لم يكن سمير الشريف منذ بضعة سنوات يتخيّل حتّى أنّ حياته ستنقلب رأساً على عقب، أنّه سيصبح في مكانٍ مختلف عن بلاده. الواقع يتفوّق على التوقعات أحياناً ويتجاوز المخيّلة بأشواط. ومن ربّ أسرة وموظّف في شركة للطباعة إلى لاجئ في بلادِ بعيدة، كانت هناك تحوّلات عدّة لدى سمير الهارب من الموت والدمار والتطرّف والباحث عن مستقبلٍ أفضل لولده وابنته المريضة التي تعاني من حالة خاصّة.

في أواخر شهر نيسان/أبريل 2015، بدأت الرحلة التي غامر فيها سمير بكلّ شيء وقرّر أن يحاول تغيير القدر – أو ربما فقط التلاعب به قليلًا. خلال الحرب الدائرة في بلاده، بقي سمير مع عائلته في "منطقة آمنة نسبياً الشام" على حدّ وصفه. لكنّ المنطقة الآمنة لم تخلُ من صوت القصف والقذائف والحواجز والقلق الدائم من أن يتعرّض أحد ولديه للأذى. يروي سمير أنّه "لم يعد هناك مياه أو كهرباء أو عمل أو أيّ شيء. كنت كغيري أفكّر بالسفر منذ مدّة لكن استغرق الأمر بعض الوقت لأتمكّن أن أتّخذ القرار النهائي. كما بتّ أفكّر بكيفية تأمين علاج لابنتي".

يقول سمير إنّ هناك عدد هائل من المهرّبين، لكنّه يشير إلى أنّهم لا يكترثون فعليًا بحيوات الأشخاص الذين يتقاضون منهم الأموال. "هم لا يكترثون بنا، نحن تجارة وليس أكثر بالنسبة إليهم".

لذا، فضّل سمير أن يستعين بخبرة أسلافه من المهاجرين وتواصل مع مكتب للتهريب في اسطنبول نصحه به أحد الأصدقاء. غادر الرجل سوريا إلى بيروت بشكل نظامي في بداية الأمر وهو يعتقد أنّه محظوظ لأنّ البعض يضطرون إلى الهرب من منطقة إلى منطقة والمرور بأخطار عديدة ومخاوف من أن يقعوا في قبضة التنظيمات المتطرّفة لصعوبة إمكانية عبورهم إلى بيروت بشكل شرعي. باع سيّارته "الصغيرة" واستعمل مدّخراته القليلة ليشتري تذكرة عبور من بيروت إلى اسطنبول ورهاناً على العبور إلى ألمانيا.

وصل سمير إلى تركيا بعد خروجه من بيروت بشكل شرعي كذلك، ومن اسطنبول توجّه إلى مدينة أزمير التركية حيث على حدّ قوله "سوق التهريب الأساسي". كان سمير قد سبق أن تواصل مع المهرّب الذي سيتكفّل بتأمين رحلته عبر البحر إلى جزيرة يونانية. وهو يصف التواصل مع المهرّبين بالعملية السهلة "لطفرة وجودهم".

إنطلقت بعدها رحلة سمير في البحر داخل يخت يحتوي ثلاث غرفٍ ضيّقة جدًّا حُشر فيها ما يفوق الأربعين شخصاً. يقول سمير إنّ المكان الوحيد الذي وجده للجلوس في إحدى الغرف كان كرسي المرحاض. بقربه، كانت هناك فتحة تهوية صغيرة شكّلت متنفسه الوحيد في رحلةٍ كان من المفترض أن تستغرق ثلاث ساعات لكنّها دامت لعشر ساعات. "غاب الكثير من الأشخاص عن الوعي، كان معنا رجل مسنّ أصيب بنوبة قلبية. بقي القبطان يدور في البحر لساعات طويلة خوفاً من الوصول إلى الجزيرة حيث تمركز حرّاس من خفر السواحل. كانت هناك صعوبة بالغة في التواصل مع القبطان إذ كان يتكلّم التركية. كل ما تمكّنا من رؤيته كان الجبال والصخور أمامنا وكنا نسأل متى سنصل، فلا نفهم ما يقول ولا نحصل على إجابة".

https://soundcloud.com/irfaasawtak/eckumoaqavf7

وصل اليخت أخيراً في أولى ساعات الصباح التالي. معظم أجهزة الهواتف المحمولة كانت قد فرغت من الشحن ولم يتمكّن المسافرون من التواصل مع عائلاتهم. ألقى اليخت بهم أمام جبل كبير كان عليهم تسلّقه لساعات طويلة. "قام البعض بحمل الرجل المسنّ. أغمي على بعض الناس عند التسلّق. كانت رحلة طويلة وشاقّة حتّى وصلنا إلى شارع تمرّ فيه السيارات. عرفنا أنّنا أخيراً في اليونان. بدأ الناس يتوافدون باتجاهنا، أحضروا لنا المياه والبسكويت.. ثم أحضروا باصاً لينقلنا إلى نقطة الشرطة".

