أينما نظرنا إلى أزمة نزوح كبيرة، سنجد أنفسنا أمام مزيج من أنظمة ديكتاتورية ومن حركات متطرفة تَحُولان معاً دون إمكانية الحياة بالحدّ الأدنى من الشروط الإنسانية. فالمجتمعات لا تشهد ظواهر نزوح جماعي محفوف بالكثير من المخاطر إلا عندما يتعذّر على المواطنين العيش.
في العقود الماضية، دمّرت الديكتاتوريات الحاكمة مجتمعاتها ومهّدت الأرضية أمام ظهور أشكال مختلفة من المتطرفين والأفكار الإقصائية، وذلك بعد إفراغها الأوطان من كل مضامينها وبعد شلّ الحياة السياسية من خلال محاصرة الأحزاب وتفكيك كل التنظيمات المدنية من نقابات وغيرها.
دوّامة العنف
الأزمة الحادة التي تعاني منها المجتمعات العربية لم تولد فجأة. هي النتيجة الطبيعية لعقود من حكم الأنظمة القمعية وغياب السياسات التنموية. إنفجرت التناقضات وألغيت كل القواعد التي كانت تحكم علاقات المواطنين بالدولة وعلاقاتهم بعضهم ببعض.
صار العنف السياسي اللغة المهيمنة على عمليات التواصل بين الناس. وما الإرهاب الذي أكمل مهمة الأنظمة القمعية في تدمير المجتمعات سوى أحد أشكال هذا العنف.
وصل العنف إلى ذروته ونشبت حروب أهلية. وكل مواطن رفض استخدام لغة العنف أو لم يستطع، لسبب أو لآخر، إيجاد مكان لنفسه داخل "لعبة" الإستفادة من الفوضى، إضطر إلى النزوح ووجد نفسه فجأة لاجئاً. ففي ظل غياب القواعد التي تدير العلاقات بين الناس، لا يستطيع الجميع تحقيق المكاسب وسيأتي كل مكسب على حساب أشخاص آخرين سيضطرون للرحيل.
من أين كل هذا العنف؟
لطالما مارست السلطات السياسية العربية القمعية العنفَ من أجل إخضاع معارضيها. وبقراءة بسيطة للتاريخ العربي ولتعاقب الحكومات بعد الانقلابات، يتبيّن لنا أن المعارض الذي كان مقموعاً يتحوّل إلى ديكتاتور يمارس قمعاً أشدّ من قمع سابقيه فور وصوله إلى السلطة.
ولكن العنف لم يبقَ رسمياً ولم يبقَ سلطوياً. تحوّل إلى عنف اجتماعي أكثر شدّة وراحت درجاته تتصاعد إلى أن وصلنا إلى الوضع الحالي حيث تتواجه الأنظمة السلطوية مع مجموعات إسلامية شديدة التطرّف. والعودة إلى التاريخ القريب مرّة ثانية تؤكد أن كل حركة إسلامية قُمعت نتج عنها حركات أكثر تطرفاً.
أسباب عدّة تضافرت وأوصلت المجتمعات العربية إلى المأزق الحالي وأبرزها:
1 ـ غياب الديموقراطية
في النظام الديموقراطي، هناك قواعد تحكم التنافس السياسي وتمكّن الأكثر شعبية من الوصول إلى السلطة في ظل رضى الأطراف الخاسرة، خاصةً وأنها تمتلك الفرصة للعودة إلى الحكم في الاستحقاقات الإنتخابية القادمة. هكذا يصل المجتمع إلى نوع من التوازن الذي يساعد على انتقال السلطة بشكل سلمي بالكامل.
وأيضاً، في الأنظمة الديموقراطية، قد يفيد حصول بعض الاحتجاجات العنيفة لأنها تساعد على معرفة أن بعض تفاصيل حياة الناس تحتاج إلى إجراءات خاصة لا يكفي تداول السلطة السلمي للاهتمام بها.
