صدرت حديثاً عن دار "هاشيت أنطوان/ نوفل"، النسخة المترجمة إلى العربية من كتاب المؤرخ وعالم الاجتماع العراقي-الفرنسي عادل بكوان.
الكتاب الذي صدر باللغة الفرنسية، تُرجم إلى العربية بعنوان "العراق: قرن من الإفلاس من عام 1921 إلى اليوم". يوثق لـ١٠٠ عام من تاريخ العراق الحديث، منذ تأسيسه على يد الملك فيصل الأول، مروراً بالملكية التي أطيح بها، حتى حكم حزب البعث، ووصولاً إلى سقوط نظام صدام حسين ومحاولة العراق تأسيس حكم ديمقراطي بعد سنة 2003.
يرى بكوان في كتابه، أن الكيان العراقي ما يزال حتّى اليوم "فريسة التدخّلات الخارجية"، بينما تقوّضه داخليًّا "تدخّلات المؤسّسة الدينيّة وانتشار الفساد وسيطرة الأحزاب على موارد البلاد ومَليَشة (نسبة للمليشيات) الدولة".
ماذا يقول المترجم؟
مترجم الكتاب إلى العربية الكاتب والأستاذ الجامعي وسام سعادة، يقول لـ"ارفع صوتك"، إن "بكوان يطرح في كتابه إشكالية أساسية تتمحور حول قدرة الجماعات الأهلية والإثنية والطائفية، في أن تكون لديها إستراتيجيات لحكم العراق، وليس فقط ردّات فعل لم تؤد سوى إلى الإفلاس على مستوى بناء الدولة".
ويلفت إلى أن "الجانب المهم في الكتاب، هو تناول التجارب الحزبية في العراق وتخصيص فصول لها، مثل حزب البعث وحزب الدعوة والحزب الشيوعي العراقي".
ويحاول الكتاب، بحسب سعادة، "تبيان أسباب الفشل الكياني في العراق. يبدو بكوان عاطفياً في بعض صفحات الكتاب تجاه فترة حكم عبد الكريم قاسم؛ بوصفها الفترة الوحيدة التي حاول فيها أحد حكّام العراق إنتاج تعاقد بين مختلف الأنسجة في المجتمع على الرغم من منحاه السلطوي".
هذه الرؤية تنقل للقارئ "شعوراً عاطفياً تجاه عبد الكريم قاسم يقابله، شعور سلبي تجاه القوميين العرب والبعثيين"، يقول سعادة.
ماذا يقول الكاتب؟
"ارفع صوتك" حاور المؤرخ وعالم الاجتماع عادل بكوان، ويناقش معه رؤيته لمستقبل العراق، عطفاً على حالة "الإفلاس" التي وصف بها تاريخ البلد خلال قرن.
لماذا اخترت الفرنسية لغة الكتاب الأولى؟ وما رأيك بالترجمة إلى العربية؟
ألفتُ الكتاب في نسخته الأولى بالفرنسية لأن العقد كان مع دار نشر فرنسية، ولأن اللغة التي أكتب فيها هي الفرنسية وتقريباً كل مفاهيمي ونظرياتي واطروحاتي كُتبت في البداية بالفرنسية، ثم تُرجمت إلى اللغات الأخرى.
بمعنى آخر، فإن الفرنسية تعطيني الأمن اللغوي لأستطيع أنّ أعبرّ بطريقة أفضل عن أفكاري، ولكن في ذات الوقت كنت حريصاً على ترجمة الكتاب إلى العربية ليكون متاحاً للقارئ العربي عموماً والعراقي خصوصاً، حتى يكونوا قريبين ومتابعين للنتاجات المعرفية الجديدة التي تحلل تاريخهم وواقعهم السياسي والاجتماعي، وهو كتاب موجه للجميع، وكتبته لكل المهتمين بمعرفة العراق.
يبدو العنوان لافتاً من خلال وسم ١٠٠ عام من تاريخ العراق بـ"الإفلاس"، فما المعنى الذي قصدته؟
يجب ألا نأخذ كلمة "الإفلاس" بالمعنى الحرفي، لأنها استُعملت في هذا الكتاب من بدايته إلى نهايته للتعبير عن الفشل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والسيكولوجي للنخب العراقية منذ تأسيس الدولة عام 1921 حتى الآن، في تأصيل عقد اجتماعي.
صحيح أنهم نجحوا في بناء أنظمة مختلفة ومؤسسات، لكنهم لم ينجحوا في تأسيس عقد اجتماعي ينتمون إليه، فمع كل الاختلافات الدينية والعرقية والمذهبية والفكرية والاجتماعية، من دون العقد الاجتماعي سيكون "الإفلاس" هو الفرضية الأقوى التي ستفرض نفسها على الواقع.
