شارك محمد هشام عبية في كتابة 9 مسلسلات كعضو فريق كتابة، قبل أن يكتب منفردا عمله الأول "60 دقيقة" ثم مسلسل "بطلوع الروح".
شارك محمد هشام عبية في كتابة 9 مسلسلات كعضو فريق كتابة، قبل أن يكتب منفردا عمله الأول "60 دقيقة" ثم مسلسل "بطلوع الروح".

كان محمد هشام عبيه على موعدٍ مع نجاحٌ ساحق في رمضان الفائت، بعدما استحوذ مسلسل "بطلوع الروح" الذي كتبه على اهتمام المشاهدين، ونال أغلبية ساحقة من حيّز نقاشاتهم المؤيدة أو المعارضة.

دخل عبيه دنيا الفن عبر بوابة الصحافة التي احترفها عام 2004م، ونال جائزة نقابة الصحافيين 3 مرات متتالية. عمل مُساعدًا لرئيس تحرير جريدة "التحرير" ثم رئيسًا لتحرير جريدة "اليوم الجديد".

شارك في كتابة 9 مسلسلات كعضو فريق كتابة، قبل أن يقرّر تقديم الأعمال منفردًا منذ العام الماضي الذي شهد ظور عمله الأول "60 دقيقة".

قبل أن يحترف الكتابة الدرامية، اشتغل محمد هشام عبية في الصحافة منذ 2004 وفاز بجائزة نقابة الصحافيين ثلاث مرات متتالية.

رمضان الماضي كان شاهدًا على عمله الدرامي الأهم في مسيرته، وهو مسلسل "بطلوع الروح" الذي عاشت بطلته في الرقة عاصمة دولة "داعش". وعبر تجربة البطلة كشف عبيه الكثير من السلوكيات الإجرامية لهذا التنظيم المتطرّف.

"ارفع صوتك" حاور عبيه لمعرفة المزيد عن هذه التجربة التي أثارت جدلاً حاميًا منذ رمضان، ربما لا تزال آثاره مستمرّة حتى اليوم، وللتعرف أكثر عن تفاصيل تلك التجربة وعوالمها الخفية.

♦ هل السيناريو بالكامل الذي كتبتَه تمَّ تنفيذه؟

ما أُذيع على الشاشة هو 9.5 حلقة من إجمالي 13 حلقة أنهيتُ كتابتها من المسلسل. للأسف لم نتمكّن من تصوير باقي الحلقات بسبب ضيق الوقت ومداهمة رمضان لنا. الأجزاء التي لم يتم تصويرها هي الخاصة بمخيم اللاجئين الذي أقامته القوات الكردية لنساء وأطفال داعش، والذي كان مقررًا أن يشهد نهاية العمل.

أما إن كنت تقصد أن تعديلات ما أجريت على السيناريو المكتوب فهو لم يحدث، وذلك لأن السيناريو الختامي انتهيتُ منه عقب عقد جلسات مطوّلة مع المخرجة كاملة أبو ذكرى تطلّبت مني إعادة كتابة المسلسل 5 مرات تقريبًا حتى وصل العمل إلى شكلٍ نحن راضون عنه، وبعدها بدأنا في التصوير.

♦ ماهي النهاية الأصلية التي كتبتها للمسلسل؟

بعد وصول "روح" إلى المسلسل كانت ستقضي عدة أيام في المخيّم قبل أن يساعدها أحد الأشخاص على الهرب. كانت النهاية ستكون مفتوحة؛ مجرّد نجاح روح في الهروب أخيرًا. لكن بسبب ضيق الوقت وعدم إمكانية تصوير العمل كاملاً، اضطررنا لتغيير النهاية فتوقّف العمل عند وصول "روح" إلى حدود مدينة الرقة.

♦ لاحقتكم الانتقادات قبل حتى أن يُعرض العمل على الشاشات. هل تدلُّ هذه الانتقادات على أن روحًا متطرفة تنتشر في المجتمعات العربية؟

للأسف نعم، وهذا نمط لا يقتصر فقط على استقبال "بطلوع الروح". فالسوشيال ميديا أتاحت فرصة "إبداء الرأي المجاني" حتى لو كان مضادًا لأساسيات إنسانية مثل احترام الموت أو احترام الأديان الأخرى أو رفض القتل. وهو ما يجعلنا نشاهد "آراءً مرعبة" مثل التعليقات الكثيفة التي لاحقت وفاة الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، والتي أثارت جدلاً غريبًا بسبب إصرار بعض المسلمين على عدم جواز الترحّم عليها لأنها مسيحية!

هذا الاستقبال وغيره يُظهر لك أن ما تعرّض له "بطلوع الروح" طبيعي جدًا ومتسق مع ما نراه في مجتمعاتنا العربية هذه الأيام.

