحسب تلك المصادر، قرر الخليفة المعتصم بالله أن يبني تلك المدينة ويتخذها عاصمة لدولته بسبب كثرة الجند الأتراك في بغداد. تحكي بعض القصص أن هذا المكان كان مملوكاً لبعض الرهبان المسيحيين. وأن المعتصم اشتراه منهم بأربعة آلاف دينار. وعزم على أن يبني فيه مدينة جديدة "ونقل إليها أنواع الأشجار والغروس، واُختطت الخطط والدروب، وجدوا في بنائها، وشُيدت القصور، واُستنبطت المياه من دجله وغيرها وتسامع الناس وقصدوها، وكثرت بها المعايش"، بحسب ما يذكر شمس الدين الذهبي في كتابه "سيّر أعلام النبلاء".

حافظت سامراء على مجدها وعظمتها لما يزيد على نصف قرن. اتخذها المعتصم وخلفاؤه عاصمة لدولتهم الواسعة المترامية الأطراف. ودُفن فيها العديد من الخلفاء. كما شيّد الخليفة المتوكل سنة 245ه على أرضها المسجد المشهور بمئذنته الملوية.

بعد أن غادرها العباسيون، تعرضت سامراء للتهميش وعدم الاهتمام. قبل أن تتعرض للتخريب والتدمير إبان فترة الغزو المغولي للعراق في القرن السابع الهجري. قيل إن الناس غيروا اسمها في تلك الفترة ليصبح "ساء من رأى". وصف الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة الحالة المؤسفة التي أصيبت بها المدينة عند زيارته لها سنة 727ه. يقول ابن بطوطة: "...وقد استولى الخراب على هذه المدينة فلم يبق منها إلا القليل وهي معتدلة الهواء رائقة الحسن على بلائها، ودروس معالمها". في سنة 2007م، ضمت "اليونيسكو" سامراء إلى قائمة التراث العالمي.

شيد الخليفة المتوكل سنة 245ه في سامراء المسجد الجامع المشهور بمئذنته الملوية.
"عاصمة الخلفاء" و"منفى الأئمة".. قصة مدينة سامراء
تقع مدينة سامراء في وسط العراق. وتشغل أهمية كبرى في أوساط العراقيين، خاصة الشيعة في البلاد، باعتبارها المكان الذي دُفن فيه كل من الإمامين العاشر والحادي عشر علي الهادي والحسن العسكري. ما قصة هذه المدينة؟ وماذا كانت ظروف بنائها؟ وما أهم الأحداث في تاريخها؟ وما هي أسباب قداستها؟

اليمن

تتضمن القائمة ثلاثة مواقع يمنية مهمة. وجميعها مُهدد بسبب الحرب الأهلية اليمنية التي تدور منذ سنوات بين الحوثيين وقوات التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية. يُعدّ موقع "معالم مملكة سبأ القديمة" هو الموقع اليمني الأول في القائمة. يقع هذا الموقع في محافظة مأرب شرق اليمن، ويضم مواقع أثرية وبقايا مستوطنات كبيرة مع المعابد والأسوار التي تعود للألف الأول قبل الميلاد. في سنة 2023م، أُدرجت تلك المعالم على قائمة التراث العالمي وضمن قائمة التراث العالمي المعرض للخطر من قِبل "اليونيسكو". الموقع الثاني هو مدينة زبيد التاريخية، والتي تبعد عن العاصمة صنعاء مسافة 233 كم تقريباً. وكانت مدينة زبيد عاصمة اليمن من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر الميلاديين. أما الموقع الثالث، فهو مدينة صنعاء القديمة. والتي بدأت حضارتها منذ القرن الخامس قبل الميلاد. قبل أن تصبح عاصمة لمملكة سبأ في القرن الأول للميلاد. في العصر الإسلامي، صارت صنعاء واحدة من أهم الحواضر الإسلامية. وتميزت منازلها ومساجدها وأسواقها وأسوارها بطراز معماري رفيع المستوى. في سنة 1980م، تبنى "اليونيسكو" حملة دولية لحماية مدينة صنعاء القديمة والحفاظ على معالمها المعمارية. وفي سنة 2015م، أُدرجت في قائمة التراث العالمي المعرض للخطر، بعدما تعرضت بعض أحياء المدينة لقصف صاروخي من قِبل قوات التحالف.

