مخيمات لإيواء النازحين الفلسطينيين جنوبي قطاع غزة
مخيمات لإيواء النازحين الفلسطينيين جنوبي قطاع غزة

"عندما نستيقظ من النوم، تداهمنا ثلاثة تحديات كبرى، البرد والأكل والماء"، بهذه الكلمات يبدأ الفلسطيني زكريا بكر حديثه مع "ارفع صوتك".

فور اشتعال الحرب، فرّ بكر من مخيم الشاطئ في غزة إلى مدينة رفح التي تبعد أربعة كيلومترات عن الحدود المصرية.

تعيش عائلته على وجبة مكوّنة من علبة فول وزجاجتي مياه يحصل عليها كل عدة أيام، بالإضافة إلى وجبات أخرى تحتوي على بعض الحلويات وكعك أطفال، توزّع عليهم من وقتٍ إلى آخر.

خلال حديثه مع "ارفع صوتك"، يؤكد بكر أن هذه المواد الغذائية التي يحصل عليها مجاناً عبر الأونروا (وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) ومؤسسات خيرية أخرى، مصدره الوحيد لإطعام عائلته، ومن دونها قد تواجه خطر الموت جوعاً، على حد تعبيره.

"منذ الصباح تشغلنا أزمة المياه، نحصل على الماء الصالح للشرب وللطهي من أماكن بعيدة يصل فيها سعر الجالون إلى 3 أضعاف ثمنه"، يقول بكر.

بعد الحصول على الماء يبدأ النازح الفلسطيني فورًا بالسعي إلى تحقيق "الهدف" الثاني من "روتينه" اليومي وهو جمع الحطب من الشوارع  أو من الأراضي الزراعية، لتأمين التدفئة لعائلته.

وفي ظل المحاولات المتعددة التي يقوم بها آلاف الفلسطينيين لجمع الخشب من الشوارع، لم يعد سهلاً الحصول عليها، وهو ما يدفعهم للجوء إلى الخيار الثاني الأكثر صعوبة، وهو شراء الحطب.

يقول بكر: "كان سعر مشطاح الخشب (قطعة طويلة) 7 شيكل (1.84 دولار أميركي)، وسعره الآن 60 شيكل (15.81 دولار أميركي)".

في بعض الأوقات تضيق السُبُل أمام النازحين عندما لا يعثرون على الحطب في الشارع أو في المتاجر، فيضطرون لاستخدام أنواع خشب أقل جودة، مثل الخشب الأخضر، أو بعض المواد البلاستيكية التي تؤثر انبعاثاتها على الصحة.

تُسلّم هذه الأخشاب إلى النساء اللائي يضعنها داخل عبوات سمن معدنية كبيرة لإشعالها وطهي الطعام وإعداد الخبز.

قبل الشروع في طهي أي وجبة طعام تجري النساء حسابات اقتصادية مكثفة لضمان ألا تستهلك الوجبة أكثر مما ينبغي من الموارد المتاحة. عن ذلك يشرح بكر: "عندما طبخنا مكرونة بهدف توفير الخبز، اكتشفنا أن كلفتها أكثر من كلفة كيس دقيق، واستهلكنا لإعدادها علبتيّ صلصة، كل عبوة ثمنها 20 شيكل أي ما يعادل 200 جنيه مصري، وهي تكلفة تفوق قدرتنا".

قصف إسرائيلي على مدينة رفح جنوبي غزة
"كان يفترض أن تكون ملاذنا الآمن".. القصف يطارد نازحي غزة في رفح
رغم أنه من المفترض أن تكون مدينة رفح من الأماكن الآمنة للمدنيين في قطاع غزة، لاسيما بعد أن دعا الجيش الإسرائيلي السكان في المناطق الشمالية، البالغ عددهم نحو 1.1 مليون نسمة، إلى النزوح جنوبا، إلا أنها تعرضت لقصف استهدف العديد من المنازل والبيوت فيها، وفقا للصحفي، رائد لافي، الذي أكد أنه نجا من الموت بأعجوبة "بفضل مكالمة مع قناة الحرة".

"مُصرّون على الحياة"

يؤكد عصام يونس، المفوض السابق للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان فى فلسطين أن "الظرف الاستثنائي الذي تعيشه غزة، جعل الناس لا يتركون ورقة أو بقايا كارتون أو حطب إلا ويستخدمونها كبدائل عن غاز المنازل الذى يمنع دخوله حالياً إلى القطاع".

