أيام عصيبة تعيشها بريطانيا حالياً بعد اتساع نطاق احتجاجات شعبية شهدتها عدة مدن، بقيادة أنصار اليمين المتطرف، ضد المهاجرين والمسلمين.
تطوّرت هذه الاحتجاجات إلى أعمال شغب ضد الشرطة المحلية التي حاولت التصدّي للمظاهرات ومنعها من تخريب الممتلكات العامة والمساجد.
هذا التدهور الكبير في الأوضاع الأمنية دفع دولاً عديدة ذات أغلبية إسلامية مثل الإمارات ونيجيريا وماليزيا وإندونيسيا، إلى نصيحة مواطنيها بعدم زيارة إنجلترا في الوقت الراهن.
شرارة الكراهية
يوم الاثنين الماضي، تعرّض مركز في مدينة ساوثبورت البريطانية لتعليم الأطفال الرقص واليوغا إلى هجومٍ مباغت أدّى إلى مقتل 3 طفلات وإصابة 8 أخريات منهن 5 في حالة حرجة، بالإضافة لإصابة فردين حاولا التدخل وحماية الفتيات من المهاجم الذي كان يحمل سكينا.
سريعاً تمكنت الشرطة البريطانية من القبض على الشخص المتّهم بارتكاب الجريمة، وهو أكسل روداكوبانا، مراهق في الـ17 من عُمره، مع ترجيحها أن الهجوم لم يحدث بسبب دوافع مرتبطة بالإرهاب.
في المقابل، كشفت وسائل إعلامية بعض المعلومات الضئيلة عن المُشتبه به؛ فوالداه من رواندا، بينما ولد هو في كارديف عاصمة ويلز، وانتقلت أسرته إلى "ساوثبورت" عام 2013.
استغلّت جماعات يمينية متطرفة هذا الحادث لتأجيج آرائها المُعارضة للمسلمين والمهاجرين، فادّعت عبر مواقع التواصل الاجتماعي أن مسلماً يقف وراء الهجوم، رغم النفي الحكومي المتكرر لهذه المزاعم.
ظهرت نتائج هذه الدعوات خلال وقفة احتجاجية أقيمت في اليوم التالي للجريمة من أجل تكريم أرواح الأطفال الضحايا، سريعاً تحولت الوقفة إلى مظاهرة ضد المسلمين وحاول المئات من حضورها مهاجمة أحد مساجد ساوثبورت، فأحرقوا عشرات السيارات وحاويات القمامة وهاجموا متاجر قريبة من المسجد.
بذلت الشرطة البريطانية جهوداً كبيرة للتصدّي لتلك الاعتداءات حتى أصيب منها 22 فرداً، 8 منهم في حالة خطيرة. لاحقاً، أعلن القضاء البريطاني أن المتهم ليس مسلماً وليس مهاجراً غير شرعي وهو من أصول مسيحية، لكنّ ذلك لم يمنع وتيرة العنف من التصاعد.
احتجاجات في كل مكان
بشكلٍ متسارع امتدّت التظاهرات في عموم بريطانيا، وخلال أسبوع واحد شهدت 20 مدينة بريطانية أكثر من 30 احتجاجاً حملت شعارات مناهضة للاجئين والمسلمين ورفعت بعضها لافتات كُتب عليها "الإسلام إلى الخارج" و"أوقفوا القوارب"، في إشارة لاستخدام آلاف اللاجئين قوارب للهرب من بلادهم إلى بريطانيا خلال السنوات الأخيرة.
فور بدء تلك الاحتجاجات تلقت دعماً واضحاً من بعض المؤثرين اليمينيين في بريطانيا على مواقع التواصل الاجتماعي، أبرزهم تومي روبنسون زعيم "رابطة الدفاع الإنجليزية" المناهضة للإسلام، الذي كتب تدوينة على موقع "إكس"، ادّعى فيها كذباً أن مسلمين هاجموا هذه التظاهرات وطعنا رجلين. حظيت هذه التغريدة بانتشار مكثّف فاق مليون مشاهدة رغم تأكيد الشرطة البريطانية عدم صِحة الواقعة.