♦ لكن برغم هذا "الزخم الهجومي" حقق المسلسل نجاحًا كبيرًا، كيف تفسّر هذا التناقض؟

في النهاية، الغرض من مثل هذه الحملات ليس إفشال الأعمال أو منع المشاهدين من متابعتها، وإنما الغرض الرئيسي منها هو التشويه، الهدف الأساسي من كل هذا الهجوم هو تشويه كل الشخصيات التي شاركت في هذه الأعمال، ولعل عسى تتحقق النتيجة في المستقبل لو لم تحدث هذه الأيام.

حالات التشويه المتتالي للرموز الثقافية والفنية تزرع في عقول البُسطاء أن هذه الشخصيات ضد الدين حتى لو كان لا يُتابع أعمالهم ولا يعرف عنها شيئًا.

صحيح أن أصحاب الهجوم الذين كالوا الانتقادات للمسلسل دعوا إلى "رفض سِلمي" للعمل، وهو مقاطعته وعدم مشاهدته، لكنّك لا تضمن أن الملايين التي تتغذّى على هذه الحملات لن يتأثر واحدٌ منهم ويحاول التعبير عن رفضه لهذا العمل بشكلٍ عنيف لاحقًا.

سأضرب لك مثالاً بما حدث مع فرج فودة ونجيب محفوظ، وهنا أنا لا أُقارن نفسي بهم لكنّي أضرب بهم المثل في "حالة تشويه رموز ثقافية". هذا الرمزان تعرّضا لتشويهٍ متتالٍ أودى بحياة الأول وكاد أن يقضي على الثاني بعدما هُوجما من "مواطنين عاديين" أقنعهم البعض أن فودة ومحفوظ ضد الدين.

♦ بهذه المناسبة، عادةً ما يُلاحِق أي عمل عربي يُناقش قضية التطرُّف الإسلامي سؤالٌ قد يبدو منطقيًا: لماذا تتكلّمون عن الإسلام تحديدًا ولا تتحدثون عن تنظيمات متطرفة مسيحية مثلاً؟

ببساطة لأني مُسلم، وأعيش في هذه المنطقة فلماذا أتحدث عن مشاكل الآخرين. وأنا دائمًا أرى أننا الأولى بمناقشة وحلِّ مسألة داعش وليس الآخرين. فلا يُعقل أن تنتج أميركا ودول غربية أخرى أفلامًا عن داعش ونحن نتفرّج! لأنّهم مهما كانوا دقيقين، فستشعر أن أعمالهم ينقصها شيءٌ ما. مثل الأفلام التي تُنتجها هوليوود عن مصر تجد فيها لمسة استشراقية ما؛ لا بد من جمل وصحراء وخيام، وهي مشاهد لم تعد شائعة في مصر بالأساس.

وبالمثل، أنا في هذه القضية "صاحب شأن"، وصاحب الشأن أولى وأقدر بالتعبير عن قضيته وأزماته من الآخرين.

وبالمناسبة، أنا أعمل الآن على مشروعٍ مع مخرجة مسيحية عن فيلم يتعلّق بأزمة مسيحية. وهنا أقصد أنني أعمل في جميع الأحوال على أي فكرة درامية أتحمّس لها، سواء أكان أبطالها مسيحيين أم مسلمين.

فلو كان تنظيمًا مسيحيًا متطرفًا بدلاً من داعش، وارتكب نفس الجرائم في منطقتنا وأثار كل هذا الجدل والاهتمام كنت سأكتب عنه ذات العمل.

♦ أحد الانتقادات التي وُجهت للعمل هو عدم عرضه شخصيات "إسلامية وسطية" تصنع توازنًا مع عرض متطرفي داعش، لنخرج من المسلسل برسالة أن ليس كل المسلمين كمسلحي داعش، فما رأيك؟

إذا أردتَ التعبير عن الشخص "الإسلامي الوسطي" ليس بالضرورة أن تكون شيخًا يرتدي عمامة. الإسلام الوسطي يُمارسه أي شخص مسلم، وهو ما أظهرناه في عددٍ من النماذج مثل مُصفِّفة الشعر التي ساعدت "روح" وابنها، وهي ليست شيخة جامع لكنها تمتلك فِطرة إنسانية سوية دفعتها لمعاونة الآخرين.

ثم إنني لا أعتقد أن الحياة الحقيقية ليس بالضرورة أن تقدّم لكَ الوجه الخشن والوجه الناعم معًا في ذات الحيّز، في حياتك قد تُواجه الوجه الخشن لسنواتٍ طويلة ثم يتغيّر الأمر بعدها، وقد يكون العكس هو الصحيح. وبما إن الدراما شكل من أشكال انعكاس حياتنا فليس بالضرورة أن أصنع تلك "الخلطة الوسطية المتوازنة" كي أُرضِي المنتقدين.

