صبي فلسطيني يحمل أفرشة خلال عملية فرار لنازحين فلسطينيين مع ممتلكاتهم إلى مناطق أكثر أمانًا في مدينة غزة بعد غارات جوية إسرائيلية في 13 أكتوبر 2023.
صبي فلسطيني يحمل أفرشة خلال عملية فرار لنازحين فلسطينيين مع ممتلكاتهم إلى مناطق أكثر أمانًا في مدينة غزة بعد غارات جوية إسرائيلية في 13 أكتوبر 2023.

مع اندلاع كل حرب، وتصاعد المواجهات المسلحة بين مختلف أطرافها، يتجدد الحديث عن الممرات الآمنة أو الإنسانية باعتبارها إجراء ضروريا لإخلاء المدنيين والجرحى، وإنقاذ العالقين في مناطق الاشتباكات، وتوصيل الإمدادات الأساسية إلى المناطق التي تعاني شحا في المواد الغذائية والطبية والتموينية جراء العمليات العسكرية.

في سياق الحرب الدائرة الآن في قطاع غزة، اتخذ الحديث عن الممرات الآمنة بعدا آخر، وتباينت المواقف بشأنها؛ بين من يراها خطوة ملحة لإنقاذ أرواح المدنيين وبين من يعتبرها مقدمة لعمليات تهجير واسعة النطاق. فما هي الممرات الانسانية؟ وما أهميتها في زمن الحروب والنزاعات؟

 

الخلفية القانونية

 

لا يوجد مصطلح "الممرات الإنسانية" في القانون الدولي الإنساني، أو المعاهدات الدولية ذات الصلة، لكن توجد ترسانة من النصوص والمواد التي يمكن اعتبارها إطارا قانونيا للممرات والمناطق الآمنة في مناطق الحروب. فقد تضمنت معاهدة جنيف الرابعة المؤرخة في 12 أغسطس 1949 مواد تحث بشكل واضح أطراف الصراع على " إنشاء مناطق محايدة في الأقاليم التي يجري فيها القتال بقصد حماية.. المدنيين والمرضى والجرحى والنساء والأطفال..".

وجاء في المادة 17 من المعاهدة أن على أطراف النزاع "إقرار ترتيبات محلية لنقل الجرحى والمرضى والعجزة والمسنين والأطفال والنساء النفاس من المناطق المحاصرة أو المطوقة، ولمرور رجال جميع الأديان، وأفراد الخدمات الطبية والمهمات الطبية إلى هذه المناطق".

وتناولت المواد السابقة واللاحقة الأخرى تفاصيل عن المناطق الآمنة المحايدة وآليات إدارتها، لاسيما المادة 23 التي يمكن اعتبارها أساسا قانونيا للمرات الآمنة. تقول المادة: "على كل طرف من الأطراف السامية المتعاقدة أن يكفل حرية مرور جميع رسالات الأدوية والمهمات الطبية ومستلزمات العبادة المرسلة حصراً إلى سكان طرف متعاقد آخر، المدنيين، حتى لو كان خصماً. وعليه كذلك الترخيص بحرية مرور أي رسالات من الأغذية الضرورية، والملابس، والمقويات المخصصة للأطفال دون الخامسة عشرة من العمر، والنساء الحوامل أو النفاس".

لاحقا، أتى برتوكول جنيف الأول والمكمل لاتفاقيات جنيف الأربع عام 1977 ليعزز مجموعة القوانين المتعلقة بحماية المدنيين ضحايا النزاعات المسلحة. هذا فضلا عن ممارسات عرفية تقررت دون أن تكون مثبتة في متن القوانين، وكان لها دور تكميلي في سد الثغرات في القوانين والمعاهدات المبرمة. وتعرِّفها لجنة الصليب الأحمر بأنها "ممارسات عامة مقبولة كقانون". وبناء عليه عرف الصليب الأحمر الممرات الإنسانية بأنها" اتفاقات بين أطراف النزاع المسلح للسماح بمرور آمن لفترة محددة في منطقة جغرافية محددة، ويمكن أن  تسمح هذه الممرات للمدنيين بالمغادرة، ودخول المساعدات الإنسانية أو السماح بإجلاء الجرحى أو المرضى أو القتلى".

غاية الممرات الآمنة الأساسية إذن تكمن في مساعدة الأشخاص المحاصرين في الأعمال العدائية أو الوصول إلى ضحايا الحروب.