سبَق وأن حظرت إدارة "إكس" السابقة (تويتر) حساب روبنسون على المنصة بسبب تصريحاته المتطرفة، لكنّه أعيد بعد استحواذ الملياردير الأميركي إيلون ماسك عليها.
وفق منظمة "Hope not Hate" المعنية برصد نشطاء اليمين المتطرف، فإن المؤثرين اليمينيين استخدموا موقع "إكس" لكتابة آلاف التدوينات التي تدعو للانتقام من المسلمين ومهاجمة المساجد رداً منهم على "جريمة ساوثبورت".
بخلاف كتابة هذه التدوينات انتشرت على تطبيقي "تيليغرام" و"واتس آب" عشرات المجموعات التي نظّمت أشكال الاحتجاج وحدّدت أماكن التجمعات وأغلبها حول المساجد والمراكز الإسلامية في المدن الإنجليزية.
بحسب تقديرات "رويترز" فإن اتهامات المهاجرين الباطلة بعملية الطعن وصلت إلى ما يزيد عن 15 مليون حساب عبر مواقع التواصل الاجتماعي المتنوعة.
أغلب المستجيبين لتلك الدعوات دخلوا في اشتباكات عنيفة مع الشرطة البريطانية بعدما ألقوا الزجاجات الفارغة وعلب الصودا على رجال الأمن، فردّوا بإلقاء القنابل المسيلة للدموع، وفي بعض المدن تطوّرت الأمور لما هو أكثر فداحة مثلما جرى في روثرهام وتامورث حين أحرق المحتجون فنادق اعتقدوا أنها تؤوي المهاجرين من طالبي اللجوء، مثلما جرى في ميدلزبره حين حاول مئات الأشخاص اقتحام أحد المساجد وعندما تصدّت لهم الشرطة هاجموا المنازل المحيطة به عشوائياً وحطموا نوافذها بالحجارة، أما في سندرلاند فقد تمكّن المتظاهرون من اقتحام أحد مراكز الشرطة وأشعلوا النار فيه.
بينما شهدت مدينة بلفاست عاصمة آيرلندا الشمالية مشاجرة ضخمة أمام مبنى المركز الإسلامي بعدما اشتبكت تظاهرة مناهضة للمهاجرين بأخرى داعمة لهم ورافضة للعنصرية، تبادل الفريقان الشتائم وإلقاء الألعاب النارية بعضهم على بعض وسط وجود مكثف من رجال الشرطة.
مع كثرة المظاهرات وتعدد الاشتباكات بين رجال الأمن تزايد عدد الخسائر. في ساوثبورت أصيب 50 ضابطاً و3 ضباط آخرين في بليموث، وعلى الجانب الآخر في لندن ألقي القبض على أكثر من 100 فرد وفي هارتلبول ضُبط 8 أشخاص فضلاً عن 8 آخرين في سندرلاند وفي مدلزبره 43 متظاهراً. وبحسب تقديرات فاق عدد المعتقلين 400 فردٍ في عموم بريطانيا.
الحكومة تتدخل
لم تعرف بريطانيا هذا الحجم الضخم من الاضطرابات منذ عام 2011 حين اندلعت أعمال شغب انتشرت في مختلف أنحاء البلاد، تلت مقتل مارك دوجان، وهو رجل أسود كان عضواً في إحدى عصابات المخدرات، خلال مطاردة مع الشرطة.
لم يتأخر السير كير ستارمر رئيس الوزراء البريطاني عن محاولة التدخل من أجل فرض الانضباط، فأمر الشرطة بتشكيل وحدة خاصة لمكافحة العنف المستشري في شوارع البلاد، فضلاً عن استغلال الإمكانيات التكنولوجية المتاحة مثل تقنيات التعرف على الوجه من أجل ضبط المتورطين في هذا التصعيد وإحالتهم للقضاء.
