عراقية ناجية من العنف الأسري: أحاول أبني حياة وسط الخراب
آلاف حالات العنف ضد النساء يتم تسجيلها سنوياً في العراق، ولكن سارة وأمها، كانتا دوماً خارج الإحصائيات في بغداد، لأنهما لم تقدما شكوى، ولأن أحداً من أقاربهما، لم يكترث.
كان عمر سارة سبع سنوات حين بدأت تتلقّى الضرب على جسدها، خصوصاً ظهرها، من والدها، الذي كان يضرب أمها وإخوتها أمامها أيضاً.
هذا الضرب كان "بمناسبة وغير مناسة.. لسبب وغير سبب" حسبما تقول، إلا أنها في سن العاشرة، وقفت لتحمي أمها من أبيها، وتتلقى كل الضرب عنها. حينها عبرت بطريقتها للمرة الأولى بأنهما لا تشعران بالأمان.
حاولت سارة، قبل منتصف الليل بقليل الاستنجاد بعمّها وبعض أقاربها المقيمين في الحيّ نفسه، حيث تعاظم ضربهما باستخدام الصونده (خرطوم مياه بلاستيكي).
"لم يُظهر أي رد فعل. عافونا وحدنا، ولم ينقذنا أحد" تقول سارة عن أقاربها، وهي التي عاشت سنوات طويلة وسط غياب "رد الفعل" على الضرب، حتى من أمها، التي استكانت تحت ضغط عائلتها "ارجعي من أجل الأولاد".
وفي اليوم الثاني بعد هذه الليلة الطويلة التي لا تنساها سارة "كان كل شيء طبيعياً، كأن شيئاً لم يحدث أمس" وفق تعبيرها.
وحسب منظمة الصحة العالمية، تعرضت سارة وأمها لما يُعرف بـ"عنف العشير"، والعشير قد يكون أحد الأقرباء (الأب / الأخ/ وغيرهما) أو الزوج أو الصديق، ومنه تأتي مفردة العِشرة، التي تعني المخالطة والمصاحبة والمعايشة.
"وﺗﺘﻌﺮض واﺣﺪة ﻣﻦ ﺛﻼثة ﻧﺴﺎء وﻓﺘﻴﺎت ﻟﻠﻌﻨﻒ اﻟﺠﺴﺪي أو اﻟﺠﻨﺴﻲ خلال ﺣﻴﺎﺗﻬﻦ، ويكون ﻓﻲ ﻣﻌﻈﻢ اﻷﺣﻴﺎن من طرف عشير" حسب المنظمة نفسها.
توقف والدهما عن "الضرب الجماعي" لأبنائه الذكور وابنته الوحيدة وأمهم، ليس لأنه بات "أكثر وعياً واعتذر عمّا يقوم به" كما تمنت ابنته، إنما لأنه أصيب بمرض أفقده قوّته وتفوقه البدني عليهم.
هذا الأمر خلق شعوراً متناقضاً لدى سارة، فهو في نهاية الأمر: أبوها.
ماذا تقول عن ذلك؟ وكيف تعيش الحياة منذ خمس سنوات، أي بعد شبه النهاية لكابوس العنف الذي طغى على طفولتها ومراهقتها؟ وبماذا تحلم؟
"شوية حريّة"
لم يكن من السهل على سارة (22 عاماً) مشاركة "ارفع صوتك" تجربتها، خصوصاً أنها لا تزال تعيش في نفس البيت الذي شهد تعنيفها وأمها، وهو بمثابة استعادة لذاكرة صعبة.
تبعث رسائلها الصوتية بالسّر، بنبرة تقف فيها الدمعة على طرف العين بداية، ثم نفس العين تبدو في صوتها حالمة طامحة بالمستقبل، فهذه المقابلة بمثابة "فرصة" لسارة للتعبير عن نفسها ورواية ما لا يُروى من قصص نساء أخريات، حسبما أكدت لنا.
تقول سارة "الكثير من النساء يعشن ظروفاً أتعس منّي ولا يستطعن الكتابة بعضهن أميّات وليس لهن صوت، كما لا يمكنهن الكلام. هذه فرصتي لإيصال أصواتهن".
"منذ زمن أخذت قراراً ألا أكون مجرد إنسانة واقفة على الحياد" تؤكد سارة، التي توشك على التخرج من الجامعة، التي مثلّت لها نافذة أمل لمستقبل أفضل.
وإن كان أبوها توقف عن ضربها بسبب مرضه، فإن بعض إخوتها سلكوا نفس مسلكه، وهم الذين كانوا يُضربون على يده معها، أطفالاً.
تروي سارة لـ"ارفع صوتك": "آخر ضربة تلقيتها من والدي وأنا في عُمر 16 سنة، كان أن أنهيت مكالمة تلفونية مع أمي وهي خارج البيت، بالتزامن مع وصول أحد إخوتي، الذي سحب الهاتف مني بعنف، متهماً إياي بأنني أكلم شاباً، وحدث شجار قوي بيننا. بعد بعد ذلك شربت حبوباً دوائية بنيّة الانتحار، وتُركت في مكاني نحو نصف ساعة، حتى وصلت أمي البيت، وحين جاء أبي وعلم بالأمر، ضربني على ظهري، بدل أن يتكلم معي أو يأخذني للمستشفى".
وفي بداية السنة 2020 "حدثت مشكلة في البيت في البيت كانت أمي الملامة فيها، فدافعت عنها، ولأنني بنت عليّ ألا أتكلم أو أرفع صوتي، حسبما يعتقد إخوتي، ليقوموا بضربي" تتابع سارة.