مثلاً في بلجيكا هناك أكثر من لغة ودين وطبقات اجتماعية ومناطق جغرافية لا يربطها أي رابط، لكن هناك عقداً اجتماعياً ينتمون إليه، لم يُفرض من قبل جهة على أخرى أو مكون على آخر، إنما تَشكل نتيجةٍ لمفاوضاتٍ طويلةٍ وعميقة وتاريخية للقوى المختلفة، لكي تؤسس إطاراً يجمعها رغم الاختلافات بينها.
وكذلك في سويسرا، هناك أربع لغات وجماعات مختلفة لا يقل تنوعها عن الموجود في العراق، لكن لماذا أصبحت سويسرا واحدة من أكثر البلدان أمناً واستقراراً؟ لأنهم استطاعوا تأسيس عقد اجتماعي يجمعهم.
العراق وللأسف، أفلس وفشل في بناء عقد اجتماعي منذ الملك الأول حتى محمد شياع السوداني، وهذا ما أقصد بـ "الإفلاس" في عنوان الكتاب ومضمونه.
قسّمت الكتاب وتاريخ العراق تالياً، إلى ثلاثة أجزاء أو مراحل: الأولى حكم الملكية (الأقلية المتغطرسة)، والثانية عن العراق بين قوميتين، والثالثة حول الحلم المستحيل المتمثل بالعراق الديمقراطي.
هل كانت الطائفية تتحكم بمصائر العراق والعراقيين منذ تأسيسه؟
في البداية كان لدى الملك فيصل الأول مشروعٌ لبناء أمة عراقية لكنه فشل؛ لأن البنية الاجتماعية للدولة العراقية وللمجتمع العراقي كما تَصوّره البريطانيون، كانت قائمة على فكرة الطائفية.
في البداية كانوا يريدون بناء الدولة العراقية مع الأكثرية الشيعية، وحينما وصلوا كان برسي كوكس يعتقد أن الشيعة المبعدين من السلطة والنظام من قبل العثمانيين هم من سيساعد البريطانيين في تأسيس الدولة الحديثة، لكن الشيعة نظموا أنفسهم في حركة جهادية ضد المشروع البريطاني الجديد في العراق، أما السنّة ببراغماتيتهم وثقافتهم في إدارة الدولة منذ زمن العثمانيين، فهموا أن العالم تغيّر وانتهى عهد العثمانيين وجاء الدور البريطاني في الشرق الأوسط ويجب أن يتحالفوا معهم.
لذلك عندما انتهى التحالف الشيعي لبناء الدولة، أبرم البريطانيون مباشرةً، عقداً مع "الأقلية المتكبرة" كما أسماها الملك فيصل، لبناء الدولة العراقية.
وحينما جاء الملك فيصل من خارج العراق لم يكن عراقياً، لكنه كان مثقفاً يتحدث الإنجليزية والفرنسية والعربية، وكان على معرفة كاملة بمعنى بناء الأمة وبناء الدولة، وأراد بناء الدولة العراقية الحديثة على غرار الدول الأوروبية، إلا أنه فشل، ذلك أن البنيتين الاجتماعية والسياسية والنخب الاجتماعية والسياسية، تقف على النقيض من هذا المشروع.
بعد ذلك، جاء عبد الكريم قاسم بمشروع "العرقنة"، أي بناء أمة عراقية، وكان شعاره "العراق أولاً"، ما يعني أنه كان على نقيض مع فكرة بناء الأمة العربية، لذلك حصلت خلافات بينه والرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي كان في وقتها الأب للقومية العربية.
قاسم أيضاً، فشل في مشروعه؛ لأن الشروط الموضوعية في العراق لم تسمح لا للملك ولا لقاسم بالنجاح في مثل هكذا مشروع.
أما بعد التغيير في 2003، أي بعد سقوط الدكتاتورية والاحتلال الأميركي للعراق، كان لدى مجموعة من الممثلين السياسيين مشروعاً لبناء الأمة والدولة العراقية، لكنهم ما كانوا يستطيعون السيطرة على البنية الاجتماعية والسياسية والثقافية والتاريخية التي بنيت على الطائفية.
باختصار، الطائفية في العراق ليست مجرد مفهوم، بل لها أرض وحدود وطبقات اجتماعية وسياسية وعلاقات دولية تغذيها. لذلك أعتقد بأسف أنه لطالما هذه البنية وهذا التاريخ لم يتغيرا، فإن حلم بناء الأمة والدولة الوطنية في العراق سيبقى حلماً ليس إلا.