أما حين تُقفل كل سبل التواصل بين المؤسسات السياسية وبين المواطنين وحين يشعر المواطن بالاغتراب عن السلطة الحاكمة، وحين تواجه السلطة كل صوت معترض بالقمع، لا يعود أمام المواطنين سوى انتهاج العنف للتعبير عن آرائهم. وهذا ما يحصل في الدول العربية.
قبل بروز جماعات العنف في العالم العربي، كان المعارض لا يجد لنفسه مكاناً إلا في السجن أو في المنفى. كان التعبير عن الرأي بحرية مشروطاً بالابتعاد عن الوطن وبالتالي عن التأثير الفعال في المجتمع. الآن، ومع هيمنة الإسلاميين المتشددين على حركات المعارضة، بقيت الدوامة نفسها ولكن الهجرة هذه المرة لم تعد فردية بل صارت ظاهرة جماعية، لأنها الحل الوحيد أمام مَن دُمّرت ممتلكاتهم ومَن يعيشون تحت خطريْن، خطر الأنظمة وخطر معارضاتها.
2 ـ فشل سياسات التنمية
كجزء من دعايتها لنفسها، ادّعت الأنظمة العربية الديكتاتورية أنها تمتلك مشروعات تنموية ضخمة تحتاج إلى وقت لكي يلمس المواطنون نتائجها. مرّت عقود دون أن يشعر المواطن بأي تحسّن في مستوى معيشته. ومع قرار هذه الأنظمة الانفتاح على اقتصاد السوق، سحبت الدعم القليل الذي كان يساعد الملايين من الفقراء على البقاء.
إكتشف المواطنون العرب أن كل ما كانت تقوله الأنظمة ليس سوى كذبة. فبعد توسّع عمل وسائل الإعلام صار كل مواطن خبيراً بالصفقات التي تنتفع منها بطانة النظام على حسابه. وهذا ما ضاعف حقد الناس على الأنظمة وحوّل الهجرة الاقتصادية إلى حلم للشباب العاطل عن العمل. ومع تفجّر الأوضاع، أضيف إلى الأسباب الاقتصادية هدف الهرب من الموت.
3 ـ التوترات الدينية
كانت الأحزاب والتنظيمات الإسلامية أكثر مَن استفاد من الأزمات التي تعصف بالمجتمعات العربية. فمنذ أن فككت الأنظمة القمعية الأحزاب العلمانية المعارضة والنقابات والأندية الاجتماعية، لم يعد من مكان يلجأ إليه المواطنون إلا المساجد. ومن هناك بدأ عمل الإسلاميين.
وفي المجتمعات التعددية، كان عمل الأحزاب الإسلامية أسهل، إذ كان بإمكانهم شدّ عصب أبناء المذاهب بذريعة الدفاع عن الوجود. نشب صراع مذهبي بين الجماعات المختلفة على حصتها من تركة الدولة المركزية، وأخفيت حقيقة الصراع على المكاسب المادية خلف شعارات دينية تمس مشاعر المؤمنين. تدمّر نسيج الأحياء التي كانت تحتضن أبناء الجماعات المختلفة واضطُر كثيرون للنزوح داخل الوطن، وحين ضاق بهم الحال اضطروا إلى الهجرة.
نحو عقد اجتماعي جديد؟
قد يكون تصوّر الحلّ لأزمات المجتمعات العربية صعباً بسبب صخب المعارك وفظاعة مشاهد القتل والدمار. ولكن أيّ حلّ لا يمكن أن يمر إلا بتوصل كل مجتمع إلى عقد اجتماعي جديد يرسي قواعد لعمل سياسي ديمقراطي، ويحصر استخدام العنف بيد الدولة بعد أن تمحضها كل الأطراف ثقتها.
*الصورة 1: نازحة سورية من المعارك التي دارت في مدينة تل أبيض/وكالة الصحافة الفرنسية
*الصورة 2: عناصر من تنظيم "داعش" في شوارع مدينة الرقة السورية/وكالة الصحافة الفرنسية