ينتظر المهاجرون أن يحصلوا  على ورقة طرد من الشرطة اليونانية يتحتّم عليهم بموجبها مغادرة الأراضي اليونانية خلال ستة أشهر. أمضى سمير ومن معه الليلة في باحة مخفر الشرطة، باحة قذرة فيها حمامات بلا مرحاض.. بعد الرحلة الرهيبة، حجز سمير رحلة في الباخرة إلى أثينا. كانت الباخرة تتوقف في جزر مختلفة لتقلّ مهاجرين آخرين. وفي أثينا، بدأت رحلة أخرى وكان هناك ضرورة للتواصل مع مهرّبين آخرين ليتمكّن من السفر إلى ألمانيا بجواز سفر مزوّر.. هناك حيث يتمنّى وجود بارقة أمل.

بعد وصوله إلى ألمانيا، وصل سمير إلى مقاطعة سارلاند وتوجّه إلى مخيّم للاجئين السوريين وأمضى هناك حوالي الشهر حتّى حصل على بيتٍ مستقلّ.

https://soundcloud.com/irfaasawtak/y7hh7aohz2ws

وصل سمير لكنّه لا يزال منتظراً عائلته وهو حتّى لمّ شمله مع زوجته وأولاده "معلّق بين السماء والأرض". يقول إنّ "فترة الانتظار شديدة الصعوبة والرحلة مليئة بالخوف. ملأ الخوف قلبي من اللحظة التي وقفت فيها على عتبة المنزل أودّع عائلتي حتّى وصلت إلى ألمانيا. نسمع قصصاً كثيرة عن لاجئين طعنهم مهرّبون بالسكاكين، عن لاجئين فُقدوا ولم يعودوا".

بالنسبة لسمير، كانت فكرة تأمين مستقبل أفضل لعائلته ما ساعده خلال الرحلة الرهيبة، أن يصل بهم إلى برّ أمان في المستقبل. يقول سمير إنّه تمكّن من المغامرة والرهان بحياته لكي يصبح لاجئاً بشكل شرعي في ألمانيا ويتمكّن لاحقاً عند حصوله على الإقامة أن يأتي بعائلته إليه عبر رحلة عاديّة في الجو.

ربما لا يمكن أن تختزل الكلمات كل الوجع وكل الصورة وربما سمير من الناجين، لكنّه يشير إلى وجود حكايات رهيبة لا يتخيّلها العقل البشري بسهولة. ماذا تريد أن تقول للعالم إزاء كل ما يحدث بكم، سألت سمير قبل أن أقفل سماعة الهاتف. لم يكن هناك الكثير لقوله، فالكلمات أحياناً عصية على التعبير. "ليفتحوا لنا الطريق فقط حتّى نتمكّن من أن نعيش". هذه كانت جملته.

*الصورة: قارب يحمل مهاجرين قرب ايطاليا/وكالة الصحافة الفرنسية

مواضيع ذات صلة:

الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية
الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية

مع بدء السنة الدراسية الجديدة في معظم أنحاء الشرق الأوسط، يجد تلاميذ قطاع غزة أنفسهم للعام الثاني على التوالي دون مدارس ينهلون منها العلم والمعرفة، مما حدا برهط من المسؤولين والأهالي إلى إيجاد بعض الحلول الفردية، وفقا لتقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية.

وكان من المفترض أن يبدأ العام الدراسي الجديد رسميا هذا الأسبوع، في القطاع الذي يشهد حربا شرسة منذ أكثر من أحد 11 شهرا بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، المصنفة "منظمة إرهابية" في الولايات المتحدة ودول أخرى.

وأدى القصف إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية الحيوية في القطاع الفلسطيني، بما في ذلك المراكز التعليمية، التي كانت تستوعب نحو مليون تلميذ تحت سن 18 عاماً، وفقاً للأمم المتحدة.

وفي ظل صعوبة تأمين مساحة آمنة لتدريس الأطفال، قررت وفاء علي، التي كانت تدير مدرسة بمدينة غزة قبل الحرب، فتح فصلين دراسيين في منزلها شمالي القطاع، حيث يتجمع العشرات من الأطفال لتعلم العربية والإنكليزية بالإضافة إلى مادة الرياضيات.

وقالت علي: "أرادت الأسر أن يتعلم أطفالها القراءة والكتابة بدلاً من إضاعة الوقت في المنزل، خاصة أن الحرب لن تنتهي قريبا".

ولا يستطيع المعلمون الوصول إلا إلى نسبة صغيرة من الأطفال الذين حرموا من التعليم بسبب الحرب، التي بدأت بعد أن هاجمت حركة حماس إسرائيل في 7 أكتوبر، مما أسفر عن مقتل 1200 شخص، معظمهم من المدنيين، وبينهم نساء وأطفال، حسب بيانات رسمية.

وردًا على ذلك، شنت إسرائيل عملية عسكري أدت إلى مقتل أكثر من 41 ألف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال، وفقًا لوزارة الصحة في القطاع.