♦ اتُّهم أيضًا المسلسل بأنه يسير على خطى الدولة المصرية في حربها ضد الإسلاميين المتطرفين. وهو ما يدفعنا للتساؤل هل حظي هذا العمل بدعمٍ حكومي؟

العمل تم تصويره بالكامل خارج مصر. المُنتِج لبناني، لم نحصل على أي ترخيص أو موافقة من أي جهة مصرية على العمل قبل تصويره.

تعرّض أحد العاملين بشركة الإنتاج إلى الخطف خلال تصوير العمل، هل كان هذا الحادث له علاقة بمحتوى المسلسل؟ وهل تلقيتَ شخصيًا أي تهديدات بعد العمل؟

أغلب الظن لا، لأن المُحاسب الذي جرى اختطافه كان يحتفظ بأموالٍ بحوزته للإنفاق على التصوير، وتعرّض لعملية سطو على أيدي عصابة إجرامية لا علاقة لها بأي تنظيم ديني متطرّف.

أما فيما يخصّني، فعدا التعليقات الهجومية على منشورات المسلسل وضد كل العاملين فيه وليس أنا وحدي، فلم أتلقَ تهديدًا آخر.

♦ تستعين بطبيب نفسي خلال كتابتك لأعمالك، فماذا يُضيف لك؟

هذا يتوقّف على نوع المشروع. في مسلسلي السابق "60 دقيقة" كان البطل طبيبًا نفسيًا لذا كانت الاستعانة بطبيب نفسي حتمية خلال كافة مراحل كتابة العمل. أما في مسلسل "بطلوع الروح"، فنظمتُ عدة جلسات مع الطبيب النفسي ليُساعدني في بناء الشخصيات، ثم اجتمع بعدها مع الممثلين والمخرجة في مراحل متقدمة من العمل ليشرح لهم بعض الدوافع النفسية في مكمون الشخصيات.

وأنا في رأيي، أعتبر أن وجود الطبيب النفسي ضروريا للغاية خلال تصوير أي عمل، لأن كل السلوكيات التي تحرّك الأبطال مرجعها الأساسي نفسي سواءً في الحياة أو في الدراما لذا نحن بحاجة إلى "متخصص" يقيّم خطوطنا الدرامية ويضعها في مسارها الصحيح.

♦ لا بد من تبعات للنجاح الساحق للمسلسل، هل آن الأوان لخروج أعمال تعبّر بوضوح عن أفكارك؟

طبعًا، أنا قضيت 5 سنوات أعمل في ورش درامية أكتب فقط فيما يُعرض عليّ من فُرص، ولا أكتب ما أُريد من أفعله. في أوقاتٍ كثيرة كانت الفرص التي تأتيني مناسبة لي لكني في النهاية أكون مجرد طرف من ضمن أطراف أخرى تشاركني الكتابة، لذا لا أتمكن من التعبير عن كل ما أريد بوضوح.

الآن، باتت لديّ القُدرة على اقتراح مشاريع خاصة بي تحمل اسمي وفِكري، مثل "60 دقيقة" و"بطلوع الروح"، وهما أول مشروعان لي يحملان أفكاري وهمومي الخاصة.

وبعد نجاح العملين، باتت هناك مساحة من الثقة مع المنتجين لتقبُّل أفكاري وباتوا أكثر إيمانًا أنني قادر على كتابة أعمالٍ جيدة.

♦ سؤالي الأخير، ما هو مصير شخصية "روح" الحقيقية التي ألهمتك بكتابة العمل؟

حتى الآن، لا تزال "روح الحقيقية" تعيش داخل المخيم الذي أقامه الأكراد لزوجات رجال داعش، وتجري حاليًا محاولات لإعادتها لمصر رغم تعقيد موقفها بعدما صُنِّفت على أنها داعشية لمجرد عيشها في دولتهم ولو مُكرهة. المسلسل قد يكون لعب دورًا في في حل قضيتها بعدما شُوهِد داخل المخيم نفسه، وهو جزء من حماسي للمشروع، لأنني مشغول جدًا بضحايا هذا المخيم سواء من النساء اللائي غُرر بهن أو حتى بالمذنبات.

ما تزال "روح" تعيش في مخيم الهول مع قرابة 70 ألفا من أطفال وزوجات مقاتلي تنظيم داعش.

