صورة للعائلة تنشر بإذن خاص
صورة للأم والأب

واشنطن - رابح الفيلالي:

الوقت ضيق جدا وعليك أن تحضر بأقصى سرعة ممكنة.

كانت هذه الكلمات هي أسوأ ما يمكن أن يصل إلى أسماع الشاب العشريني نشوان نمير من مشفى ديترويت حيث ترقد والدته ندى التي أصيبت بالفيروس وظلت تقاومه بشراسة إلى أن خارت قواها، وهي الآن تُهيأ لتوضع تحت جهاز التنفس الاصطناعي، لكن قلبها حدثها بأسرار الأمومة الدفينة فطلبت أن تتحدث إلى ابنها البكر قبل أن تنقل إلى الجهاز.

كان الطريق طويلا جدا على قصر المسافة وأفكار العالم جميعا تملأ عقل الشاب العاشق لتفاصيل الأمومة المقيمة في كل نفس من والدته وهو يدخل باب غرفتها.

تقول ندى وهي تخنق دمعها: "كن قويا.. أنا أحبك ابدا.. لأجل شقيقتيك ووالدك. كن أنت الأقوى لأجلنا جميعا ولأجل أحلامنا تلك التي حملناها من العراق إلى هنا".

سيل من الدموع وابتسامة مرتعشة ويد تحضن العين قبل الكف قبل أن تطلب ممرضة التخدير منه وفي أدب غامر منه الانصراف ليكمل الفريق الطبي إجراءات نقلها إلى الجهاز. 

لم تكن ندى تعرف أن هذه هي لحظتها الأخيرة من الحياة، كما لم تكن تدرك أن كلماتها تلك هي الأخيرة التي سوف يسمع نشوان منها وهي تدخل غيبوبة طويلة والتي لم تستيقظ منها أبدا.

 تجهز الآن ندى لتنقل الى الكنيسة المجاورة لبيت العائلة والمخصصة للطائفة الكلدانية التي تعيش بولاية ميشيغان وهي جالية واسعة هنا ولديها تاريخ طويل من الهجرات المتعاقبة من الوطن الأم العراق بحثا دائما عن حياة أفضل.

يتحامل على خطوه الثقيل نشوان وهو يسير خلف العربة التي تجر جثمان والدته ويضم يدي الشقيقتين الصغيرتين، لكن مواجهة هذه اللحظة المزلزلة ستكون أقل صعوبة من تلك اللحظة الأكثر قسوة التي تنتظره بعد الفراغ من إجراءات الدفن.

إنها اللحظة التي سيخبر فيها والده الذي يرقد هو الآخر بنفس المشفى وبنفس الجناح ويواجه نفس المصير نتيجة إصابته هو الآخر بفيروس كورونا في نفس الظروف والفترة الزمنية التي أصيبت فيها الزوجة ندى.

لا تقول اللغة هذا النوع من الأوجاع.

تكرمت السماء بأن رفعت الوجع والألم عن نشوان لأن الوقت كان ضيقا مرة أخرى ولم يتسع سوى لزيارة هي الأخرى كانت قصيرة وعلى عجل ليرى والده للمرة الأخيرة قبل أن يوضع هو الآخر على جهاز التنفس الاصطناعي.

 كان الأمل في النجاة كبير جدا وكانت العيون تتوجه إلى السماء سؤالا لرحمتها بهؤلاء الأبناء الثلاثة الإيتام والغرباء في مدينة أميركية وصلوها قبل ثماني سنوات هروبا من الوطن الأم وبحثا عن فرصة لجوء بالولايات المتحدة تطلعا إلى حياة أفضل ومستقبل أجمل للابن وللبنتين خاصة وأن جميعهم التحقوا بالجامعات والمدارس. وبدا للحظة وكأن الحلم داك بدأ يخطو خطوه الجميل في حياة عائلة نمير.

لم يكن ذلك إلا الرجاء الذي لن يتحقق، فالأخبار التي تأتي من المشفى ليست مطمئنة على الإطلاق.

يقول الأطباء إن حالة الأب ايرام لا تحقق التقدم المرجو وإن استجابته للعلاج محدودة جدا.

يزداد النبض والقلق والخوف والسؤال هو إن كانت قلوب الأطفال الثلاث تتسع لصدمة ثانية خلال فترة لا تتعدى الأسبوعين.