"نبذل قصارى جهدنا"

من جانبها، أوضحت آلاء جنينة، التي تعيش حاليا في خيمة بوسط قطاع غزة، أن طفلها البالغ من العمر 4 سنوات وابنتها ذات السبع سنوات، يتلقيان دروسًا في خيمة قريبة.

وقالت المراة البالغة من العمر 33 عاما، إنها زارت مؤخرا "مدرسة الخيام"، مضيفة: "لقد أحزنني ذلك. ليس لديهم ملابس أو حقائب أو أحذية. لكننا نبذل قصارى جهدنا".

وتقول وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، التي تدير عشرات المدارس بالقطاع، إن أكثر من ثلثي مدارسها دُمرت أو تضررت منذ بدء الحرب.

ووفقا للوكالة، فقد قُتل "مئات" الفلسطينيين الذين نزحوا إلى مرافق الأونروا، ومعظمها مدارس، بينما تؤكد إسرائيل
أن ضرباتها على المدارس وملاجئ الأونروا "تستهدف المسلحين الذين يستخدمون تلك المرافق"، وهو أمر تنفيه حركة حماس.

ورفضت هيئة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، وهي الهيئة العسكرية الإسرائيلية المسؤولة عن التنسيق مع جماعات الإغاثة، التعليق، كما لم يستجب مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي لطلب التعليق من الصحيفة الأميركية.

"بقع لليأس والجوع"

وقالت "الأونروا" إنها أطلقت برنامج العودة إلى التعلم، الذي سيجلب حوالي 28 ألف طفل إلى عشرات المدارس، لافتة إلى أن ذلك البرنامج سيركز على "الدعم النفسي والفنون والرياضة ومخاطر الذخائر المتفجرة، ثم سيتعمق أكثر في مواد القراءة والكتابة والرياضيات".

وفي هذا الصدد، قال المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، الأربعاء، على وسائل التواصل الاجتماعي: "الكثير من المدارس لم تعد مكانًا للتعلم. لقد أصبحت بقعا لليأس والجوع والمرض والموت".

وتابع: "كلما طالت فترة بقاء الأطفال خارج المدرسة.. كلما زاد خطر تحولهم إلى جيل ضائع. وهذه وصفة للاستياء والتطرف في المستقبل".

من جانبه، أوضح الباحث في مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني بقطر، معين رباني، أن قطاع غزة "كان لديه معدلات تعليم عالية نسبيًا، على الرغم من نسب الفقر الكبيرة التي تسوده".

وأضاف رباني أن الفلسطينيين "سعوا منذ فترة طويلة إلى التعليم للتقدم وسط ظروف اقتصادية صعبة، حيث وقد وفرت لهم الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية مختلفة فرصًا تعليمية جيدة".

ولفت في حديثه للصحيفة الأميركية، إلى أن العديد من الفلسطينيين في غزة "اعتادوا على فقدان أراضيهم ومنازلهم وممتلكاتهم، وبالتالي اهتموا بالتعليم، لأنه أمر يمكنك أن تأخذه معك أينما ذهبت".

وهناك ثمن نفسي للابتعاد عن المدرسة على الأطفال أيضًا، إذ قالت ليزلي أركامبولت، المديرة الإدارية للسياسة الإنسانية في منظمة إنقاذ الطفولة الأميركية، إن قضاء عام بعيدًا عن المدرسة والأصدقاء والملاعب والمنازل خلال صراع مسلح عنيف، "يمثل إزالة للركائز الأساسية للاستقرار والسلامة للأطفال".

وشددت على أن "عدم اليقين والتوتر وفقدان المجتمع، يمكن أن يؤدي إلى تحفيز أنظمة الاستجابة الطبيعية للتوتر في الجسم، والتي يمكن أن تكون ضارة بمرور الوقت".

واستطردت حديثها بالتأكيد على أن "تكرار هذه الأعراض أو استمرارها لفترات طويلة، قد يؤدي إلى مجموعة من النتائج السلبية على الصحة العقلية، التي لا يتعافى منها الأطفال بسهولة".

وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، قد كشفت في وقت سابق هذا الشهر، أن الأطفال في قطاع غزة "هم الفئة الأكثر تضررًا" مما يحدث هناك، وهم بحاجة ماسة لدعم نفسي وتعليمي بشكل عاجل.

وقال الناطق باسم المنظمة، كاظم أبو خلف، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، إن الوضع الحالي في غزة "يتطلب استجابة عاجلة لمساعدة الأطفال الذين يعانون من فقدان التعليم والأضرار النفسية الجسيمة التي يتعرضون لها".

وشدد على أن "جميع الأطفال في القطاع يحتاجون إلى دعم نفسي، حيث فقد ما لا يقل عن 625 ألف طفل عامًا دراسيًا منذ بدء الحرب.. وبعض الأطفال تعرضوا لبتر أطرافهم وهم بحاجة إلى الخروج من القطاع لتلقي العلاج، فيما يعاني العديد من الأطفال من الخوف والقلق بسبب الحرب".