وأنا أتمنّى أن تُعالج هذه القضية بشكل مختلف من الحكومات العربية؛ فبدلاً من تجميد نساء يحملن جنسيات 60 دولة حول العالم، بصحبة أبنائهن في المخيمات، يُمكن إخضاعهن لمحاكمة دولية مثلاً  -لأنها مُشكلة عالمية بالأساس- إما أن تنتهي بإدانتهن بالسجن أو يحصلن على البراءة فيعدن إلى بلادهن، أما إبقاء هذا الوضع على ماهو عليه فهو سيحوّل المخيم إلى "قنبلة" قد تنفجر في وجوهنا في يومٍ من الأيام.

مواضيع ذات صلة:

صورة مركبة للكاتب اللبناني حازم صاغية- ارفع صوتك
صورة مركبة للكاتب اللبناني حازم صاغية- ارفع صوتك

في طفولته، تسلّل العراق إلى الكاتب والمثقف اللبناني حازم صاغية من باب "العروبة ووحدة العرب" وبسبب علاقة البيت الذي تربّى فيه بحزب البعث.

صاغية المولود عام 1951 في لبنان، حمل العراق في انشغالاته الثقافية والسياسية ما يقارب السبعين عاماً، وأسَالَ في الكتابة عن العراق وأحواله حبراً كثيراً، ترجمه في مقالات وتحليلات نقدية وكتب خصصها للعراق وتاريخه ومآلات مستقبله.

في  2003 بعد سقوط نظام صدّام حسين، أصدر صاغية كتابه "بعث العراق: سلطة صدّام قياماً وحطاماً"، الذي عرض حكاية حزب البعث في العراق منذ بداياته الأولى عام 1949 حتى سقوط النظام.

كما عرض تحليلاً لسياسات البعث ودوره في إحكام قبضته على الحكم في العراق وتأثيره "الكارثي" بحسب وصف صاغية، على حياة ملايين العراقيين.

"العراق أبعد من العراق في أسئلته وتحدياته، كما انطوت عليها قصة البعث- قصتنا جميعاً بمعنى من المعاني"، يكتب صاغية في مقدمة كتابه. حول هذا العراق، الأبعد من نفسه، يحلّ صاغية ضيفاً على "ارفع صوتك" في حوار موسّع، يتخلله قراءة نقدية لماضي العراق وحاضره، ومحاولة استشراف للتحديات المستقبلية التي تنتظره.

 

من أين حضر "الهمّ العراقي" إلى حازم صاغية، ولماذا يشغل حيزاً ليس بقليل من كتاباته؟

جاءني العراق من أمكنة كثيرة. أمّا المكان الأوّل فتلك القصص التي كانت تُروى في بيتنا عن قريب لنا، هو الكاتب الناصريّ اللاحق والراحل نديم البيطار. فهو سافر إلى العراق، ولم أكن قد وُلدت، طلباً للدراسة والعيش في ظلال الملك غازي بن فيصل الأوّل الذي شبّهتْه الخفّة والحماسة العربيّتان بغاريبالدي، وقيل إنّه سيوحّد "أمّتنا" على النحو الذي وُحّدت فيه إيطاليا.

فإبّان عهد غازي القصير وُصف العراق بأنّه "بيادمونت العرب"، من قبيل القياس على تلك الإمارة الشماليّة التي حكمها "بيت سافوي"، ومنها انطلقت حركة التحرير من النمسويّين تمهيداً للوحدة القوميّة الإيطاليّة. ويبدو أنّ نديم، الشابّ والقوميّ العربيّ المتحمّس، أصرّ بعد عودته على اعتمار "الفيصليّة" التي درج على لبسها حينذاك شبّان قوميّون عرب، وذلك وسط اندهاش أهل القرية ممّن لم يكونوا قد سمعوا بفيصل وغازي ولا لبسوا قبّعات من أيّ نوع.

كان لتلك المرويّات عن نديم ورحلته ممّا تداوله كثيراً أهل بيتنا، أن وسّعت مخيّلتي لبلد اسمه العراق يضجّ بصُورٍ ومعانٍ غائمة الدلالة إلاّ أنّها واضحة الوجهة، وما الوجهةُ تلك إلاّ العروبة ووحدة العرب التي يُحجّ إليهما هناك.

وبسبب علاقة بيتنا بالبعث، باتت أسماء نوري السعيد وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف أسماء بيتيّة: الأوّل شتمناه، والثاني والثالث أحببناهما قبل أن نكرههما. والمشاعر حيال العراقيّين مشاعر عراقيّةٌ، بمعنى أنّها قويّة وحادّة ومتقلّبة، تماماً كما المشاعر الرومنطيقيّة.

