متابعة علي عبد الأمير:
كلما تقدمت القوات العراقية والكردية باتجاه مدينة الموصل، كانت تشتبك مع عناصر داعش الموزعين على سلسلة من مدن أشباح مفخخة مثل برطلة. هناك يعم الظلام تلك البلدات القديمة والقرى في سهل نينوى، مهد حضارة بلاد ما بين النهرين.
وقبل سقوط المنطقة في صيف عام 2014 بيد التنظيم الإرهابي، كانت موطنا للأقليات العرقية والدينية، في تذكير بقيمة التنوع الاستثنائي الذي اتسمت به ضمن جزء كبير من الشرق الأوسط. لكن المتطرفين السنّة من داعش اتهموا أبناء تلك الأقليات من العراقيين بالكفر أو الزندقة، فهرب مئات الآلاف منهم متخلين عن ممتلكاتهم ومنازلهم وإرثهم الديني والتاريخي.
في هذه الأيام، "لم يعد هؤلاء العراقيون المشردون مجرد ضحايا"، هكذا يلفت الكاتب ياروسلاف تروفيموف في تقريره الذي نشر في الملحق الأسبوعي لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، إلى أن العديد من لاجئي الأقليات من سكان سهل نينوى، يقاتلون جنبا إلى جنب مع الجيش العراقي وجنود الببشمركة الكردية لاستعادة السيطرة على بلداتهم. وثمة سؤال "كيف سيتعايشون مع الأغلبية العربية السنية في المنطقة؟" قد يشكل واحدة من المسائل الحاسمة التي ستواجه العراق والشرق الأوسط الكبير مع انهيار داعش في نهاية المطاف.
اقرأ أيضاً:
نازحون في بغداد يحلمون بالعودة إلى مناطقهم… ولكن؟
القوات العراقية تقترب من أحياء الموصل الشرقية
وينقل الصحافي تروفيموف، عن المنسق السياسي لـ"وحدة حماية نينوى"، يعقوب كوركيس، قوله "اليوم لدينا الحق في تحديد مستقبل هذه المناطق لأننا نشارك في تحريرها"، في إشارة إلى عمل وحدته وهي قوة درّبتها الولايات المتحدة ومتكونة من نحو 500 رجل من الأقلية المسيحية الآشورية.
وقبل سيطرة داعش عليها، ذكرت برطلّة لأول مرة في السجلات الآشورية قبل نحو ألف عام، وهي بلدة مسيحية يسكنها نحو 30 ألف شخص. إنّها تمتد على طريق سريع رئيسي وعلى بعد 25 دقيقة بالسيارة من وسط مدينة الموصل.
وكان تنظيم داعش قد عرض على المسيحيين خيارا لا يحسدون عليه: إما ترك منازلهم أو البقاء فيها بوصفهم "ذميين"، أي مواطنين من الدرجة الثانية، يجب أن يدفعوا "الجزية". ويقول كوركيس إن هناك "ست عائلات مسيحية لا تزال في الموصل، وتدفع جزية شهرية قدرها 75 ألف دينار (نحو 64 دولارا أميركيا للشخص)، بينما جميع المسيحيين في المنطقة فضلوا الفرار ولجأ معظمهم إلى منطقة الحكم الذاتي الكردية المجاورة للعراق".
وفي ليلة سقوط المنطقة بيد داعش، "هرب الجميع باستثناء عدد قليل من السنّة الذين كانوا يعيشون في البلدة"، بحسب ما يقول ماتي بهنام، وهو مدرّس من برطلة يبلغ من العمر 58 عاما، وسمحت القوات العراقية له بالعودة إلى منزله في زيارة قصيرة "لقد ولدت هنا. كل ذكرياتي هنا. لا شيء يمكن أن يحلّ محل هذا البيت الذي يعني لي كل وجودي".
الخوف سيد الموقف؟
طبيعة حكم داعش واضحة للعيان في ناحية برطلة. فقد خطّ على المنازل الفخمة في الشارع الرئيسي عبارة "ممتلكات الدولة الإسلامية"، وهي علامة على أن هذه المنازل صودرت من أصحابها المسيحيين.
بالمقابل هناك بيوت تحمل عبارة "مسلم سني"، وهي فارغة اليوم أيضا، فقد فرّ أصحابها من العرب السنة نحو الموصل، مع تراجع داعش، فهم "يخشون أن يعود جيرانهم المسيحيون ويعاملونهم على أنهم تعاونوا مع حكم التنظيم".
وعاشت أقليات أخرى قرب الموصل حالا أسوأ مما عاشه المسيحيون، فتنظيم داعش يصف الشيعة (من العرب والتركمان أو الشبك) بالهرطقة، وعليهم اختيار التحول إلى المذهب السني أو الموت. وإلى جانب الشيعة، هناك الأقليات الدينية القديمة في الشرق الأوسط بما في ذلك الأيزيديين والكاكائيين الذي اعتبرهم داعش وعاملهم على أنّهم "رقيق العصر الحديث".
وهنا يتجدد السؤال: أي من هذه الأقليات على استعداد للعودة إلى الوضع السابق قبل 2014؟
السنّة في دائرة الاتهام
زعماء مسيحيون يضغطون بالفعل لإنشاء إقليم منفصل تحت اسم "سهل نينوى.. كوطن للأقليات غير السنية"، قادة الأيزيديين يريدون مقاطعة خاصة بهم حول جبل سنجار غرب الموصل، فهم يرون أن العرب السنة دعموا داعش، ولذا فـ"من المستحيل للأيزديين العيش جنبا إلى جنب مع العرب الذين تلطخت أيديهم بالدماء".
ويظل قول محافظ نينوى، نوفل حمادي، "إذا تمكنا من الحفاظ على الأمن من دون الانتقام، مستقبلنا سيكون مشرقا" يتضمن الاحتمالين: العيش بسلام والانتقام أيضا!
*الصورة: في كنيسة بمنطقة محررة قرب الموصل/وكالة الصحافة الفرنسية
يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659