أرشيفية تعود لعام 1985 (جندي عراقي)- AFP
أرشيفية تعود لعام 1985 (جندي عراقي)- AFP

سنة 1980 اندلعت الحرب بين العراق وإيران بسبب النزاع الحدودي، واستمرت ثماني سنوات متواصلة، لجأ فيها كلا النظامين السياسيين إلى كافة أنواع الدعاية لتقوية مركزيهما خلال الحرب.

وتعددت أشكال تلك الدعاية فأخذت الصورة الدينية المذهبية تارة، كما اتشحت بالقومية والعرقية تارة أخرى. 

 

الطريق إلى الحرب

في الوقت الذي خضعت إيران لحكم الملالي الذي أعقب انتصار ما عُرف بـ"الثورة الإسلامية" أو "الانقلاب على حكم الشاه"، كان العراق تحت حكم حزب البعث الاشتراكي، يتزعمه صدام حسين وهو رئيس البلاد.

آنذاك، كان صدام يخشى من تزايد النفوذ الإيراني في العراق، وحاول أن يحد من انتشار أفكار "الثورة الإسلامية"، خصوصاً بين العراقيين المسلمين أتباع المذهب الشيعي، الذين يحترمون ويبجّلون آية الله الخميني.

من جهة أخرى، أراد صدام أن يسيطر على ضفتي شط العرب الذي جرى تقاسم السيطرة عليه بين العراق وإيران بموجب "اتفاقية الجزائر" التي أُبرمت بين الجانبين عام 1975.

هذه الأسباب، أدت لنشوب الحرب بين العراق وإيران رسمياً في سبتمبر 1980، وتبادل الطرفان المبادرة بالهجوم على مدار ثمانية سنوات كاملة. وفي أغسطس 1988، انتهت الحرب بعدما وافق الطرفان على وقف إطلاق النار دون شروط.

عُدت تلك الحرب أطول الحروب التي عرفها القرن العشرين، وانتهت من دون تحقيق أي انتصار صريح لأي من الطرفين، بينما كانت الخسائر البشرية والمادية فادحة.

 

"قادسية صدام"

عُرف حزب البعث العراقي بتوجهاته القومية العلمانية الاشتراكية، لذلك لم يهتم قادته بالدعاية الدينية إبان حرب الخليج الأولى، بل ركزوا -بالمقام الأول- على مسألة العروبة باعتبارها الراية القومية التي يمكن رفعها في الحرب ضد الإيرانيين "الفرس" .

بدأت مظاهر الأيديولوجية البعثية القومية في فترة سابقة من اندلاع الحرب مع إيران، يمكن ملاحظتها في سبعينيات القرن الماضي، حيث تم تغيير أسماء العديد من المحافظات العراقية لتحمل الأسماء الجديدة صبغة عربية خالصة. مثلا، تم تغيير اسم الناصرية في جنوبي العراق إلى ذي قار، ومن المعروف أن ذي قار هو اسم لواحدة من المعارك الشهيرة التي دارت بين العرب والفرس، وحقق العرب انتصاراً ساحقاً في تلك المعركة، فيما اعتبر ارهاصاً مبكراً بحركة التوسعات العسكرية الإسلامية التي ستتم في القرن السابع الميلادي.

كما تم تغيير اسم محافظة الديوانية الواقعة في منطقة الفرات الأوسط إلى "القادسية"، وتغيير اسم محافظة كركوك إلى "التأميم".

مع بدايات حرب الخليج الأولى، ركز صدام على موقعة "القادسية" تحديداً في جميع الوسائل الإعلامية المسموعة والمرئية، بهدف الربط بين حربه وهذه المعركة، حتى أن وزارة الثقافة حينها أنتجت فيلماً بعنوان "القادسية"، تم عرضه في يوليو 1981، كان من إخراج المصري صلاح أبو سيف، ومثلت فيه ثلة من أشهر النجوم العرب: سعاد حسنس، عزت العلايلي، محمد المنصور، سعدية الزيدي.

قُدرت تكاليف إنتاج الفيلم بحوالي 4 ملايين دينار عراقي ( حوالي 15 مليون دولار وقتها)، وكانت ميزانيته الأعلى في تاريخ السينما العربية حتى توقيت عرضه.