وبشيء من التعميم أسمح لنفسي بالقول إنّ العراقيّ أشدّ العرب رومنطيقيّةً، وهو ما نلمسه في قسوته ورقّته، وفي أغانيه وأشعاره، وفي تديّنه إذا تديّن وإلحاده متى ألحد. وهكذا، حين حصل انقلاب 14 تمّوز الجمهوريّ في 1958، شعرت بفرح في بيتنا مردّه إلى أنّ أصدقاء جمال عبد الناصر أطاحوا نوري السعيد، صديق كميل شمعون. وحين حصل انقلاب 14 رمضان 1963، وكان لي من العمر ما يتيح لفرحي أن يستقلّ عن فرح أهلي، أحسست أنّ العراق مصدرُ ثأرنا من الانفصال السوريّ وممّا اعتبرناه خيانة الشيوعيّين وقاسم للقوميّة والوحدة العربيّتين.

وجاء اهتمامي بالعراق من تعرّفي إلى عراقيّين كثيرين في بريطانيا، كان أوّلهم الصديق الراحل فالح عبد الرحمن، ولم يكن آخرهم الصديق كنعان مكيّة. ومن خلالهم  تحوّلت المعرفة بالعراق إلى أشباح وكوابيس تُروى عن حكم البعث وعن أفعال صدّام حسين – "السيّد النائب" ثمّ "السيّد الرئيس" ثمّ "السيّد الله".

ومن خلال تجارب سياسيّين وحزبيّين أتيح لي أن أعرفهم عن كثب، كالصديقين الراحلين هاني الفكيكي، وهو بعثيّ سابق، وعامر عبد الله، وهو شيوعيّ سابق، بتُّ أملك ما يشبه توثيق الفظاعات التي يرويها عراقيّون آخرون أقلّ ضلوعاً منهما في السياسة. فهنا يعثر السامع والناظر على تجارب شاملة تتعدّى السياسة والعقائد إلى آلام البشر الشخصيّة ومآسيهم.

والشمول المذكور مرآةٌ تعكس حقيقة نظام صدّام بوصفه أقرب نماذجنا العربيّة إلى التوتاليتاريّة. ففي ذاك اللامعقول بدا مشروعاً أن يسأل المرء نفسه (هل يوجد فعلاً هذا الكائن المدعو صدّام حسين أم أنّ الإرث الميثولوجيّ لما بين النهرين هو ما يحضّ العراقيّين على اختراعه كيما يؤسطروا حياتهم؟).

وجاءني العراق أيضاً من شعر كثير، تقاسمَ أبياته شعراء انجذبت إلى قصائدهم في هذه المرحلة من حياتي أو تلك، لكنّ المؤكّد أنّ أشدّهم أثراً كان بدر شاكر السيّاب الذي لا يزال الحبّ لعراقه ولجيكوره يلازمني حتّى اللحظة.

"كيف تطعم الديكتاتور؟".. طباخ صدام حسين يتحدث
لحظات رعب انتهت بـ50 دينار عراقي (ما يعادل 150 دولاراً في حينه)، وصدام حسين الذي يضحك ويبكي ويحاول إثبات ألا شبيه له، وصدام "الأفضل في عائلة التكريتي"، وحساء اللصوص أو "شوربة الحرامية" التكريتية، وقصة سميرة التي تركت زوجها لأجل صدام، والرجل الذي ظل واقفاً حين هرب الجميع، وغير ذلك.

"بعث العراق" ربما يكون الكتاب الأكثر تخصصاً في تأريخ ظاهرة البعث العراقي، وقد خصصت كتاباً آخر للبعث السوري. ما الذي يمكن أن يتعلمه قارئ من جيل الألفية الجديدة حول هذا التاريخ؟

 ما يمكنني التحدّث عنه هو ما تعلّمته أنا، وهو أنّ البعث كان أقوى جسورنا في المشرق العربيّ الآسيويّ إلى الكارثة التي لا نزال نرزح تحتها، كما كان، عربيّاً، ثاني أقوى جسورنا إليها بعد الناصريّة.

لقد جمع البعث بين حداثة الحزب والعقيدة وقدامة القبيلة والخرافة، ما جعله يُطبق علينا من جهات كثيرة. لكن ما يرعبني أنّ الدور الفظيع للبعث، بوصفه الطرف الذي صادر تاريخ العراق وسوريا، وأفسد البلدين وألغى احتمالاتهما، لا يستوقف الكثيرين بوصفه هذا، بل في أحيان كثيرة لا يستوقف بعض معارضي البعث وضحاياه ممّن لا زالوا يرونه حركة تحرّر أخطأت الوسيلة لكنّها لم تخطىء الهدف، أو يرونه قاطرة لهيمنة طائفيّة يُردّ عليها بهيمنة طائفيّة معاكسة.

 

هل خرج العراق من تداعيات حزب البعث، أم لا يزال يعاني؟

هذه أنظمة تدمّر الماضي والحاضر والمستقبل بيد واحدة: الماضي بكتابتها للتاريخ، والحاضر بقمعها وقهرها السكّان المواطنين، والمستقبل بتفتيتها المجتمع وسدّها باب الاحتمالات.

