بقلم جنى فواز الحسن:
في شقتهم الفخمة في أحد مباني نيويورك العالية، يقف المحامي الأميركي من أصول جنوب آسيوية "أمير" مرتدياً بزّة في الجزء العلوي من جسده وسروالاً داخلياً في الجزء السفلي، بينما تحاول زوجته اليهودية "إيميلي" أن ترسمه.
من شرفة المنزل، تظهر نيويورك بأبراجها العالية بينما الزوجان يتحدثان. يرن الهاتف. إنّه قريب أمير، لكنّ الأخير يتجاهل اتصالاته منذ فترة على الرغم من إصرار زوجته أن يجيبه. ولد أمير في أميركا وهو ما يعرف بالجيل الثاني للمهاجرين إذ أتى والداه إلى الولايات المتحدة قبل ولادته.
المتصل هو قريب أمير الشاب "حسين" الذي غيّر اسمه إلى "إيب" لكي يكون أكثر عصرية واندماجاً بالمجتمع الأميركي. ما يريده منه هو الدفاع عن إمام مسجد في الولايات المتحدة سُجن من دون أن تكون هناك تهم ثابته عليه. يدافع إيب أو حسين عن الإمام ويقول لأمير إنّ الإمام يصر أن يكون هو من المدافعين عنه لأنّه مسلم وسيجعله ذلك يشعر بالألفة. تساند إيميلي وجهة النظر هذه، فهي مدافعة على عكس زوجها عن الإسلام وتحاول حتى من خلال رسمها أن تظهر صورة التصوّف في الإسلام وتدافع عنه.
لكنّ أمير يتنكّر لدينه، فهذه الهوية الدينية دفعته في سنوات حياته المبكرة. هذا الرجل الناجح الآن والذي يتصارع بحدة مع هويته الإسلامية، بصق حين كان طفلاً، في وجه فتاة كانت تعجبه في المدرسة بعدما أخبر أمه أنّ اسمها رفقة، فقالت له إنّها يهودية وألا يتحدّث معها.
الهوية المتشظية
تظهر الهوية الإسلامية هنا بشكل الرفض للآخر والعائق أمام أمير، فيتمرّد عليها لاحقاً ويزعم حتى أن أصوله هندية وليست باكستانية. لكنّه يستجيب للزوجة والقريب ويظهر في جلسة محاكمة الإمام.
كل هذه الأحداث في مسرحية "موصوم" للكاتب الأميركي-الباكستاني أياد أختر الذي يطرح بكل جرأة صراع هذا المهاجر مع هويته الدينية بوجهها الاجتماعي، مثيراً أسئلة حول ليس فقط الصراع الداخلي الذي يعيشه أمير بل الأزمة في العلاقة مع الآخر وأزمة الآخر مع هذه الهوية: الآخر الكائن والآخر النظام.
المسرحية التي بدأ عرضها عام 2012 في ولاية شيكاغو الأميركية شقّت دربها إلى النجاح لتعرض في برودواي - نيويورك وأماكن أخرى، ومؤخراً في واشنطن العاصمة. وكانت قد حصدت جائزة "بوليتزر" عام 2013 عن فئة الدراما. وهي على الرغم من أن أحداثها تجري قبل أربع سنوات من الآن، غير أنها تبدو في قلب صراع الهوية الحالي لبعض المسلمين المهاجرين وأيضاً لعلاقة المجتمع الغربي مع هؤلاء المهاجرين في ظل ارتباط صورة الإسلام بمظاهر عنف وإرهاب والصراع الذي تعانيه حتى صورة هذا الدين أمام مجتمعه الخاص والمجتمع الآخر حيث ليس فيه الأكثرية.
العودة إلى الجذور
في الجزء الآخر من المسرحية، ينهمك الزوجان بالاستعداد لتحضير العشاء لضيفيهما، فنان يهودي كذلك سيقرر إذا ما كان سيعطي إيميلي فرصة للمشاركة في معرض مهم بلوحتها عن الإسلام والأندلس وزوجته التي هي محامية كذلك وزميلة أمير.
يحتدم النقاش بين الأزواج خلال العشاء. ويبدأ أمير كعادته بمهاجمة الإسلام واعتباره مصدراً للعنف، وهذا ما تعارضه فيه زوجته. وفي ذروة الانفعالات، تأخذه زميلته إلى الخارج لتخبره أن الترقية التي لطالما انتظرها واعتبر نفسه الأحق بها ذهبت إليها هي التي من أصول أفريقية أميركية.
تتوالى الأحداث في الشقة التي بقيت فيها إيميلي مع زوج المحامية، حيث ينتقد زوجها ويحاول التودد إليها. ويظهر أن إيميلي أقامت علاقة معه مرة في لندن واعتبرتها غلطة لم تعد راغبة بتكرارها.
حين يعود أمير والمحامية، ويرى الرجل يحاول تقبيل زوجته التي تعترف بخيانتها له، يقوم بضربها بعنف ويفقد أعصابه كلياً فيما يبدو "عودة إلى أصوله" أو ما كان يقول إنّه "رجعية الإسلام". لكن هذا العنف مبرر ربما بالخيانة وبغضبه كون السبب في عدم ترقيته كان له علاقة بظهور صورة له في إحدى الصحف مع الإمام الذي دافع عنه.
اكتشفت شركة المحاماة التي يعمل فيها أنه من أصول باكستانية وليست هندية كما زعم، ومن خلال الحوار، هناك وجهان لرواية عدم حصوله على الترقية، فالسبب قد يكون العنصرية تجاه كونه مهاجراً مسلماً وهو الذي يقول في ذروة انفعالاته أنه بسبب أصوله اضطر أن يبذل جهوداً مضاعفة لإثبات جدارته وحصد فرصه في العمل. لكن السبب الآخر قد يكون تنكره لهذه الهوية، فصاحب العمل لا يمكن أن يثق بشخص ينكر جذوره ويعطيه ترقية.
كل الاحتمالات واردة، أن يكون النظام في الشركة عنصرياً وأن يكون الصراع الداخلي هو السبب. لكن الأمر الأكيد هو هذا التمزق العنيف وهذه الأسئلة الفادحة والصادمة التي تدور بذهن المتلقي حول أمير. هل يتعاطف معه؟ هل يراه كنذل متنكر لأصله؟ هل يراه كمحامٍ فقط أو كمسلم رغم عدم تعريف نفسه كذلك؟ هل اعترافه في نهاية المسرحية بأن تفجيرات 11 أيلول/سبتمبر أثارت فيه ولو لم يكن تلقائياً شعوراً بالنصر أمر صادم؟ هل هناك مهرب من هذه الـ"نحن" والـ"هم" حتى حين يريد الإنسان أن يرى نفسه مجرداً سوى من الإنسانية؟
الإجابة لأمير ربما تكون في عنوان المسرحية "موصوم". فهو بعد العنف ضد زوجته، خسر كل شيء، المرأة التي أحب، عمله… ماذا بقي له غير الجذور؟ أو ربما فقط الصراع مع الجذور؟
*الصورة: الكاتب أياد أختر/وكالة الصحافة الفرنسية
يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم0012022773659