ويتابع يونس: "في ظِل حِرص الأهالي على البقاء على قيد الحياة حاولوا تدبير بدائل لكل شيء، أولويتهم الأولى كانت إشعال النار للطهي في النهار والتدفئة في الليل، لذا فإنهم يجمعون كل ما هو قابل للاحتراق".

الأولوية الثانية، بحسب يونس، هي الحصول على الماء الذي أصبح نادراً بسبب تدمير أغلب شبكات الماء. لذا لجأ الأهالي إلى وضع الأواني في العراء لتجميع مياه الأمطار واستخدامها في الشرب والطبخ لاحقاً.

بعد الحصول على الماء، تُعامل معاملة المادة النادرة، وبمنتهى الحرص، حيث يعاد تدويرها، فلا يتم التخلص منها بعد الانتهاء من الغسيل والطهي، بل يجري إعادة استخدامها من جديد في عمليات التنظيف لضمان حُسن استخدامها بأفضل طريقة ممكنة.

وبحسب يونس، فإنه حتى بعد توفير النار والماء فإن مهمة الحصول على الخبز لن تكون يسيرة على نساء غزة بسبب عدم توفر مواد التخمير لذا لجأن للاستعانة بـ"وصفات الجدّات" الناجعة في إنتاج خبز من دون تخمير.

إلى ذلك، يتحدث يونس عن تحويل الخل إلى مادة أساسية للتعقيم في المخيمات والمستشفيات، "فيما تستخدم الأقمشة كضمادات للجروح".

أوضاع لا تصلح لعيش البشر

سيدة فلسطينية من خانيونس، فضّلت عدم ذكر اسمها، تقول لـ"ارفع صوتك" إنها "منذ أن هربت إلى رفح، تعيّن عليها أن تودّع اللحوم والبيض، وأن تكتفي بالعيش على المعلبات والبقوليات بعدما ارتفعت الأسعار بشكلٍ جنوني".

كما تكشف السيدة الفلسطينية النازحة، أنها في ظِل أزمة الطاقة التي يعاني منها القطاع، باتت تعتمد على أفران الطين بشكلٍ أساسي، وتشعل النار فيها باستخدام الخشب والأوراق.

معاناة هذه النازحة لا تقتصر على الحطب، بل مع ندرة المياه أيضاً، ولا يبدو أنها تختلف عن غيرها: "أحياناً، أقف في الطوابير لساعات حتى أستطيع ملء زجاجة الماء، وفي أحيان أخرى حينما يأتي دوري يكون الماء قد نفد"، تقول لـ"ارفع صوتك".

وفي حال فشلها في نيل حِصتها المجانية من الماء تضطر لشراء مياه معدنية بأسعار باهظة تجبرها أحياناً على إنفاق 30 شيكل (7.90 دولار أميركي) يومياً فقط لتأمين حاجتها من المياه.

تتهم النازحة الفلسطينية إسرائيل بمنع دخول الوقود إلى القطاع، إلا بكميات ضئيلة، لم تعد تكفي محطات توليد الطاقة إلا ساعاتٍ محدودة، أدت إلى إغراق القطاع في ظلامٍ دامس في أغلب ساعات الليل، ولم ينجُ من هذا المصير إلا الذين يمتلكون ألواح طاقة شمسية في منازلهم، ولهؤلاء لجأ البعض لشحن هواتفه النقالة.

وتضيف: "التواجد في الخيمة مزعج ليلاً ونهاراً، في الصباح تكون الحرارة عالية جداً، وفي الليل تتدنى درجاتها إلى مستويات شديدة البرودة".

تلفت السيدة الفلسطينية النظر إلى مشكلة بيئية كبرى يعيشها القطاع، وهي لجوء أهل غزة إلى تزويد سياراتهم بـ"زيت سيرج" (زيت السمسم) كبديل عن الوقود المحظور دخوله قطاع غزة منذ اندلاع الحرب.

وتتابع: "هذا الوقود البديل يُخلف رائحة شديدة السوء في الجو، ويزيد من معدلات التلوث العالية في هواء غزة بسبب عوادم الطائرات والأدخنة الناجمة عن الأعمال الحربية والحرائق التي تتسبب بها"، على حدّ تعبيرها.

 

أفراح تحت الركام

"أستيقظ في الفجر للوقوف في طوابير طويلة من أجل الحصول على الماء"، هذه كلمات الطبيب خالد أحمد النازح إلى رفح.

