منذ عدة أشهر تتأرجح قيمة الدينار العراقي بشكل حاد
منذ عدة أشهر تتأرجح قيمة الدينار العراقي بشكل حاد - تعبيرية

يشكل النفط مصدراً أساسياً لموازنة العراق المالية، ويغطي نسبة قد تفوق الـ 90٪ منها، مما يجعله رهينة تقلبات الأسعار العالمية، ويضع رواتب موظفيه ومتقاعديه والمستفيدين من الرعاية الاجتماعية، في خطر كبير.

لا تشكل المصادر الأخرى غير النشطة مثل الزراعة والصناعة والسياحة، رقماً أمام ما يُشكله النفط الذي يبيع العراق منه نحو 3 ملايين برميل يومياً.

هذا الاقتصاد الريعي غير المستدام، يخلق حالة من الشعور بالخطر المستمر لدى الحكومات والمواطنين أيضاً، فإذا ما انخفضت أسعار النفط، فإن ذلك سيلقي بظلاله على الأوضاع الاقتصادية في البلاد، حيث الاعتماد على النفط فقط.

ويصدر العراق وفقاً لما تُعلنه السلطات، بعض المنتجات، منها الزراعية والصناعية، لكنها لا ترقى إلى حجم ما يستورده من إيران وتركيا والأردن ودول أخرى.

يقول أستاذ مساق اقتصاد النفط في جامعة المعقل بمحافظة البصرة، نبيل المرسومي: "حتى صادرات العراق غير النفطية أغلبها ذات علاقة بالبترول بطريقة أو بأخرى".

ويوضح لـ"ارفع صوتك"، أن "العراق يصدّر منتجات النفط الأسود ومكثفات ووقوداً معدنياً، إضافة إلى بعض المنتجات الحيوانية والتمور. لا تتجاوز قيمة المنتجات غير النفطية المصدرة 1% من موازنته المالية، أي أنها تكاد لا تُذكر".

ويضيف: "أي تقلبات في السوق العالمية للنفط ستنعكس سلباً على الاقتصاد العراقي، كما حصل عام 2020، حين تراجعت أسعار النفط خلال فترة جائحة كورونا، مما تسبب بعجز مالي كبير".

يمتلك العراق نحو خمسة ملايين بين موظف حكومي ومتقاعد يحصلون على رواتب شهرية من الدولة، بالإضافة إلى رواتب الرعاية الاجتماعية، لكن لا احصائيات دقيقة عن الأعداد التي قد تفوق ما يُعلن.

يقول الخبير الاقتصادي صلاح عريبي لـ"ارفع صوتك": "لو هبطت أسعار النفط إلى 40 دولاراً لثلاثة أشهر، ستجد الحكومة عاجزة عن دفع رواتب الموظفين خلال هذه المدة".

يقارن عريبي بين اقتصاد العراق اليوم، وما كان عليه قبل تسعينيات القرن الماضي.

ويضيف: "قائمة ما كان يصدّره العراق بدأت بالتراجع في تسعينيات القرن الماضي، وقبلها كان يصدر منتجات عدة، مثل أصواف الحيوانات وجلودها، حيث كان يمتلك الكثير من المحالج ذات الإنتاج المتميز وكان مطلوباً من السوق الأوروبية، إضافة إلى تصدير المنسوجات والسجاد والفوسفات بكميات كبيرة".

ويتابع: "تغيّر الأمر مع دخول العراق بحرب مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي، ثم في التسعينيات بسبب الحصار الدولي، ليستمر التراجع بعد عام 2003 وتوقف 3200 معملاً. أغلب المشاريع في العراق اليوم استهلاكية وليست استثمارية".

لقطة لجزء من ميناء الفاو الكبير، المشروع الذي ما زال في طور البناء ويكلف العراق 6 مليارات دولار- أرشيف
اقتصاد العراق في 2023.. مشاريع "كبيرة" وأزمة دولار ودعوات للاستثمار
طغى الشأن الاقتصادي على أحداث العراق خلال عام 2023، الذي شهد الإعلان عن مشاريع عملاقة أحيت الأمل في تنويع الاقتصاد الأحادي المعتمد على البترول، فيما شغلت الرأي العام تقلبات أسعار الصرف والعقوبات الأميركية على طيف واسع من المصارف.

يلقي نائب رئيس لجنة الاقتصاد والتجارة في البرلمان العراقي ياسر الحسيني، باللائمة في تحوّل العراق إلى بلد مستهلك لا يصدّر سوى النفط إلى "الإجراءات الحكومية غير المشجعة وقوانين التصدير المعرقلة" على حد تعبيره.

ويشير خلال حديثه لـ"ارفع صوتك" إلى "وجود فرصة للاستفادة من موارد عدة لتصديرها، مثل السليكا والفوسفات والزجاج والتمور وبعض المنتجات الإنشائية والعلب المعدنية للأصباغ".

"كان من المفترض أن تصدر بعض مشاريع الدواجن مادة بيض المائدة، إلا أن الحكومة العراقية لم تعالج قضية دعم المشاريع بالأعلاف، فاضطر أصحابها إلى بيع الدواجن على شكل لحوم"، وفقاً للحسيني.

ويضيف: "أما الكبريت الذي يمتلك العراق الخزين الأكبر منه في العالم، بدل الاستفادة منه، أحالت الحكومة المشروع إلى جهة استثمارية لا يتعدّى المردود منها 5-7 % فقط".

ويمتلك العراق أكبر حقول للكبريت في العالم، التي تقدّر بنحو 400 مليون طن. ويتركز في حقول المشراق جنوب مدينة الموصل، فيما يبلغ الاحتياطي العالمي بأكمله 600 مليون طن.

واستثمرت في هذه الحقول شركة بولونية عام 1971، أوقفت العمل أوائل التسعينيات، وتوقف الإنتاج عام 2003 بسبب القصف والسرقة والأعمال التخريبية.

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

A woman holds up a sign reading in Arabic "the marriage of minors is a crime in the name of safeguarding (honour)", during a…
"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".