كان الهدف الأهم من الفيلم الاستحواذ على تعاطف الشارع العربي في الحرب ضد الجانب الإيراني، وهو ما لم يحققه، إذ عُرض على نطاق محدود في بعض قاعات السينما في عدد من الدول العربية، ومُنع عرضه في الدول العربية المساندة للجانب الإيراني مثل سوريا وليبيا.

كما فشل الفيلم في الحصول على الموافقة اللازمة من جانب الأزهر بمصر، بعدما أصدرت لجنة الدراسات والأبحاث الإسلامية بيانا رفضت فيه عرض الفيلم بسبب تجسيده لشخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وهو واحد من العشرة "المبشرين بالجنة" الذين ترفض المؤسسة الأزهرية تجسيدهم في أي عمل فني.

في السياق نفسه، حاول النظام العراقي أن يروج لنفسه في تلك الحرب باعتباره "حارس البوابة الشرقية للأمة العربية"، وكان هذا التعبير اُستخدم للمرة الأولى في كتاب بالاسم نفسه للمصري جمال الغيطاني.

استغل النظام العراقي تلك التسمية على نطاق واسع في حربه. يقول الدكتور حسن طوالبة، المدير الأسبق لدائرة الإعلام الخارجي التابعة لوزارة الإعلام العراقية وسكرتير لجنة الكتابة التي اضطلعت بدور مهم في الدعاية، إن صدام حسين "تبنى شعار حارس البوابة الشرقية رداً على مقولات النظام الإسلامي في إيران الذي كان يدعو إلى تصدير الثورة الإسلامية إلى البلدان العربية من بوابتها الشرقية، العراق، إذ أن الدعاية الإيرانية كانت تروج لمقولة أن تحرير بيت المقدس يمر عبر بغداد وكربلاء".

يمكن رصد البعد العروبي في الدعاية العراقية في تلك الفترة في الكثير من الكتابات الصحافية التي انتشرت -على نطاق واسع- خلال الحرب. على سبيل المثال كتب عبد الحميد العلوجي، رئيس تحرير مجلة المورد العراقية في أحد أعداد المجلة مقالاً بعنوان "قادسية صدام تستلهم قادسية سعد".

قال العلوجي في مقاله متحدثاً عن الحرب: "إنها الكلمة الضرابة التي أطلقها الرئيس القائد نكالاً في قلب المجوسية الفائر بالبغضاء... لقد كان صدام العرب -وهو في موقع المسؤولية- يدرك جيداً وبوعي ناشط أن في إيران نزعة محمومة نحو التوسع... وفيها أظانين تستمد طقوسها من متاهات مزدك وأحلام كسرى... وفيها دعوة منكرة إلى إهانة العرب واحتلال بغداد... ولذلك رأى قائدنا الفذ أن يعلنها قادسية جديدة بسيف عراقي...".

رغم انتهاء حرب الخليج الأولى سنة 1988، إلا أن الدعاية العراقية ستستمر وستأخذ صوراً أخرى، حيث مال صدام لاستثمار البعد الديني فأصدر قانون (رقم 6 لسنة 1991) لتغيير شكل العلم العراقي. جاء في مادة هذا القانون: "تكون على الوجهين عبارة (الله أكبر). كلمة (الله) بعد النجمة الأولى وكلمة (أكبر) بعد النجمة الثانية مكتوبة بخط السيد الرئيس القائد صدام حسين رئيس الجمهورية".

كان في تغيير العلم لتلك الصورة محاولة لمضاهاة العلم الإيراني الذي كُتبت عليه كلمات ذات صبغة دينية مثل "الله"، و"الله أكبر".

 

حرب "الدفاع المقدس"

اعتمد الإيرانيون في دعايتهم خلال حرب الخليج الأولى على الدعاية الدينية المذهبية بالمقام الأول. لم يأخذ البعد القومي الفارسي مكاناً مهماً في أولويات الدعاية بسبب التباين الكبير في العرقيات التي تعيش على الأراضي الإيرانية، ويتضح ذلك إذا عرفنا أن نسبة الفرس في إيران لا تزيد عن 51%. فيما تصل نسبة المسلمين الشيعة الإيرانيين إلى ما يزيد عن 90% من إجمالي عدد السكان.

حرص الخطاب الإيراني على ربط الحرب مع العراق ببعض الأفكار التي طالما روجت لها الثورة الإسلامية في السنتين السابقتين على اندلاع الحرب. في هذا السياق سُميت تلك الحرب بحرب الدفاع المقدس. وتم الترويج لمصطلحات "المستضعفين"، و"أعداء الإسلام"، و"الشيطان الأكبر/ الولايات المتحدة الأميركية".