يشرح معاناته منذ اضطراره إلى ترك منزله خوفاً من الحرب التي حرمته أساسيات الحياة ولم يعد بوسعه توفير أي طعام إلا عبر المساعدات الدولية التي تصله بعد مشقّة كبيرة.

يوضح سمير خليفة وهو صحفي فلسطيني فرَّ إلى الجنوب عقب قصف منزله، كيف أن المساعدات التي تعبر إلى القطاع لا تكفي الأعداد الكبيرة من النازحين، مما اضطرهم إلى تقاسمها، فالوجبة التي تكفي شخصين تقسّم على عشرة أشخاص.

وللدلالة على عمق الأزمة، خاص بما يتعلق بالأساسيات، يحكي خليفة عن أضطرار عدد من أهالي غزة إلى شرب الماء مالحاً واستخدامه أيضاً في طهي الطعام. "حتى قضاء الحاجة يكون في طوابير طويلة جدًا أمام دورات المياه" يقول معبّراً عن صعوبة ما يعيشه أقرانه.

على الرغم من كل ذلك، يقتنص بعض النازحين لحظات بهجة سريعة ينتشلونها من وسط الركام، وفقاً لما لموظفة في الأونروا.

تقول الموظفة التي فضلت عدم ذكر اسمها لـ"ارفع صوتك": "من هذه اللحظات ما شهده مركز الإيواء الذي أعمله فيه، حيث احتفلت صبية بزواجها على حبيبها، على الرغم من أنها فقدت أغلب أفراد أسرتها في الحرب وتعرضت لحروق شديدة".

تصف اللحظة بـ"الاستثنائية" عندما غنّى النازحون أغان تراثية لإسعادها في عرسها "البسيط" الذي أصرّت على الاحتفال به بجسدٍ مليء بالحروق ومن دون ثوب زفاف أبيض.

مواضيع ذات صلة:

الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية
الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية

مع بدء السنة الدراسية الجديدة في معظم أنحاء الشرق الأوسط، يجد تلاميذ قطاع غزة أنفسهم للعام الثاني على التوالي دون مدارس ينهلون منها العلم والمعرفة، مما حدا برهط من المسؤولين والأهالي إلى إيجاد بعض الحلول الفردية، وفقا لتقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية.

وكان من المفترض أن يبدأ العام الدراسي الجديد رسميا هذا الأسبوع، في القطاع الذي يشهد حربا شرسة منذ أكثر من أحد 11 شهرا بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، المصنفة "منظمة إرهابية" في الولايات المتحدة ودول أخرى.

وأدى القصف إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية الحيوية في القطاع الفلسطيني، بما في ذلك المراكز التعليمية، التي كانت تستوعب نحو مليون تلميذ تحت سن 18 عاماً، وفقاً للأمم المتحدة.

وفي ظل صعوبة تأمين مساحة آمنة لتدريس الأطفال، قررت وفاء علي، التي كانت تدير مدرسة بمدينة غزة قبل الحرب، فتح فصلين دراسيين في منزلها شمالي القطاع، حيث يتجمع العشرات من الأطفال لتعلم العربية والإنكليزية بالإضافة إلى مادة الرياضيات.

وقالت علي: "أرادت الأسر أن يتعلم أطفالها القراءة والكتابة بدلاً من إضاعة الوقت في المنزل، خاصة أن الحرب لن تنتهي قريبا".

ولا يستطيع المعلمون الوصول إلا إلى نسبة صغيرة من الأطفال الذين حرموا من التعليم بسبب الحرب، التي بدأت بعد أن هاجمت حركة حماس إسرائيل في 7 أكتوبر، مما أسفر عن مقتل 1200 شخص، معظمهم من المدنيين، وبينهم نساء وأطفال، حسب بيانات رسمية.

وردًا على ذلك، شنت إسرائيل عملية عسكري أدت إلى مقتل أكثر من 41 ألف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال، وفقًا لوزارة الصحة في القطاع.

"نبذل قصارى جهدنا"

من جانبها، أوضحت آلاء جنينة، التي تعيش حاليا في خيمة بوسط قطاع غزة، أن طفلها البالغ من العمر 4 سنوات وابنتها ذات السبع سنوات، يتلقيان دروسًا في خيمة قريبة.

وقالت المراة البالغة من العمر 33 عاما، إنها زارت مؤخرا "مدرسة الخيام"، مضيفة: "لقد أحزنني ذلك. ليس لديهم ملابس أو حقائب أو أحذية. لكننا نبذل قصارى جهدنا".