وعن المفارقة في مرض أبيها الشديد والتوقف عن ضربها، تقول سارة "شعرت بالحزن صحيح، لكني في نفس الوقت حصلت على شوية (القليل) حريّة".
وتضيف "في البداية تساءلت: هل أنا إنسانة سيئة أم جيدة؟ هل يُعقَل أنني فرحانة بمرض أبي؟.... كان يجب أن تكون الحياة منصفة أكثر، بحيث يعي أخطاءه ويعتذر لنا عن كل شيء".
وتوضح أن الموضوع لم يكن مقتصراً على الضرب، بل التحكم بشكل كبير في مظهرها، حتى وهي طفلة صغيرة.
تروي سارة "أتذكر في أحد الأعياد، كان عمري 10 سنوات، وذاهبة مع أمي لبيت جدّي، أرتدي تنورة قصيرة، فقام أبي بإرجاعنا للبيت، ومنعني من الخروج، وحرّض إخوتي ضدّي، وبقيت متروكة أبكي..."
"منذ طفولتي وأنا أرتدي عباءة وتنانير طويلة، كنت مثل عجوز، لا شيء في يشبه الطفولة. حتى طلاء الأظافر منعت منه، لأنه برأي أبي (حرام)" تتابع سارة.
القليل من الحرية الذي نالته سارة بعد مرض أبيها، لم يقتصر على مظهرها الخارجي، بل أيضاً كان في دخولها الجامعة، ووصولها لسنة التخرّج، على الرغم من الضغوط الكبيرة في محيط عائلتها الممتدة على أمها لتزويجها.
تقول "لولا أمي التي رفضت تزويجي صغيرة أسوة ببنات خالاتي، لما كنت اليوم هنا. فمنذ كان عمري 17 سنة والنساء في عائلتنا يمارسن الضغط عليها أو يسمعنني كلاماً جارحاً".
"التعليم الجامعي كان بمثابة طفرة في حياتي، تغيرت، وتغيرت ثقافتي، وفي موقع تويتر صرت أدافع عن النساء. لكن حتى في المجال الافتراضي نتعرض للتهديد، والتحريض ضدنا كنسويّات عراقيات، وبسبب الحملات ضد نسويات أخريات، لم أعد أستطيع التعبير عن كل ما يخطر في نفسي" تقول سارة لـ"ارفع صوتك".
وحيث كانت الجامعة نافذتها الأولى لعالم مختلف، مثلت فترة الانقطاع عن الدوام والبقاء في البيت تبعاً لأزمة جائحة فيروس كورونا، أسوأ ما جرى لها خلال 2020، وأصيبت إثر ذلك بالإحباط والاكتئاب، فهل ما زالت كذلك؟
كيف الشفاء؟
"عشت نحو سنة ونصف- قبل كورونا وبعدها- مع الاضطرابات النفسية والقلق والاكتئاب، وبدأت آثاره تظهر على صحتي الجسدية، كنت كلما سمعت صوت أبي أشعر بنبضات قلبي تتسارع وأنكمش على نفسي، وأحياناً بدون سابق إنذار. سنة 2020 كانت الأسوأ" تصف سارة أزمتها النفسية.
لكنها قالت "كافي" وبدأت مرحلة العلاج النفسي لها بنفسها، مشيرة إلى استعانتها بالكتب في هذا المجال.
صارت تقرأ أكثر، وتمارس الرياضة في مساحة ضيقة داخل بيتها، حيث اختارت تمارين مناسبة، وصارت تكتب، وترسم، لتفريغ المشاعر التي تنتابها.
تقول سارة "كنتُ أعبر أحيانا عن آلامي وأحزاني في تويتر، فلا أجد تعاطفاً، بل اللوم واتهامي بأنني سلبية، لذا قررت قضاء وقت أكثر مع نفسي، والتأمل، لمعرفة ما أريد حقاً".
وتتابع "مرّات أقع لكنني أقوم بناء على قناعتي بأن أحداً لن ينقذني، سوى أنا".
كما تعمل سارة على تطوير مهاراتها في اللغتين العربية والإنجليزية، وبرامج الحاسوب، أملاً منها بتحسين فرصتها في الحصول على عمل مباشرة بعد التخرّج.
أحلام سارة؟
لسارة هدف كبير في المجال العام، بأن تحاول نقل صوت النساء المعنّفات وألا تعيش فتاة أخرى تجربة مشابهة لما عاشته، وهدف آخر لها بأن تصبح امرأة "مستقلة تعيش حياتها كما تحب وترتدي ما تحب وتعمل في المكان الذي تحب".
ولسارة حلم، ربما يجده الكثير من القرّاء بسيطاً جداً، لكنه إلى الآن في قوام المستحيل ضمن الحياة التي تعيشها، تقول "أريد فد يوم أطلع أصور بشوارع بغداد القديمة، أحب أصور وأحب أمشي، ولازم أحقق هذا الحلم".
حتى ما يملّه بعضنا، مثل المشاركة في تدريبات أو ورشات عمل، هو حلم أيضاً بالنسبة لسارة.
"أريد أحضر دورات فعاليات وأتطوع وأسافر، وأبني ذكريات" تضيف الشابة العشرينية.
وعن الذكريات، طالما شعرت أنها عاشت طفولة بلا ذكريات جميلة يمكن استعادتها، حيث حرمتها دوّامة العنف التي علقت فيها لسنوات، من ذلك.
وفي آخر رسالة صوتية عبر تطبيق "واتساب" بعثتها سارة، ابتسمت وقالت "لا أعرف إن كانت قصتي ملهمة، لكنّي سأظل أقاوم. أريد أن أبني حياة وسط الخراب وقلّة الإمكانيات".