بشكلٍ صريح أعلن ستارمر أن هذه المظاهرات تحركها "الكراهية اليمينية المتطرفة" للمهاجرين، كما انتقد شركات التواصل الاجتماعي الكبرى التي حيث ساهمت في تأجيج الأزمة دون أن تتدخل لمنع الأخبار الكاذبة من الرواج بهذا الشكل الفيروسي.
ورغم أن بريطانيا أقرّت في العام الماضي قانوناً لتنظيم الإنترنت ألزم شركات التواصل الاجتماعي بمنع المحتويات غير القانونية مثل الدعاية الإرهابية والمواد الإباحية، مع منح "أوفكوم" هيئة تنظيم الاتصالات البريطانية المزيد من الصلاحيات لتنفيذ مواد هذا القانون، إلا أن هذه الإجراءات أظهرت عجزها عن السيطرة على سيل الأنباء الكاذبة التي تدفقت بين المستخدمين البريطانيين بشأن جريمة الطعن وأدّت إلى تدهور الأوضاع إلى هذا الحد.
انتقادات عديدة وُجهت إلى ستارمر بسبب هذه الأزمة بعدما اتّهمه خصومه بأنه لم يكن على مستوى الحدث بعدما تأخّر في عقد اجتماع "مجلس الكوبرا" الذي يضمُّ وزيري الداخلية والدفاع ورؤساء الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في البلاد، الأمر الذي عطّل حصول قوات الشرطة على الدعم اللازم لوقف الاحتجاجات في لحظاتها الأولى، الأمر الذي أدى لتفاقم الأمور وتدهور الأوضاع.
بعض الخبراء اعتبروا أن الشرطة تأثرت سلباً جرّاء التخفيضات الأخيرة في ميزانيتها، التي أدّت لإلغاء تمركز الكثير من عناصرها الاستخبارية في الأحياء خاصة المناطق التي تقطنها الأقليات.
لذلك تصاعدت دعاوى سياسية أبرزها من حمزة يوسف رئيس وزراء إسكتلندا الأسبق تُطالب بنشر الجيش لمواجهة أعمال الشغب المتصاعدة في المدن البريطانية بسبب ما أسماه "عجز الشرطة عن السيطرة على الأوضاع".
أصداء "أزمة القوارب"
تعيش إنجلترا في السنوات الأخيرة مخاوف متصاعدة من الهجرة بعد تضخّم عدد الوافدين إليها هرباً من بلادهم بشكلٍ غير قانوني عبر القوارب، أزمة أرّقت الحكومة البريطانية السابقة ودفعت رئيسها ريشي سوناك لتبنّي خطة مثيرة للجدل لنقل هؤلاء المهاجرين إلى رواندا.
ألغي تنفيذ هذه الخطة مع وصول كير ستارمر، الذي تعهّد بحل "مشكلة القوارب" عن طريق فرض المزيد من الانضباط على حدود البلاد البحرية والتعاون مع الدول الأوروبية في هذا الأمر.
بعد فترة وجيزة من نجاحه في الانتخابات وتشكيل الحكومة، فُرض على ستارمر تحد كبير مثّل لحظة انفجار لسنوات القلق التي عاشتها بريطانيا نتيجة الفشل في حل أزمة اللاجئين، لذا اعتبرت القاضية السابقة دونا جونز أن هذه الاحتجاجات تأتي رداً على موجة الهجرة الجماعية "غير المنضبطة" التي عرفتها بريطانيا مؤخراً.
كما أظهرت الانتخابات العامة الأخيرة مدى تأثير هذه الأوضاع على الناخب البريطاني، على أثر زيادة عدد مؤيدي "حزب الإصلاح" الذي تبنّى أجندة يمينية معادية للهجرة.