بهذا المعنى، لا أظنّ أنّ العراق يخرج "من تداعيات البعث" إلاّ بمباشرة واحدٍ من اثنين: إمّا مراجعة وطنيّة راديكاليّة صارمة تطال القواسم المشتركة بين البعث وخصومه، لا سيّما الأطراف الراديكاليّة الشيعيّة الموالية لإيران، أو تطوير الفيدراليّة العراقيّة وإكسابها مزيداً من الصدقيّة والجديّة، بحيث تبدأ كلّ واحدة من الجماعات حياتها السياسيّة في مواجهة أبناء جلدتها من قامعيها ومُضطهِديها بعيداً من التذرّع بالآخر الطائفيّ والإثنيّ. والخياران، للأسف، ضعيفان جدّاً.

 

هل كان يمكن لنظام البعث أن يسقط من دون غزو عسكري أميركي؟ هل كانت هناك طرق أخرى لإسقاطه؟

لا أظنّ ذلك، بدليل أنّ ذاك النظام عاش ما بين 1968 و2003، وخاض خلال تلك المرحلة عديد الحروب ولم يسقط. لكنّ هذا الواقع، على ما فيه من مأسويّة، لا يكفي لتبرير مبدأ التدخّل لإسقاط النظام، ولا يكفي خصوصاً لتبرير الأخطاء والحماقات الهائلة التي رافقت ذاك التدخّل.

 

 هل كان خاطئاً قرار "اجتثاث حزب البعث" الذي أصدره الحاكم الأميركي بول بريمر بعد سقوط النظام؟ وكيف يجب على العراقيين التعامل مع التركة الثقيلة للحزب؟

يصعب على من يسمّي نفسه ديمقراطيّاً أن يوافق على سلوكٍ أو إجراء اسمه "اجتثاث"، وبالنظر إلى تاريخ الأحقاد الطائفيّة التي رسّخها نظام صدّام، لم يكن من الصعب توقّع انقلاب ذاك الاجتثاث اجتثاثاً للسنّيّة السياسيّة في العراق.

فليكن بعثيّاً من يؤمن بـ"الوحدة والحريّة والاشتراكيّة"، ولا تكون يداه ملوّثتين بالدم والفساد. أمّا الحياة السياسيّة نفسها فتستطيع أن تتولّى تنظيف نفسها بنفسها. غير أنّ مبدأ كهذا يبدو اليوم بعيداً جداً بسبب التعفّن الذي يضرب الحياة السياسيّة والوطنيّة والإدارة الإيرانيّة النشطة لهذا التعفّن.

المؤرخ العراقي عادل بكوان: الميليشيات والفساد يهددان العراق
صدرت حديثاً عن دار "هاشيت أنطوان/ نوفل" النسخة المترجمة إلى العربية من كتاب المؤرخ وعالم الاجتماع العراقي-الفرنسي عادل بكوان. الكتاب صادر أساساً باللغة الفرنسية، وحمل بالعربية عنوان "العراق: قرن من الإفلاس من عام 1921 إلى اليوم"، وهو يوثق لمئة عام من تاريخ العراق الحديث. هنا حوار مع الكاتب.

 بعد أكثر من عشرين عاماً على سقوط البعث العراقي، لا يزال حضوره في الشارع العربي لافتاً، خصوصاً في الأردن ولبنان، حيث يمكن رؤية صور صدام حسين في كثير من الأماكن، كما أن "الترحم" على زمن صدام شائع على مواقع التواصل الاجتماعي. ما تفسيرك لهذه الظاهرة؟

لا أظنّ أنّ حضور البعث، كحزب وكأيديولوجيا هو الظاهرة اللافتة. اللافت أمران كثيراً ما يتقاطعان، أوّلهما شعور بالمظلوميّة السنيّة المحتقنة، وهو ما تتقاسمه الصداميّة مع الحركات الأصوليّة والراديكاليّة السنيّة على أنواعها. ومن هذه المظلوميّة تأتي فكرة التحدي ورد التحدي بوصفها "ديانة" أنتجها موت صدام وظروف إعدامه. وتزدهر نظرة كهذه على ضوء قراءة البعض مآسي سوريا ومآسي غزة بوصفها مآسي سنية لا يوجد طرف سني قويّ يرفعها عن كاهل السنّة.