لماذا وصل العراق من حكم الأقلية السنية في زمن الملكية، إلى أزمة حقيقية في إنتاج قيادة سنيّة بعد مئة عام؟
في 2003 لا أبالغ إذا قلت، إن المكون السني في العراق واجه جينوسايد (إبادة جماعية). مثلاً في مدينة مثل بغداد كان هناك قبل الاحتلال تقريباً نصف من السنة ونصف من الشيعة، أما الآن فقد تحول وجودهم إلى أقلية في الأحياء المختلطة بين السنة والشيعة، هذا أولاً، وثانياً يجب أن نعترف بوجود الهيمنة المطلقة للشيعة في العاصمة.
وفي محافظة ديالى، كان هناك 70% من الأهالي من السنة أما الآن سنجد العكس، لذلك نستطيع القول إن السياق الذي انتُهج مع السنة هو سياق التهجير والإقصاء والاجتثاث، وهناك قانون باسم "قانون اجتثاث البعث"، استُعمل للأسف من قبل الشيعة كأنه "لاجتثاث السنة" في العراق.
بعبارة أخرى في العراق الجديد، الأميركيون والإيرانيون ودول الخليج وتركيا وسوريا، الكل حاول استخدام الورقة السنية، لهذا لم يسمحوا ببروز قيادة سنية. هذا على الصعيد الخارجي. أما على الصعيد الداخلي، فإن السنة مدانون ومتهمون دائماً حتى يثبتوا العكس.
وثالثاً، هناك "ظِل صدام حسين" الذي بقي جاثماً في تصوّر الشيعة، فالمكون الشيعي لغاية الآن لم يتخلص منه، وكلما ظهرت قيادات سنية من طارق الهاشمي لغاية محمد الحلبوسي، يعتقد الشيعة أنها ستكون الجامع أو المرجع للمكون السني، لذلك يضربونه بكل الأشكال، بهدف ألا تظهر شخصية جامعة ورمزية بين السنة.
المكون الشيعي لم يفهم بأن هذا لن يحدث، وبتحليل بسيط إذا عدنا إلى طبيعة المجتمع السني فهو مجتمع قبلي، بالتالي ليس سهلاً ظهور شخصية سنية تمثل رمزاً سنياً وقيادة سنية واحدة، فظهور صدام حسين كان استثناءً بالنسبة لطبيعة تركيبة المجتمع السني وقَبله كانت دائماً هناك طبقة أو نخبة سنية تدير الدولة، وليس شخصية واحدة؛ لأن طبيعة المجتمع السني لا تساعد على ظهور "القائد الرمز".
رأيتَ أن التجربة الديمقراطية فشلت، ما الأسباب؟ ومن يتحمل مسؤولية ذلك؟
الديمقراطية ليست انتخابات بل تربية اجتماعية وسياسية وثقافية. الديمقراطية مجموعة من نظم فكرية وتحتاج إلى أجيال وأجيال يتربون عليها، لكن في العراق، كان الأميركيون يعتقدون أن الديمقراطية ليست إلا انتخابات، لذلك كلما حدثت انتخابات في العراق نجدهم والغرب يتحدثون عن "الديمقراطية العراقية الناشئة"، وهذا خطأ كبير.
مثلاً في السودان، بسبب غياب الثقافة الديمقراطية فإن الانتخابات أوصلتهم إلى الحرب الداخلية، وفي كردستان العراق في فترة التسعينيات، بسبب عدم وجود ثقافة ديمقراطية أيضاً، أوصلتهم الانتخابات إلى الاقتتال الداخلي. كذلك في لبنان، وليبيا، واليمن، وسوريا.
لذلك، حينما تكون في بلد ليس فيه تربية ديمقراطية وتاريخ ديمقراطي وثقافة ديمقراطية، فالفرضية الرئيسية تقول إن الانتخابات ستقود لحرب داخلية. وكما شاهدنا في انتخابات 2021 في العراق، وصل التيار الصدري وقوى الإطار التنسيقي إلى الاقتتال الداخلي على بوابة المنطقة الخضراء.
ودائماً عندما تحصل انتخابات في العراق، نضع أيدينا على قلوبنا؛ خوفاً من أن تؤدي بنا إلى جولة أخرى من الحرب الداخلية.
إضافة لما سبق، لا يوجد في العراق قوى اجتماعية سياسية مكوناتية تؤمن بالديمقراطية، وثقافة الديمقراطية للكتل والأحزاب السياسية في العراق ليست إلا إدارة لموازين القوى وليست إيماناً بالمعارضة والحكومة وإدارة الاختلافات. باختصار، نحن جئنا بالديمقراطية إلى العراق من دون أن يكون لدينا ديمقراطيون.