ورفع الملالي شعار "الحرب الحرب لإزالة الفتنة من العالم". واعتُبرت تلك الحرب أمراً طبيعياً ومنطقياً في السيرورة الشيعية التي ترى أن "العالم يجب أن يمتلئ ظلماً وجوراً حتى يظهر المهدي المنتظر في آخر الزمان".

من جهة أخرى، حرص المرشد الأعلى للثورة، آية الله الخميني على شيطنة الهجوم العراقي من خلال الربط بين صدام حسين والولايات المتحدة الأميركية. 

خطب الخميني عند بدء هجوم القوات العراقية على حدود إيران في 1980 قائلا: "...في اللحظة المناسبة، سأوجه ندائي للشعب ليثبت لصدام حسين وأمثاله من الأذناب لأميركا، بأنهم ليسوا شيئاً يُذكر... على الشعب العراقي أن يعلم بأننا لسنا طرفاً معه، وإنما شغلنا مع صدّام حسين وأذنابه، الذين حرضتهم أميركا ليعتدوا علينا. وإنّ ردنا سيكون موجهاً ضد هؤلاء".

في خطاب آخر، أكد الخميني أن الحرب ضد إيران "مؤامرة عالمية تستهدف القضاء على الإسلام كله، وليس إيران وحدها" كما أفتى بكفر صدام حسين فقال: "...وأما كلامي الموجّه للجيش العراقي... أتناصر صدّام الاشتراكي الكافر؟! وضد من؟ أضد الإسلام؟! على الجيش العراقي أن يعلم، أن هذا الإنسان الذي يتظاهر بذكر علي بن أبي طالب تارةً، وذكر الحسين بن علي تارة أخرى، هو أعدى أعدائهما، إنّه أصلًا عدوٌ للإسلام. على الجيش العراقي أن يعلم أن حربه هذه حرب ضد الإسلام، ويناصر فيها الكفر على الإسلام، والله تبارك وتعالى لن يغفر ولن يترك من يقوم ضد الإسلام مناصراً للكفر من العقاب، فصدام حسين بحسب الحكم الشرعي، هو كافر، وظهير للكفار".

من جهته، أنشأ الحرس الثوري الإيراني لجنة خاصة للإعلام الحربي. وحرص الإيرانيون على إطلاق الأسماء المبجلة في السردية الإسلامية الشيعية على جميع العمليات العسكرية والمعارك التي تضطلع بها القوات الإيرانية. على سبيل المثال أطلق على إحدى العمليات اسم "بدر" وهي أولى غزوات الرسول محمد، كما عُرفت عملية الهجوم على البصرة باسم "كربلاء" وهي المدينة المقدسة عند الشيعة الإمامية، التي ترتبط تاريخياً بواقعة "الطف" التي قُتل فيها الإمام الحسين بن علي والعشرات من أهل بيته في العاشر من محرم سنة 680.

كما نجحت الآلة الدعائية الإيرانية في استغلال اعتناق الكثير من المقاتلين العراقيين للمذهب الشيعي، عندما وقع الكثير من الضباط والجنود العراقيين أسرى حرب لدى إيران، إذ قام الملالي بإقناعهم بالانضمام إلى الجانب الإيراني، وأطلق عليهم الخميني اسم "التوابون".

ومن المعروف أن هذا الاسم أطلق على إحدى الجماعات الشيعية التي تخلفت عن نصرة الحسين بن علي في كربلاء. ندم "التوابون" عن تخلفهم عن القتال مع إمامهم واختاروا أن يقاتلوا الأمويين -الأكثر عدداً وجاهزية- في معركة محسومة، وقُتلوا في أرض المعركة في واقعة "عين الوردة".

على المنوال نفسه، انضم "التوابون" العراقيون إلى قوات "فيلق بدر" الإيراني، وشاركوا بفعالية كبيرة في عمليات حاج عمران وحلبجة والفاو وتاج المعارك، كما شاركوا في عمليات ضد قوات "مجاهدي خلق" داخل الأراضي الإيرانية بعد وقف إطلاق النار بين بغداد وطهران.

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

A woman holds up a sign reading in Arabic "the marriage of minors is a crime in the name of safeguarding (honour)", during a…
"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".