أمّا الأمر الثاني فتلخّصه النتائج البائسة لتجربة العراق بعد تحريره من صدّام وحكمه، ما يرى البعض فيه سبباً وجيهاً للترحّم عليهما، إذ هل يُعقل احتمال كلّ تلك المآسي وبذل كلّ تلك الأكلاف للوصول إلى بلد على هذا النحو؟

 

يُعتبر العراق اليوم في أكثر فتراته السياسية ما بعد ٢٠٠٣ "استقراراً"، بعد سنوات من العنف والفوضى. ما التوازنات التي أرست هذا "الاستقرار" النسبي برأيك، وهل يمكن البناء عليه؟

لا أظنّ ذلك لأنّ هذا "الاستقرار" تعبير عن تجميد للحياة السياسيّة، وهو مقرون بجعل طهران مصدر التحكيم الأخير في الشأن الشيعيّ. أمّا عنصر الإزعاج الذي مثّلته انتفاضة أواخر 2019 فعُطّل بالقوّة، فيما المكوّنان الآخران، الكرديّ والعربيّ السنّي، يلزمان الحدود التي أملاها تقسيم العمل القائم.

 

تحضر في العراق أزمة إنتاج النخب السياسية السنية، في وقت يبدو أن التطرف والإرهاب يملآن، في أحيان كثيرة، الفراغ الذي يتركه غياب هذه النخب. ما سبب عدم قدرة العراق على إنتاج زعامة سنية منذ سقوط صدام، وهل الخيارات محدودة إلى هذه الدرجة؟

يشبه وضع السنية السياسيّة العراقيّة وضع المسيحية السياسية اللبنانية قبل خروج الأمن والجيش السوريين من لبنان سنة 2005، أي التهميش الذي يبتر العلاقة بالسياسة كما يبتر الحراك السياسيّ في داخل الجماعة المهمّشة.

وأظنّ، مع توسّع حالة المَيْلَشَة في العراق كما في عموم المشرق العربي، أن السياسة تغدو أقرب إلى الاستحالة، ولا يتسع المجال، إذا اتسع، إلاّ للمداخلات المتطرفة الإرهابية وشبه الإرهابية.

لقطة من الوثائقي
"مسرحة الرعب" لدى صدام حسين.. صناعة الديكتاتورية بأعواد المشانق
أثر هذه الاعدامات ترك صداه على أجيال عراقية لسنوات قادمة، اذا تكتب هاديا سعيد في كتابها "سنوات مع الخوف العراقي" أنها كانت تسمع كلمة الإعدام "تتكرر مع رشفة استكان الشاي ومجة السيجارة وأمام صواني الطعام وبين سطور ما نقرأ أو نكتب". وتتابع أن الخوف "التحم بالنبضة والنظرة"،

 تحل في العراق هذه الأيام الذكرى العاشرة على اجتياح داعش، والذكرى السابعة على تحرير مدينة الموصل. هنا تحضر إشكالية الأقليات ومصائرها، هل يمكن للعراق أن يتعافى ويستعيد تنوعه الإثني والطائفي. أم أن المسألة أبعد من داعش؟

كانت "داعش" تعبيراً مكثفاً وحاداً وشديد البدائية عن انسداد أبواب السياسة، وعن اتخاذ المنازعات شكلاً يجمع بين العنفية وتعدي الإطار الوطني. وواقع كهذا يُستأنف بأشكال ألطف، والجميع يدفعون أكلاف ذلك، لا سيما الأقليات الأضعف والأصغر، خصوصاً في ظل تماسك جماعة الأكثرية (الشيعيّة) وتسلحها وتواصلها المباشر مع إيران، فضلاً عن الوعي الطائفي النضالي لفصائلها.

 

في المسألة الكردية، كيف تقيم تجربة الحكم الذاتي وعلاقة أربيل بالحكومة الاتحادية في بغداد. وهل يشكل العنصر الاقتصادي مأزقاً لفكرة الاستقلال الكردي؟

هناك سياسة من التحايُل على الحقوق الفيدراليّة للكرد، والمالُ بعض أشكال هذا التحايُل الذي يستكمله الابتزاز الآيل إلى استضعاف الكرد عبر تعييرهم بعلاقاتهم مع الولايات المتّحدة واتّهامهم الذي لا يكلّ بعلاقات مع إسرائيل.

في الوقت ذاته، وهو مصدر لارتفاع أسهم التشاؤم، لم ينجح الكرد في بناء تجربة أرقى من تجارب العرب، تجربة تكون أقلّ قرابية واعتماداً على الرابط الدموي مع ما يتأدى عن ذلك من إضعاف للشفافيّة، أو أقدر على توحيدهم من السليمانيّة إلى أربيل في نموذج بديل واعد.

هذه حال مدعاة للأسى، لكن ليس لليأس، لظنّي أنها قابلة للإصلاح والاستدراك في زمن لا يطول كثيراً، أو أن هذا ما آمله وأرجوه.

