بقلم سعيد جاب الخير:

عرفت الحركة الوطنية الجزائرية تيارا دينيا إصلاحيا سلفيا، تأسس في ثلاثينيات القرن العشرين تحت اسم "جمعية العلماء المسلمين" وكان أقرب في محتواه إلى مدرسة "الإخوان المسلمين" المصرية. هذا التيار هو الأب الشرعي لجميع حركات الإسلام السياسي المتطرفة التي ظهرت في جزائر ما بعد الاستقلال.

فما هي الدوافع الموضوعية لهذا التطرف الديني؟

من الأمور الجديرة بالملاحظة، أن الدولة الوطنية المستقلة لم تحسم خياراتها في ما يتعلق بمشروع المجتمع الذي ينبغي انتهاجه، وبدل الحسم باتجاه التحديث الكامل الذي لا يقبل المساومة، كما فعلت تونس، اختارت الجزائر آنذاك نهج الحداثة المنقوصة أو التلفيق بين التحديث والخطاب الديني الإصلاحي. من هنا تم تسليم وزارات التعليم والشؤون الدينية والإعلام والثقافة، إلى شخصيات تنتمي فكريا إلى التيار الديني الإصلاحي، حتى وإن انتمت سياسيا إلى حزب جبهة التحرير الوطني، الحزب الوحيد والحاكم آنذاك.

هذا التحالف الضمني بين الدولة الوطنية ورموز المدرسة الإصلاحية، نتج عنه توجيه ديني للمدرسة، حيث غُيبت الرموز الثقافية الوطنية الجزائرية عن البرامج التعليمية، وأشهرها الأمير عبد القادر (1808- 1883) قائد المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي ومؤسس الدولة الجزائرية الحديثة. كما غُيبت رموز التاريخ الجزائري القديم، الأمر الذي شكل كبتا لقطاعات واسعة من الشباب الذين انتفضوا ضد اغتيال الهوية الوطنية في أحداث الربيع الأمازيغي الشهيرة عام 1980.

مطلع الثمانينيات شهد أيضا فتح المجال واسعا لنشاط حركات الإسلام السياسي لتوظيفها كمخلب قط في الحرب ضد اليسار الذي كان ما يزال مسيطرا على بعض دواليب السلطة، وخاصة في ما كان يسمى آنذاك بـ"المنظمات الجماهيرية" الخاصة بالشباب والعمال والفلاحين، إضافة إلى صعود نجم "ملتقيات الفكر الإسلامي" السنوية التي كانت ترعاها الدولة، والتي تحولت من مجال مفتوح على ثقافات العالم والقراءات المتنوعة للدين والحضارة، إلى مجال خصب للدعوة إلى الخطاب الديني المتطرف، حيث لاحظنا الحضور الكثيف للرموز السلفية في غياب الرموز الفكرية المنفتحة التي غُيبت عن هذا الحدث.

بالتوازي مع الملتقيات الدينية، انطلقت معارض الكتاب التي أغرقت السوق بالكتاب الديني المستورد من المشرق والمُدعم من طرف الدولة بنسبة 90 في المئة، في ظل غياب كامل لثقافة القراءة النقدية وسط جمهور شبابي في أغلبه، متعطش للكتب الدينية بسبب موجة ما سمي آنذاك بـ"الصحوة الإسلامية" ذات الخطاب المُغرق في الماضوية.

من جانب آخر، نجد أن استقدام بعض رموز الإسلام السياسي الشهيرة من المشرق إلى الجزائر، وتسليمهم مقاليد التعليم الديني العالي في جامعة الأمير عبد القادر على سبيل المثال، بالإضافة إلى النشاط الكثيف للحركات الأصولية المحلية، كل ذلك نتج عنه إقصاء النخبة الجزائرية التنويرية (من أمثال محمد أركون ومولود معمري والطاهر جاووت) عن الحقل الثقافي، لتعويضهم برموز الإسلام السياسي المشرقية الذين أصبحوا يمثلون القدوة والمثل الأعلى للشباب، في حين أصبح التكفير العلني للرموز الثقافية الوطنية، أمرا عاديا لا يكاد يعترض عليه أحد. ومن الأمور الموحية في هذا المجال، ما حدث للدكتور محمد أركون (المتخصص في الدراسات الإسلامية) في ملتقى الفكر الإسلامي وهو يلقي محاضرته، حيث حرض أحد شيوخ الأزهر على طرده من القاعة متهما إياه بالكفر والإلحاد، وهكذا كان.