وتقول وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، التي تدير عشرات المدارس بالقطاع، إن أكثر من ثلثي مدارسها دُمرت أو تضررت منذ بدء الحرب.

ووفقا للوكالة، فقد قُتل "مئات" الفلسطينيين الذين نزحوا إلى مرافق الأونروا، ومعظمها مدارس، بينما تؤكد إسرائيل
أن ضرباتها على المدارس وملاجئ الأونروا "تستهدف المسلحين الذين يستخدمون تلك المرافق"، وهو أمر تنفيه حركة حماس.

ورفضت هيئة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، وهي الهيئة العسكرية الإسرائيلية المسؤولة عن التنسيق مع جماعات الإغاثة، التعليق، كما لم يستجب مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي لطلب التعليق من الصحيفة الأميركية.

"بقع لليأس والجوع"

وقالت "الأونروا" إنها أطلقت برنامج العودة إلى التعلم، الذي سيجلب حوالي 28 ألف طفل إلى عشرات المدارس، لافتة إلى أن ذلك البرنامج سيركز على "الدعم النفسي والفنون والرياضة ومخاطر الذخائر المتفجرة، ثم سيتعمق أكثر في مواد القراءة والكتابة والرياضيات".

وفي هذا الصدد، قال المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، الأربعاء، على وسائل التواصل الاجتماعي: "الكثير من المدارس لم تعد مكانًا للتعلم. لقد أصبحت بقعا لليأس والجوع والمرض والموت".

وتابع: "كلما طالت فترة بقاء الأطفال خارج المدرسة.. كلما زاد خطر تحولهم إلى جيل ضائع. وهذه وصفة للاستياء والتطرف في المستقبل".

من جانبه، أوضح الباحث في مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني بقطر، معين رباني، أن قطاع غزة "كان لديه معدلات تعليم عالية نسبيًا، على الرغم من نسب الفقر الكبيرة التي تسوده".

وأضاف رباني أن الفلسطينيين "سعوا منذ فترة طويلة إلى التعليم للتقدم وسط ظروف اقتصادية صعبة، حيث وقد وفرت لهم الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية مختلفة فرصًا تعليمية جيدة".

ولفت في حديثه للصحيفة الأميركية، إلى أن العديد من الفلسطينيين في غزة "اعتادوا على فقدان أراضيهم ومنازلهم وممتلكاتهم، وبالتالي اهتموا بالتعليم، لأنه أمر يمكنك أن تأخذه معك أينما ذهبت".

وهناك ثمن نفسي للابتعاد عن المدرسة على الأطفال أيضًا، إذ قالت ليزلي أركامبولت، المديرة الإدارية للسياسة الإنسانية في منظمة إنقاذ الطفولة الأميركية، إن قضاء عام بعيدًا عن المدرسة والأصدقاء والملاعب والمنازل خلال صراع مسلح عنيف، "يمثل إزالة للركائز الأساسية للاستقرار والسلامة للأطفال".

وشددت على أن "عدم اليقين والتوتر وفقدان المجتمع، يمكن أن يؤدي إلى تحفيز أنظمة الاستجابة الطبيعية للتوتر في الجسم، والتي يمكن أن تكون ضارة بمرور الوقت".

واستطردت حديثها بالتأكيد على أن "تكرار هذه الأعراض أو استمرارها لفترات طويلة، قد يؤدي إلى مجموعة من النتائج السلبية على الصحة العقلية، التي لا يتعافى منها الأطفال بسهولة".

وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، قد كشفت في وقت سابق هذا الشهر، أن الأطفال في قطاع غزة "هم الفئة الأكثر تضررًا" مما يحدث هناك، وهم بحاجة ماسة لدعم نفسي وتعليمي بشكل عاجل.

وقال الناطق باسم المنظمة، كاظم أبو خلف، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، إن الوضع الحالي في غزة "يتطلب استجابة عاجلة لمساعدة الأطفال الذين يعانون من فقدان التعليم والأضرار النفسية الجسيمة التي يتعرضون لها".

وشدد على أن "جميع الأطفال في القطاع يحتاجون إلى دعم نفسي، حيث فقد ما لا يقل عن 625 ألف طفل عامًا دراسيًا منذ بدء الحرب.. وبعض الأطفال تعرضوا لبتر أطرافهم وهم بحاجة إلى الخروج من القطاع لتلقي العلاج، فيما يعاني العديد من الأطفال من الخوف والقلق بسبب الحرب".