كانت السماء رحيمة بقلوبهم الهشة وأعطتهم خمسة أيام إضافية لا أكثر ليأتي الخبر الآخر وهو إعلان وفاة الوالد ايرام هو الآخر نتيجة مضاعفات الإصابة بالفيروس والعجر على إنقاذه رغم محاولات الفريق الطبي الحثيثة لأجل ذلك.

بات على نشوان العشريني أن يتعامل مع هذا الواقع الجديد في حياته بأن يكون الشقيق والأب والأم للبنتين اليافعتين في مدينة يلخصها بكلمة واحدة "لا أقارب لنا فيها".

لكن قبل الحديث عن المستقبل وتحدياته الخرافية أمام نشوان، عليه أن يتم إجراءات الدفن لجثمان الوالد كما يليق به محبة وإكراما.

 لم تكن الصدمة صدمة نشوان وشقيقتيه فقط، بل كانت الصدمة شاملة للعرب الأميركيين في مدينة توصف عادة بأنها عاصمة العرب في أميركا.

حضر كثيرون إلى جنازة الأب وقف الجميع مدهوشا أمام جلالة اللحظة وعظيم المصاب في حياة هذه العائلة.

 لم تكن هناك كلمات كافية للعزاء ولم تكن هناك دموع كافية هي الأخرى للمواساة ولم يكن هناك ممكن لأكثر من الحضور إلى المقبرة مع التزام كامل بشروط السلامة التي تحددها سلطات الولاية المغلقة بالكامل هي الأخرى بسبب إجراءات العزل والحجر الصحي.

عندما انصرف الجميع كان على نشوان وشقيقتيه العودة الى ذلك البيت الذي كان قبل أيام فقط تملؤه أم بابتسامتها العريضة وأب بحضوره الجميل واحلامه التي لا تنتهي في أطفاله الثلاث.

لم يبق في المكان سوى ضجيج تلك الذكريات التي لا تفارق القلب والعقل معا، وتلك الصور التي تملأ كل زاوية من البيت.

كان عليه أن يكبر على حزنه، وأن يسأل عن طلبات شقيقتيه لليوم التالي، ويراجع قوائم الفواتير ويتعامل مع الوضع كرجال الثلاثين والأربعين من العمر لأن الحياة ومنذ هذه اللحظة لن تكون بالنسبة إليه كما كانت أبدا.

بعد انتظار لأيام ثلاث اتسع الوقت هذه المرة ليقول لي نشوان إنه الآن صاحب المسؤولية الكاملة في هذا البيت.

إنه يعي تماما خياراته وهي واضحة جدا بالنسبة إليه، وهي الدفع بشقيقته إلى مواصلة حياتهما بالطريقة العادية، وعليه أن يتحمل مسؤولية رعايتهما في البيت والعمل خارج البيت لاستمرار هذه العائلة.

ليس لدي نشوان الكثير من الكلمات سوى أنه يقول إنه وبسبب إجراءات الحجر والعزل الاجتماعي إنه وشقيقتيه يوجدون في البيت كل الوقت ولا يملكون سوى التعامل مع الحقيقة الجديدة في حياتهم وسؤال الله أن يكون الآتي أفضل لهم وللناس جميعا.

زينة اتيشة صديقة العائلة التي لا ينقطع تواصلها معهم على مدار الساعة تقول إن المحزن في كل هذا الذي يحدث هو أن لا أحد بإمكانه أن يكون بالقرب من الأبناء الثلاث في هذا الوقت العصيب جدا بسبب إجراءات البقاء في البيوت.

وتضيف: "لكن الأكثر ألما من ذلك أن لا أحد  كان بإمكانه زيارة الأم ندى أو الأب نرام في أيامهما الأخيرة بالمشفى وكل ذلك بسبب المخاوف من عدوى فيروس كورونا".

نشوان الذي اختار أن يوثق كل لحظة من لحظات فقده العظيم على هاتفه النقال كتب على صفحته في الفيسبوك يقول: "وداعا يا ملاكي الجميل أنا لن أنساك أبدا".

كتب ذلك في يوم وداعه لأمه، أما عن لحظة وداعه لوالده يبدو أن الوقت لم يسعفه حتى الآن ليجد الكلمات لوداعه أو ربما لم تعد له كلمات ليقولها أمام جلال الفقد المركب والعظيم وخلال فترة زمنية لا تتعدى الأسبوعين.

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.