 

 

فلسطين ومصر وليبيا ولبنان

تشهد القائمة حضور مجموعة أخرى من الدول العربية. في الأراضي الفلسطينية، يتواجد موقع "البلدة القديمة بالقدس". وهي المنطقة المُحاطة بسور سليمان القانوني. من المعروف أن البلدة تشهد أهمية كُبرى في الذاكرة الدينية الإبراهيمية. ففيها المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة اللذان يحظيان بمكانة كبيرة لدى المسلمين. وكذلك كنيسة القيامة لدى المسيحيين. فضلاً عن جبل الهيكل والجدار الغربي لليهود. في سنة 1981م، قامت "اليونيسكو" بضم البلدة القديمة في القدس إلى قائمة التراث العالمي.

في مصر، يوجد موقع منطقة "أبو مينا الأثرية" والذي يقع عند الحافة الشمالية للصحراء الغربية. اكتسبت المنطقة أهميتها بسبب احتوائها على مدفن القديس مينا. ولهذا السبب كانت المنطقة أحد أهم مراكز الحج المسيحي في القرون الوسطى. حالياً، تضم المنطقة مجموعة من الآثار القبطية والكنائس والأديرة. في سنة 2001م، أصبحت المنطقة مهددة بالخطر بسبب ارتفاع منسوب المياه الجوفية والأملاح في المنطقة.

في السياق نفسه، تتواجد بعض المواقع الليبية المهمة في القائمة. ومنها على سبيل المثال المواقع الأثرية في "مدينة صبراتة" الواقعة على بعد 70 كم غربي مدينة طرابلس، والتي تحتوي على عدد كبير من الآثار الرومانية. ومدينة "لبدة الكبرى"، التي تقع على بعد 120 كم شرقي مدينة طرابلس. وكانت من أهم مدن الشمال الأفريقي في عصر الإمبراطورية الرومانية.

في لبنان، يتواجد "معرض رشيد كرامي الدولي" في طرابلس. والذي أدرجته اليونسكو في القائمة في سنة 2023م. وجاء في حيثيات اختيار اليونسكو للمعرض "أنه يُعدّ من ناحية حجمه وغنى الأنماط الهندسية فيه، أحد الأعمال المهمة التي تمثل فن العمارة الحديث في القرن العشرين بالمنطقة العربية من الشرق الأوسط". مما يُذكر أن المعرض من تصميم المهندي البرازيلي الأصل أوسكار نيماير، وأن انتهاء تشييده تزامن مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات القرن العشرين. ويعاني الموقع من الإهمال ونقص الموارد المالية اللازمة لصيانته.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق
صورة تعبيرية لجامع النوري في الموصل شمال العراق

تحلُّ في منتصف الشهر الحالي ذكرى "المولد النبوي" الذي اعتبرته الحكومة العراقية إجازة رسمية لموافقته يوم 12 ربيع أول، وهو التاريخ الذي رجّحت المرويات التاريخية أنه شهد ميلاد الرسول محمد، استنادًا لمقولة ابن عباس "وُلد رسول الله عام الفيل، يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول".

بحسب الترتيب الزمني الذي أورده دكتور صلاح الدين بن محمد في دراسته "الإلزامات الواردة على بدعة الاحتفال بالمولد النبوي"، فإن أول من احتفل بالمولد النبوي هم الفاطميون سنة 362 هجرية بالقاهرة، وهي الاحتفالات التي استمرت في مصر حتى ألغاها أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي وزير المستعلي بالله سنة 490 هـ.

بعد سنوات من هذا الإلغاء سيكون للعراق الفضل في إعادة إحيائها مُجدداً لتنتشر بعدها في أصقاع العالم الإسلامي حتى اليوم، فما قصتها؟

 

البداية من الموصل

عاد الاحتفال بالمولد النبوي للظهور مُجدداً على يدي الفقيه عُمر بن محمد الموصلي، الذي تمتّع بمكانة اجتماعية كبيرة في الموصل شمال العراق بسبب فقهه وزُهده، فحاز شهرة كبيرة في العالم الإسلامي حتى تُوفي سنة 570 هـ.