 

تطبيقات تاريخية

 

على مدار العقود الماضية، أقيمت إبان الحروب ممرات آمنة لإخلاء المدنيين. ويرجع بعض المؤرخين التطبيق الأول لهذه الممرات إلى عام 1939، حينما تم نقل أطفال يهود من المناطق الخاضعة للحكم النازي إلى المملكة المتحدة ضمن برنامج "كيندر ترانسبورت".

وفي 1989 أشرفت الأمم المتحدة على ممرات آمنة لإيصال المساعدات الإنسانية إلى المدنيين العالقين وسط المعارك أثناء الحرب الأهلية في السودان. وخلال حصار سراييفو، عاصمة البوسنة، الذي استمر من عام 1992 وحتى 1995، أقامت الأمم المتحدة أيضا مناطق وممرات آمنة للمدنيين.

استخدمت الممرات الآمنة في معظم النزاعات التي اندلعت منذ تسعينات القرن الماضي إلى غاية الآن. واتخذت أشكالا متعددة، ما بين مناطق منزوعة السلاح، إلى مسارات برية آمنة، ومعابر بحرية، وجسور جوية، وغيرها.. وكان هدفها في المجمل إنقاذ المدنيين وإيصال المساعدات.

خلال الحرب الأهلية السورية التي اندلعت عام 2011، استخدمت صيغ متعددة من المناطق الآمنة، منها ما يندرج تحت ما سمي "مناطق خفض التصعيد" وهي اتفاقات مبرمة بين أطراف الصراع تم بموجبها التعهد بتقليص الأعمال العدائية ضمن النطاق الجغرافي المعني إلى الحد الأدنى. واستخدمت أيضا مسارات برية سمحت للمدنيين والمسلحين الراغبين في إلقاء السلاح بالخروج من مناطق الاشتباكات إلى مناطق أخرى أكثر أمنا، كما حصل في مدن الغوطة الشرقية وحلب وحمص وغيرها.

 في حرب روسيا وأوكرانيا، جرى الحديث عن ضرورة إقامة ممرات آمنة لخروج المدنيين في مارس 2022 أي بعد أسابيع فقط من التدخل الروسي. وكانت دائما مثار جدل بين الطرفين، إذ اقترحت روسيا إنشاء 6 ممرات آمنة من المدن الأوكرانية إلى أخرى في روسيا وبيلاروسيا، الأمر الذي رفضته أوكرانيا بشكل قاطع. لكن تم التوافق على إقامة ممرات إنسانية في كييف وتشيرنيهيف وسومي وخاركيف وماريوبول، وتبادل الطرفان الاتهامات باستهدافها وتقويض فعاليتها، كما تم فتح ممرات إنسانية بحرية إلى الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود ضمن صفقات الحبوب التي رعتها تركيا.

 

مخاوف من عدم الحياد

 

تنطوي الممرات الإنسانية على تعقيدات قانونية وعملية كثيرة، ويمكن أن تستخدم لتعزيز المواقف العسكرية والسياسية لأحد أطراف النزاع، وتخرج بالتالي عن غاياتها الإنسانية البحتة.  فالبرتوكول المكمل لاتفاقيات جنيف لسنة 1977 ينص بوضوح على الحياد التام لعروض النجدة والمساعدة، وألا تعتبر هذه العروض تدخلا لصالح أحد أطراف النزاع. وتمثل مسألة "الضمانات" مشكلة عند الحديث عن المناطق والممرات الآمنة، فمن يستطيع أن يعطي ضمانات كاملة بحمايتها وعدم استهدافها؟

أسوأ مجزرة في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية تم ارتكابها في منطقة أعلنت الأمم المتحدة أنها "منطقة آمنة" وتحت حماية قوات أممية، غير أن ذلك لم يمنع القوات الصربية في يونيو 1995 من قتل أكثر من 8000 بوسني داخلها فيما عرف بمذبحة سربرنيتسا.

لجأ نظام بشار الأسد وحليفه الروسي إلى استخدام "الممرات الآمنة" وسيلة لفرض خريطة ديمغرافية جديدة في سوريا. فبينما كانت الخطط المعلنة تنص على إنشاء ممرات إنسانية لتوصيل المساعدات وإجلاء الجرحى والمدنيين، اتهم النظام السوري بتنفيذ سياسات تهجير قسري ممنهجة، وإفراغ المدن من سكانها.