إن تكريس سياسة الحزب الواحد على المستوى الرسمي، وغياب أي مجال للحوار الفكري والسياسي داخل المجموعة الوطنية، والكبت النفسي والاجتماعي الذي كانت تعانيه شرائح واسعة من الشباب، والناتج عن التناقض بين الغريزة الطبيعية من جهة، وبين الممنوعات والطابوهات الدينية من جهة أخرى، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلد سنة 1986، والتي فاقمت الأمور المتأزمة أصلا بسبب تصاعد مؤشرات التهميش والفقر والبطالة. كل ذلك، جعل الساحة الجزائرية تتحول إلى أرضية خصبة للتجنيد والتجييش داخل حركات الإسلام السياسي المتطرفة.

وجاءت أحداث أكتوبر 1988 لتُنتج جزائر تعددية وصحافة حرة، وعشرات الأحزاب السياسية، كان أقواها حزب "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" الديني المعارض والمتطرف. ولن نستغرب بعد هذا التحليل، كيف تمكن هذا الحزب من تجنيد أكثر من ستة ملايين جزائري في صفوفه، ليُدخل البلد في صراع داخلي دموي عنيف دام أكثر من 10 سنوات، صراعٌ ما تزال مضاعفاته مستمرة حتى اليوم، تماما كما هي مستمرة أغلب الدوافع نحو التطرف.

عن الكاتب: سعيد جاب الخير، إعلامي جزائري وباحث في التصوف. كتب منذ 1989 في عدد من الصحف الجزائرية. عمل محررا في صحيفة "الخليج" الإماراتية. عمل للإذاعة الجزائرية حيث قدم ثمانية برامج ثقافية. باحث في الحركات الإسلامية والتصوف وله عدة مقالات وأبحاث منشورة كما شارك في العديد من الملتقيات الوطنية والدولية. صدر له  كتاب (التصوف والإبداع) عن دار المحروسة، القاهرة 2007، وأبحاث في التصوف والطرق الصوفية، الزوايا والمرجعية الدينية في الجزائر، عن دار فيروز، الجزائر 2014. مؤسس ملتقى الأنوار للفكر الحر، سنة 2014.

لمتابعة الكاتب على فيسبوك اضغط هنا. وعلى تويتر اضغط هنا.

 الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.

مواضيع ذات صلة:

الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية
الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية

مع بدء السنة الدراسية الجديدة في معظم أنحاء الشرق الأوسط، يجد تلاميذ قطاع غزة أنفسهم للعام الثاني على التوالي دون مدارس ينهلون منها العلم والمعرفة، مما حدا برهط من المسؤولين والأهالي إلى إيجاد بعض الحلول الفردية، وفقا لتقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية.

وكان من المفترض أن يبدأ العام الدراسي الجديد رسميا هذا الأسبوع، في القطاع الذي يشهد حربا شرسة منذ أكثر من أحد 11 شهرا بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، المصنفة "منظمة إرهابية" في الولايات المتحدة ودول أخرى.

وأدى القصف إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية الحيوية في القطاع الفلسطيني، بما في ذلك المراكز التعليمية، التي كانت تستوعب نحو مليون تلميذ تحت سن 18 عاماً، وفقاً للأمم المتحدة.

وفي ظل صعوبة تأمين مساحة آمنة لتدريس الأطفال، قررت وفاء علي، التي كانت تدير مدرسة بمدينة غزة قبل الحرب، فتح فصلين دراسيين في منزلها شمالي القطاع، حيث يتجمع العشرات من الأطفال لتعلم العربية والإنكليزية بالإضافة إلى مادة الرياضيات.

وقالت علي: "أرادت الأسر أن يتعلم أطفالها القراءة والكتابة بدلاً من إضاعة الوقت في المنزل، خاصة أن الحرب لن تنتهي قريبا".

ولا يستطيع المعلمون الوصول إلا إلى نسبة صغيرة من الأطفال الذين حرموا من التعليم بسبب الحرب، التي بدأت بعد أن هاجمت حركة حماس إسرائيل في 7 أكتوبر، مما أسفر عن مقتل 1200 شخص، معظمهم من المدنيين، وبينهم نساء وأطفال، حسب بيانات رسمية.

وردًا على ذلك، شنت إسرائيل عملية عسكري أدت إلى مقتل أكثر من 41 ألف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال، وفقًا لوزارة الصحة في القطاع.

"نبذل قصارى جهدنا"

من جانبها، أوضحت آلاء جنينة، التي تعيش حاليا في خيمة بوسط قطاع غزة، أن طفلها البالغ من العمر 4 سنوات وابنتها ذات السبع سنوات، يتلقيان دروسًا في خيمة قريبة.