بحسب كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" لأبي شامة المقدسي، فإن "زاوية الشيخ عمر" كانت محلاً لزيارة العلماء والفقهاء والملوك والأمراء. 

وامتلك الشيخ عُمر علاقة وطيدة بنور الدين زنكي صاحب حلب، إذ اعتاد الأخير مراسلة الشيخ عُمر لـ"استشارته في الأمور العِظام"،كما كان يزوره كل سنة في شهر رمضان لتناول الإفطار معه.

تعززت هذه المكانة حين خضعت الموصل لسُلطان نور الدين زينكي عام 566 هـ فأوصى وُلاته عليها بأن يستشيروا الشيخ عُمر في كل كبيرة وصغيرة، حتى نال لقب "المولى".

بحسب أبي شامة المقدسي فإن الشيخ عُمر هو الذي أشار على نور الدين بشراء قطعة أرض خراب في وسط الموصل وحوّلها إلى مسجد أنفق على بنائه أموالاً كثيرة، هو "جامع النوري" الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

لم يكن "جامع النوري" هو أكبر إنجازات الفقيه الموصلي إنما إعادة إحياء الاحتفال بـ"المولد النبي"، أيضاً. وبحسب كتاب "خدمات الأوقاف في الحضارة الإسلامية إلى نهاية القرن العاشر الهجري"، كان الشيخ عُمر كان يقيم في كل سنة داخل زاويته احتفالاً بميلاد الرسول محمد، يوجّه فيه الدعوة لحاكم الموصل وكبار رجال الدولة للحضور إلى الزاوية حيث تُقدّم لهم الأطعمة والمشروبات ويستمعون للشعراء الذين حضروا هذه الاحتفالية للتنافس على إنشاد قصائد المدح النبوي.

تزامن هذا الاحتفال مع الاهتمام الجماعي الذي أبداه أهل الموصل طيلة العهد الأتابكي بمناسبة "المولد النبوي"، فكانوا يعتادون تزيين الدور والأسواق ويتجمهرون في المساجد.

في كتاب "رسائل في حُكم الاحتفال بالمولد النبوي"، لم يستبعد مؤلّفوه أن يكون الشيخ عُمر وغيره من أهل الموصل مالوا لإقامة هذه الاحتفالات كأحد أشكال تأثرهم بالفاطميين، الذين أقاموا صلات مباشرة بحكام الموصل على مدار سنوات طويلة، في إطار مساعيهم لإسقاط دولة الخلافة العباسية في العراق.

وذكر كتاب "تاريخ الموصل" لسعيد الديوه جي، أن أبرز حكام الموصل الذين رحبوا بهذا التقارب، هم  أمراء الدولة العقيلية الشيعية مثل حسام الدولة المقلد العقيلي (386 هـ- 391 هـ) وولده معتمد الدولة قرواش، اللذين حافظا على علاقات جيدة مع خلفاء مصر حتى أن قرواش أعلن تبعيته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 401 هـ، وهي خطوة لم تدم كثيراً بعدما تراجع عنها سريعاً بسبب تهديدات الخليفة القادر العباسي له بالحرب.

ووفق كتاب "الإعلام بفتاوى أئمة الإسلام حول مولده عليه الصلاة والسلام" لمحمد بن علوي الحسني، فإن الشيخ عُمر بعدما بات أول مَن احتفى بالمولد النبوي في العراق اقتدى به صاحب أربيل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين بن بكتكين الحليف المخلص لصلاح الدين الأيوبي سُلطان مصر.

أربيل: مهرجان ديني حاشد

عمل زين الدين والد الملك المظفر الدين كوكبري والياً على الموصل، فحقّق نجاحاً كبيراً حتى أنه عندما مات سنة 563 هـ كان عدد من المدن الكبرى في العراق خاضعاً لحُكمه مثل: أربيل، شهرزور، تكريت، سنجار، حرّان وغيرها.

بعدما توفي زين الدين ورث ابنه مظفر الدين كوكبري حُكم أربيل، ولكن لصِغر سنه تولّى شؤون الإمارة أحد مماليك والده الذي خلع كوكبري عن الحُكم ونصّب بدلاً منه أخوه، هنا استعان كوكبري بصلاح الدين الأيوبي الذي أعاده أميراً على أربيل في 586 هـ.