وقال حينها السفير البريطاني في الأمم المتحدة ماتيور رايكروفت عن الممرات المقامة في حلب سنة 2016 "الممرات الانسانية ستكون مقبولة إذا كان هدفها توصيل المساعدات الإنسانية وليس إفراغ حلب من سكانها". بدورها، دأبت قوى المعارضة السورية على وصفها بـ"ممرات الموت" لأن قوات بشار الأسد غالبا ما تتخذها أهدافا عسكرية لها.

تشترط المعاهدات والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحماية المدنيين أن تكون المناطق الآمنة موضع توافق بين أطراف النزاع، ولا يمكن للجهات المحايدة الراعية أو المراقبة لها، مثل الأمم المتحدة والصليب الأحمر، التدخل إلا بعد اتفاق الأطراف المعنية على كل تفاصيلها.

ويوجد تداخل بين مصطلحي "المنطقة الآمنة" و "الممر الآمن" مع أنهما في بعض الأحيان قد يعبران عن غايات ونوايا مختلفة. وأحيانا يتم التعبير عنهما باعتبارهما أمرا واحدا. الممر الآمن يحيل على مسار بري أو بحري هدفه توصيل المساعدات أو إجلاء المدنيين، والمنطقة الآمنة تشير إلى رقعة جغرافية محايدة تحظر فيها العمليات القتالية، بسبب طابعها المدني وكثافة سكانها أو لتعذر التمييز داخلها بين الأهداف العسكرية والمدنية.

لذلك، قد يطالب أهالي بعض المدن بمناطق آمنة داخل مدنهم، وبممرات إنسانية لإمدادهم بالغذاء والدواء، ويرفضون بشكل قاطع ممرات آمنة لنزوحهم إلى مناطق أخرى. وهو ما طالب به السوريون في مناشداتهم بفرض مناطق حظر جوي، وحمايتهم من الترحيل القسري. ولذات السبب رفض الأوكرانيون ممرات آمنة تنتهي بهم في الأراضي الروسية والبيلاروسية.

وفي ذات السياق، يرفض الكثير من سكان قطاع غزة إنشاء ممرات آمنة تنتهي بهم إلى سيناء المصرية، ويطالبون في المقابل بفتح المعابر الإنسانية، لدخول المساعدات، ووقف الحصار والحرب.

مواضيع ذات صلة:

A displaced Palestinian girl runs in a school where she takes refuge with her family, after a temporary truce between Hamas and Israel expired, in Khan Younis
من إحدى المدارس التي تؤوي النازحين في قطاع غزة- رويترز

أفاد مدير وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في غزة، توماس وايت، الجمعة، بأن إحدى مدراس الوكالة الأممية بالقطاع الفلسطيني، تشهد تفشيا لمرض "التهاب الكبد الوبائي أ".

وقال وايت في مقابلة مع شبكة "بي بي سي" البريطانية: "في إحدى مدارسنا، لدينا الآن تفشيا لالتهاب الكبد الوبائي أ".

وأضاف أن خطر الإصابة بالأمراض المعدية قائم بالفعل في غزة، بسبب أن مدارس "الأونروا" التي تتسع لإيواء 1500 شخص، بها حاليا أكثر من 6000 شخص جنوبي القطاع.

ويشهد الوضع الصحي تدهورا، إذ تحدثت منظمة الصحة العالمية عن وجود 111 ألف إصابة بالتهاب الجهاز التنفسي الحاد، و36 ألف حالة إسهال لدى أطفال دون الخامسة، بين النازحين في غزة. 

وفي نهاية الشهر الماضي، أعلنت منظمة الصحة العالمية عن "زيادة كبيرة" في الإصابات ببعض الأمراض المعدية في غزة، مشيرة بصورة خاصة إلى زيادة حالات الإسهال بين الأطفال بـ 45 مرة، في حين أن معظم مستشفيات القطاع توقفت عن العمل جراء الحرب.

وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 1.8 مليون شخص في قطاع غزة فروا من منازلهم خلال الأسابيع السبعة الماضية، ويعيش نحو 60 في المئة منهم في 156 منشأة تابعة لـ"أونروا".

مخاطر عديدة

وفي اتصال سابق مع موقع "الحرة"، أوضحت أخصائية طب الأسرة، الدكتورة نسرين حماد، أن "الإسهال والالتهابات التنفسية يمكن أن يكونا من بين أخطر المشكلات الصحية التي تواجه المتواجدين في مناطق لا تتوفر فيها الشروط الصحية المناسبة".