 

كيف تقرأ الدور الإيراني في العراق؟ وهل ترى أن العراق يشكل جبهة جدية من جبهات محور الممانعة؟

لا نبالغ إذا قلنا إنّ الدور الإيرانيّ في العراق يعادل منع العراق من التشكّل. أما جرّه لأن يصير جبهة من جبهات الممانعة فجديته الأكبر تكمن في هذا الهدف بالضبط، أي في إبقائه بلداً متعثّراً ومتنازعاً داخلياً ومرتَهَناً لطهران، أمّا إذا كان المقصود بالجدية فعاليته العسكرية كجبهة ممانعة فهذا ما تحيط به شكوك كثيرة.

وفي هذا لا تُلام إيران بل يُلام العراقيّون الذين تسلّموا في 2003 بلداً كبيراً يملك شروط القوّة والغنى، فأهدوه إلى جيرانهم. وهي واقعة تنبّه مرة أخرى إلى مدى تغلّب الرابط المذهبيّ العابر للحدود في منطقة المشرق على الرابط الوطنيّ.

 

هل من دور تلعبه دول الخليج العربي في العراق لموازنة الحضور الإيراني؟

لا أعرف. أظن أنها، من خلال متابعة إعلامها وفي حدود ما هو متاح لها دبلوماسياً، تحاول ذلك.

العراق و5 قضايا عالقة منذ تحرير الموصل
لا تقتصر تركة التنظيم الإرهابي داخل العراق، على العبوات الناسفة والذخائر، بل تتجاوز ذلك إلى ملفات عالقة كثيرة، بينها ملف إعادة الإعمار وعودة النازحين وإنهاء محاكمة مقاتلي التنظيم، وحلّ معضلة مخيم "الهول" الذي يضم عائلات وأبناء وزوجات "داعش"، من دون أن ننسى خطر الخلايا النائمة للتنظيم التي لا تزال تشكّل تهديداً لأمن العراق والأمن العالمي.

بعد هجوم السابع من أكتوبر في إسرائيل، عاد إلى الواجهة الحديث عن الإخوان المسلمين في العراق، واتصالهم بالقضية الفلسطينية. هنا يحضرني سؤالان: الأول عن علاقة العراق بالقضية الفلسطينية وهل هي في صلب اهتمامات الشارع العراقي أم أنها مادة للاسثمار السياسي؟ والسؤال الثاني: هل ترى أن تجربة "الإخوان" ممكنة في عراق اليوم؟

بطبيعة الحال يتفاعل العراقيّون بقوّة، شأنهم شأن باقي المشارقة، مع القضية الفلسطينية. لكنني أظن، وفي البال تاريخ الحقبة الصدامية وما تلاها من أعمال ثأرية وعنصرية نزلت بفلسطينيي العراق، أنّ المسألة الطائفية هي التي تقرر اليوم هذا التفاعل، وهي التي توظفه بما يلائمها.

أليس من المريب أن البيئة التي هاجمت الفلسطينيّين في 2003 و2004 واتهمتهم بالصدامية كما أخذت على صدام إهداره أموال العراقيين على فلسطين والفلسطينيّين، هي التي تخوض اليوم معركة غزّة!؟ أمّا الإخوان المسلمون العراقيون فلا أملك اليوم ما يكفي من معلومات عن أحوالهم بما يتيح لي الرد على السؤال، لكنّني أظن أن فرصة لعب الإخوان دوراً أكبر متاحة وممكنة مبدئياً في ظل غياب قوى سياسية سنية منظمة وفي المناخات التي تطلقها حرب غزة ودور حركة حماس ذات الأصل الإخواني فيها.

إذا أجريتَ مراجعة نقدية لرؤيتك السياسية حول العراق، هل ترى أنك اخطأت في مكان ما؟ أين؟

بطبيعة الحال أخطأت كثيراً. فإذا كان المقصود أطوار الماضي، حين كنت متعاطفاً مع الناصرية والبعث ثم إبان ماركسيتي، فكلّ ما فعلته وقلته كان خطأ. وأمّا إذا كان القياس على وعيي الراهن، أي ما يعود إلى قرابة 45 عاماً إلى الوراء، فأظن أن الأخطاء لم تكن من نوع "إستراتيجيّ" إذا صحّ التعبير، بل طالت درجات الحماسة والاندفاع وسوء التقدير في بعض الأحيان.

 

برأيك هل يمكن للعراق أن يستقر ويأخذ سيادته الكاملة في ظل تجربة ديمقراطية رائدة، أم أن الأوان قد فات على ذلك؟

ليس هناك ما "يفوت" في ما أظن، لكن الحديث في المستقبل هو ما تعلمنا التجارب أن نتروى ونتردد كثيراً فيه. ما يمكن قوله إن تجارب كبرى فاتت وتعويضها يستلزم جهوداً جبارة لا يبدو لي أن ثمة ما يشير إليها أو يوحي بها راهناً.