كيف تنظر للآراء التي تقول إن العراق لا يُمكن أن يُحكم إلا بالديكتاتورية، وتستعيد حقبة نظام صدام حسين بالتحسّر؟
أرفض رفضاً قاطعاً هذه الأطروحة للعراق ولأي بلد آخر. أعتقد أنه لا يمكن أن يحكم لا العراق ولا أي بلد بهذه الطريقة؛ فمن أجل أن يكون هناك أمن واستقرار وتنمية اقتصادية على المدى البعيد، لا بد أن يكون هناك اتفاق سلمي بين القوى المختلفة في هذا المجتمع.
ومن دون اتفاقات بين السنة والشيعة والكرد وبين الشيعة في داخل بيتهم والسنة في داخل بيتهم والكرد في داخل بيتهم لبناء عقد اجتماعي حقيقي، لن نستطيع حكم العراق على المدى البعيد. ودون هذا العقد ربما سيستطيعون حكم العراق لسنوات، لكنه سيكون حكماً غير مستقر، وستظهر الثورات والحركات الاحتجاجية العنيفة والانقلابات، وستكون هناك دماء! وهذا ليس تصوراً، بل وقائع حدثت وما زالت تحدث، ونستطيع أن نجدها بوضوح في تاريخ الدولة العراقية حتى الآن.
هل يحمل العراق على عاتقه أعباء تاريخ أبعد من الأعوام المئة الأخيرة؟
لو قمنا باختزال التاريخ السياسي العراقي من زمن وصول البريطانيين لغاية اليوم، سيكون تحليلنا لتاريخ العنف منقوصاً في العراق، فالعراق كأرض له تاريخ طويل جداً و داخل هذا التاريخ على الأقل قبل 2000 عام كان العراق ساحة صراع للقوى التي تدير النظام الدولي.
مثلاً كان العراق أرض بيزوبوتاميا، أرض المنافسة بين الساسانيين والبيزنطيين، ومن بعد هذا الصراع تحولت أرض وادي الرافدين إلى أرض لتحديد علاقات القوة بين الصفويين من جانب والعثمانيين من جانب آخر. حينما كان العثمانيون يدخلون كانوا يقومون بإبادة جماعية للمكون الشيعي وحينما يدخل الصفويون يقومون بإبادة جماعية للمكون السني.
لذلك أردت أن أقول إن العراق منذ ألفي عام يحمل عبئاً تاريخياً طويلاً من الصراعات على أرضه ليس له فيها لا ناقة ولا جمل، ولم يكن للعراق قوى تستطيع أن تفرض قوتها وقرارها على القوى المتصارعة إلا في العصر العباسي الذي لم يستمر سوى 524 عاماً، وهو لا يُقارن مع ألفي عام من الصراع والعنف، حتى العصر العباسي نفسه لم يخلُ من العنف والصراعات.
نعم في وقت من الأوقات كانت بغداد عاصمة النظام السياسي العالمي، هذا صحيح! ولكن إذا وضعنا هذا "الاستثناء العباسي" بين قوسين، سنجد أن بلاد ما بين النهرين تُدار من قبل القوى والعواصم والإمبراطوريات الأخرى.
بعبارة أخرى، كان العراق دائماً أرضاً لتصفية حسابات القوى الكبرى وليس وطناً ذا سيادة وطنية، منذ الساسانيين حتى الاحتلال الأميركي. وهذا التاريخ له كلمة حتى هذه اللحظة في نفسية وتفكير المواطن العراقي، وكذلك في أرض العراق كجيوبولتيك (تأثير الجغرافيا على السياسة)، وله رمزية في الذاكرة الجماعية الإيرانية والتركية.
وليس هباءً أن يعتقد الإيرانيون والترك بأن العراق كان تاريخاً لهم وأن العراقي كعراقي لم يكن إلا تابعاً للإمبراطورية الساسانية أو البيزنطية أو الصفوية أو العثمانية، والآن إما يجب أن يكون تابعاً لطهران أو يجب أن يكون تابعاً لأنقرة!.
أريد أن أقول، مع الأسف، هذا التاريخ ما زال يعطي مبررات للقوى الكبرى الإقليمية والدولية بأن تستخدم الإنسان العراقي ورقة للضغط فقط لتحقيق مصالحها.
تبدو متشائماً في الكتاب من إمكانية شفاء العراق من "أمراضه المزمنة" كما تسمّيها. هل الأمل مفقود؟
طالما ليس هناك قوى سياسية واجتماعية تتبنى العرقنة كهوية وكعقد اجتماعي وكإطار للعيش المشترك مع وجود الاختلاف، وطالما ليس هناك عمل جديّ وإرادة حقيقية من قبل هذه القوى لبناء الأمة العراقية بكل رمزياتها، لن يكون هناك أمل لأن يصبح العراق دولة مسقرة ومستقلة وآمنة ومتطورة اقتصادياً.