وأضافت: "يجب الإشارة إلى أن مخيمات اللجوء والنزوح غالبا ما تكون مكانا لتجمع عدد كبير للناس في ظروف غير صحية، حيث يفتقرون إلى الوصول للمياه النظيفة والصرف الصحي والرعاية الصحية الأساسية، مما يجعلهم عرضة للعديد من الأمراض، بما في ذلك الإسهال والالتهابات التنفسية".

ونبهت إلى أن "الإسهال يمكن أن يكون مسببا لآثار مدمرة، حيث تنتقل الفيروسات والبكتيريا بسرعة عبر المياه الملوثة، إلى جانب أنه يؤدي إلى نقص السوائل والتغذية بالجسم بسرعة وبشكل خطير، خاصةً إذا لم يتوفر العلاج المناسب والوصول إلى الرعاية الصحية الأساسية".

ورأت حماد أن "التواجد في ظروف تؤدي إلى نقص النظافة والتغذية غير الصحية من حيث الكم أو النوع، يجعلان الأطفال وكبار السن أكثر عرضة للإصابة بالإسهال ومضاعفاته".

وبالنسبة للالتهابات التنفسية، فإنها، بحسب كلام الطبيبة، تشكل تحديا آخرا، لا سيما في أماكن الاكتظاط، حيث تكون التهوية سيئة والظروف البيئية غير صحية.

وشددت على أن "الإصابة بالتهابات الجهاز التنفسي يمكن أن تؤدي إلى مضاعفات خطيرة، مثل التهاب الرئة والانسداد في القصبات التنفسية".

وتعرض قطاع غزة لقصف إسرائيلي منذ 7 أكتوبر ترافق بعملية عسكرية برية بدأت 27 من الشهر ذاته، وذلك بعد الهجوم غير المسبوق الذي شنته حركة حماس على إسرائيل وخلف 1200 قتيل، أغلبهم مدنيون وبينهم نساء وأطفال، وأدى أيضا إلى اختطاف 240 رهينة، بحسب السلطات الإسرائيلية.

ولم يتوقف القصف على قطاع غزة، الذي خلف نحو 15 ألف قتيل معظمهم مدنيون وبينهم نساء وأطفال، إلا بعد إعلان هدنة إنسانية نهاية الأسبوع الماضي، للسماح بإطلاق سراح رهائن اختطفتهم حماس وفصائل أخرى، مقابل إطلاق سراح فلسطينيين في السجون الإسرائيلية.

كما أتاحت الهدنة تسريع إيصال المساعدات الإنسانية الضرورية لسكان القطاع الذين يناهز عددهم 2,4 مليون نسمة.

وانتهت الهدنة، الجمعة، بعد 7 أيام من دخولها حيز التنفيذ. وأعلنت حكومة قطاع غزة التابعة لحركة حماس، السبت، أن 240 شخصا على الأقل قتلوا في القطاع منذ انتهاء الهدنة صباح الجمعة.

كما أصيب أكثر من 650 شخصا في "مئات الغارات الجوية والقصف المدفعي ومن البوارج والزوارق البحرية الحربية على مناطق قطاع غزة"، وفق بيان للحركة الفلسطينية.

في الناحية المقابلة، أعلن الجيش الإسرائيلي، السبت، قصف "أكثر من 400 هدف إرهابي" في قطاع غزة منذ انتهاء الهدنة.

وتتقاذف إسرائيل وحماس المسؤولية عن إنهاء الهدنة، التي أتاحت الإفراج عن أكثر من 100 رهينة مقابل إطلاق 240 سجينا فلسطينيا، إضافة إلى دخول مزيد من المساعدات إلى قطاع غزة.

وقالت حماس في بيان سابق، الجمعة، إنها اقترحت أن يتم تبادل سجناء فلسطينيين لدى إسرائيل، برهائن "مسنين" لديها، وأن تسلّم جثث رهائن إسرائيليين "قُتلوا في القصف الإسرائيلي".

وأعلن الجيش الإسرائيلي، الجمعة، أنه تأكد من وفاة 5 من الرهائن الذين كانوا محتجزين في قطاع غزة وأبلغ عائلاتهم، قائلا إن الدولة استعادت جثة أحدهم.

من جانبه، اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، الحركة الفلسطينية بـ"خرق الاتفاق" و"إطلاق صواريخ" باتجاه إسرائيل، وتوعدت حكومته بتوجيه "ضربة قاضية" لحماس.