وقالت المراة البالغة من العمر 33 عاما، إنها زارت مؤخرا "مدرسة الخيام"، مضيفة: "لقد أحزنني ذلك. ليس لديهم ملابس أو حقائب أو أحذية. لكننا نبذل قصارى جهدنا".

وتقول وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، التي تدير عشرات المدارس بالقطاع، إن أكثر من ثلثي مدارسها دُمرت أو تضررت منذ بدء الحرب.

ووفقا للوكالة، فقد قُتل "مئات" الفلسطينيين الذين نزحوا إلى مرافق الأونروا، ومعظمها مدارس، بينما تؤكد إسرائيل
أن ضرباتها على المدارس وملاجئ الأونروا "تستهدف المسلحين الذين يستخدمون تلك المرافق"، وهو أمر تنفيه حركة حماس.

ورفضت هيئة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، وهي الهيئة العسكرية الإسرائيلية المسؤولة عن التنسيق مع جماعات الإغاثة، التعليق، كما لم يستجب مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي لطلب التعليق من الصحيفة الأميركية.

"بقع لليأس والجوع"

وقالت "الأونروا" إنها أطلقت برنامج العودة إلى التعلم، الذي سيجلب حوالي 28 ألف طفل إلى عشرات المدارس، لافتة إلى أن ذلك البرنامج سيركز على "الدعم النفسي والفنون والرياضة ومخاطر الذخائر المتفجرة، ثم سيتعمق أكثر في مواد القراءة والكتابة والرياضيات".

وفي هذا الصدد، قال المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، الأربعاء، على وسائل التواصل الاجتماعي: "الكثير من المدارس لم تعد مكانًا للتعلم. لقد أصبحت بقعا لليأس والجوع والمرض والموت".

وتابع: "كلما طالت فترة بقاء الأطفال خارج المدرسة.. كلما زاد خطر تحولهم إلى جيل ضائع. وهذه وصفة للاستياء والتطرف في المستقبل".

من جانبه، أوضح الباحث في مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني بقطر، معين رباني، أن قطاع غزة "كان لديه معدلات تعليم عالية نسبيًا، على الرغم من نسب الفقر الكبيرة التي تسوده".

وأضاف رباني أن الفلسطينيين "سعوا منذ فترة طويلة إلى التعليم للتقدم وسط ظروف اقتصادية صعبة، حيث وقد وفرت لهم الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية مختلفة فرصًا تعليمية جيدة".

ولفت في حديثه للصحيفة الأميركية، إلى أن العديد من الفلسطينيين في غزة "اعتادوا على فقدان أراضيهم ومنازلهم وممتلكاتهم، وبالتالي اهتموا بالتعليم، لأنه أمر يمكنك أن تأخذه معك أينما ذهبت".

وهناك ثمن نفسي للابتعاد عن المدرسة على الأطفال أيضًا، إذ قالت ليزلي أركامبولت، المديرة الإدارية للسياسة الإنسانية في منظمة إنقاذ الطفولة الأميركية، إن قضاء عام بعيدًا عن المدرسة والأصدقاء والملاعب والمنازل خلال صراع مسلح عنيف، "يمثل إزالة للركائز الأساسية للاستقرار والسلامة للأطفال".

وشددت على أن "عدم اليقين والتوتر وفقدان المجتمع، يمكن أن يؤدي إلى تحفيز أنظمة الاستجابة الطبيعية للتوتر في الجسم، والتي يمكن أن تكون ضارة بمرور الوقت".

واستطردت حديثها بالتأكيد على أن "تكرار هذه الأعراض أو استمرارها لفترات طويلة، قد يؤدي إلى مجموعة من النتائج السلبية على الصحة العقلية، التي لا يتعافى منها الأطفال بسهولة".

وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، قد كشفت في وقت سابق هذا الشهر، أن الأطفال في قطاع غزة "هم الفئة الأكثر تضررًا" مما يحدث هناك، وهم بحاجة ماسة لدعم نفسي وتعليمي بشكل عاجل.

وقال الناطق باسم المنظمة، كاظم أبو خلف، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، إن الوضع الحالي في غزة "يتطلب استجابة عاجلة لمساعدة الأطفال الذين يعانون من فقدان التعليم والأضرار النفسية الجسيمة التي يتعرضون لها".

وشدد على أن "جميع الأطفال في القطاع يحتاجون إلى دعم نفسي، حيث فقد ما لا يقل عن 625 ألف طفل عامًا دراسيًا منذ بدء الحرب.. وبعض الأطفال تعرضوا لبتر أطرافهم وهم بحاجة إلى الخروج من القطاع لتلقي العلاج، فيما يعاني العديد من الأطفال من الخوف والقلق بسبب الحرب".