يحكي عبد الحق التركماني في كتابه "ابن دحية الكلبي وكتابه (التنوير في مولد السراج المنير والبشير النذير)": "أخذ كوكبري عن الشيخ عُمر هذه البدعة وطوّرها وتفنن في إقامتها وبذل أموالاً عظيمة في ذلك".

وأورد كتاب "إمارة أربل في العصر العباسي" للدكتور سامي الصقار، أن كوكبري بدءاً من سنة 604 هـ "أولى اهتماماً بإقامة مهرجان ضخم للاحتفال بمولد النبي يتضمن العديد من الفعاليات التي لفتت انتباه الكثيرين من مختلف أنحاء العالم".

ووصف إحياء المناسبة: "في شهر محرم من كل عام هجري يبدأ توافد عوام المسلمين من بغداد والجزيرة ونصيبين وغيرها من البلاد على أربيل، بالإضافة إلى جماعات من الفقهاء والصوفية والشعراء، ومع بداية شهر ربيع الأول يأمر كوكبري بنصب قباب من الخشب المُزين تُخصص كل منها لاستضافة عروض رجال الأغاني والخيالة وأصحاب الملاهي، وكان الناس يزدحمون حول خيامهم لمشاهدة عروضهم".

قبل الاحتفال بيومين كان منظمو المهرجان يطلقون مسيرة ضخمة تتكوّن من مئات الإبل والبقر والغنم التي تزفّها الطبول إلى ميدان كبير تُنحر فيه وتُطبخ ثم يوُزع لحمها على الحضور، كما ذكر الكتاب.

في اليوم الأول للمهرجان كان كوكبري يحضر الاحتفال بصحبة الأعيان والفقهاء وعوام الناس لمشاهدة عروضٍ عسكرية يقوم بها بعض جنود الجيش، بعدها تُقام موائد طعام ضخمة للحضور، 

وقدر حسام الدين قِزغلي (حفيد ابن الجوزي) في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، أن أسبطة الطعام كانت تضم "100 فرس مشوية منزوعة العظام، و5 آلاف رأس غنم و10 آلاف دجاجة و30 ألف صحن حلوى".

بعد الانتهاء من الطعام، كان كوكبري يكرّم عدداً من الأعيان والفقهاء وكبار الضيوف ويوزّع عليهم الأموال. ووفق تقديرات المؤرخين فإن هذه الاحتفالات الضخمة كانت تكلف ما يزيد عن 300 ألف دينار (عملة تلك الفترة).

كيف يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في البلدان العربية؟
يعبّر المسلمون -في كل مكان- عن حبهم للنبي من خلال مجموعة من الطقوس والشعائر الفلكلورية الشعبية المتوارثة، والتي تتنوع وتتباين باختلاف الثقافة والمكان. نرصد في هذا التقرير أهم المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في مجموعة من الدول العربية.

يقول الصقار "رغم ما اشتهرت به احتفالات الخلفاء الفاطميين بالمولد النبوي من بذخٍ شديد فإنها على فخامتها تُعدُّ متواضعة إذا ما قُورنت باحتفالات أربيل، إذ كانت الحفلات الفاطمية تقتصر على ليلة واحدة تُقدم فيها الحلوى والأطعمة ثم يرتّل القرآن وتُنشد القصائد في حضرة الخليفة الفاطمي، بعكس احتفالات أربيل التي كانت تستغرق عدة أيام".

هذا الاحتفاء المهيب استدعى إشادة شهاب الدين أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، حيث قال "من أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل في مدينة أربيل في اليوم الموافق ليوم ميلاد النبي من الصدقات وإظهار الزينة والسرور".

أحد أشهر حضور هذا "المهرجان النبوي" كان المؤرّخ عمر بن الحسن حفيد الصحابي دِحية الكلبي الذي شاهد الاحتفالات 625 هـ وألّف عنها كتاباً بعنوان "التنوير في مولد السراج المنير" قرأه بنفسه على حضرة الملك فأجازه وكافأه بألف دينار.

وفيه تحدّث عن شهادته على ليلة المولد في "إربل المحروسة" وعن لقائه بـ"أفضل الملوك والسلاطين"، حسبما ذكر دكتور أنس وكاك في بحثه "قبسٌ من (التنوير في مولد السراج المنير) للحافظ أبي الخطاب بن دحية الأندلسي".