"غلاف كتاب "قرن من الإفلاس من عام 1921 إلى اليوم
"غلاف كتاب "قرن من الإفلاس من عام 1921 إلى اليوم

صدرت حديثاً عن دار "هاشيت أنطوان/ نوفل"، النسخة المترجمة إلى العربية من كتاب المؤرخ وعالم الاجتماع العراقي-الفرنسي عادل بكوان.

الكتاب الذي صدر باللغة الفرنسية، تُرجم إلى العربية بعنوان "العراق: قرن من الإفلاس من عام 1921 إلى اليوم". يوثق لـ١٠٠ عام من تاريخ العراق الحديث، منذ تأسيسه على يد الملك فيصل الأول، مروراً بالملكية التي أطيح بها، حتى حكم حزب البعث، ووصولاً إلى سقوط نظام صدام حسين ومحاولة العراق تأسيس حكم ديمقراطي بعد سنة 2003.

يرى بكوان في كتابه، أن الكيان العراقي ما يزال حتّى اليوم "فريسة التدخّلات الخارجية"، بينما تقوّضه داخليًّا "تدخّلات المؤسّسة الدينيّة وانتشار الفساد وسيطرة الأحزاب على موارد البلاد ومَليَشة (نسبة للمليشيات) الدولة".

 

ماذا يقول المترجم؟

مترجم الكتاب إلى العربية الكاتب والأستاذ الجامعي وسام سعادة، يقول لـ"ارفع صوتك"، إن "بكوان يطرح في كتابه إشكالية أساسية تتمحور حول قدرة الجماعات الأهلية والإثنية والطائفية، في أن تكون لديها إستراتيجيات لحكم العراق، وليس فقط ردّات فعل لم تؤد سوى إلى الإفلاس على مستوى بناء الدولة".

ويلفت إلى أن "الجانب المهم في الكتاب، هو تناول التجارب الحزبية في العراق وتخصيص فصول لها، مثل حزب البعث وحزب الدعوة والحزب الشيوعي العراقي".

ويحاول الكتاب، بحسب سعادة، "تبيان أسباب الفشل الكياني في العراق. يبدو بكوان عاطفياً في بعض صفحات الكتاب تجاه فترة حكم عبد الكريم قاسم؛ بوصفها الفترة الوحيدة التي حاول فيها أحد حكّام العراق إنتاج تعاقد بين مختلف الأنسجة في المجتمع على الرغم من منحاه السلطوي".

هذه الرؤية تنقل للقارئ "شعوراً عاطفياً تجاه عبد الكريم قاسم يقابله، شعور سلبي تجاه القوميين العرب والبعثيين"، يقول سعادة.

صورة لغلاف النسخة العربية من كتاب المؤرخ وعالم الاجتماع العراقي الفرنسي عادل بكوان

ماذا يقول الكاتب؟

"ارفع صوتك" حاور المؤرخ وعالم الاجتماع عادل بكوان، ويناقش معه رؤيته لمستقبل العراق، عطفاً على حالة "الإفلاس" التي وصف بها تاريخ البلد خلال قرن.

 

لماذا اخترت الفرنسية لغة الكتاب الأولى؟ وما رأيك بالترجمة إلى العربية؟

ألفتُ الكتاب في نسخته الأولى بالفرنسية لأن العقد كان مع دار نشر فرنسية، ولأن اللغة التي أكتب فيها هي الفرنسية وتقريباً كل مفاهيمي ونظرياتي واطروحاتي كُتبت في البداية بالفرنسية، ثم تُرجمت إلى اللغات الأخرى.

بمعنى آخر، فإن الفرنسية تعطيني الأمن اللغوي لأستطيع أنّ أعبرّ بطريقة أفضل عن أفكاري، ولكن في ذات الوقت كنت حريصاً على ترجمة الكتاب إلى العربية ليكون متاحاً للقارئ العربي عموماً والعراقي خصوصاً، حتى يكونوا قريبين ومتابعين للنتاجات المعرفية الجديدة التي تحلل تاريخهم وواقعهم السياسي والاجتماعي، وهو كتاب موجه للجميع، وكتبته لكل المهتمين بمعرفة العراق.

 

يبدو العنوان لافتاً من خلال وسم ١٠٠ عام من تاريخ العراق بـ"الإفلاس"، فما المعنى الذي قصدته؟

يجب ألا نأخذ كلمة "الإفلاس" بالمعنى الحرفي، لأنها استُعملت في هذا الكتاب من بدايته إلى نهايته للتعبير عن الفشل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والسيكولوجي للنخب العراقية منذ تأسيس الدولة عام 1921 حتى الآن، في تأصيل عقد اجتماعي.

صحيح أنهم نجحوا في بناء أنظمة مختلفة ومؤسسات، لكنهم لم ينجحوا في تأسيس عقد اجتماعي ينتمون إليه، فمع كل الاختلافات الدينية والعرقية والمذهبية والفكرية والاجتماعية، من دون العقد الاجتماعي سيكون "الإفلاس" هو الفرضية الأقوى التي ستفرض نفسها على الواقع.

مثلاً في بلجيكا هناك أكثر من لغة ودين وطبقات اجتماعية ومناطق جغرافية لا يربطها أي رابط، لكن هناك عقداً اجتماعياً ينتمون إليه، لم يُفرض من قبل جهة على أخرى أو مكون على آخر، إنما تَشكل نتيجةٍ لمفاوضاتٍ طويلةٍ وعميقة وتاريخية للقوى المختلفة، لكي تؤسس إطاراً يجمعها رغم الاختلافات بينها.

وكذلك في سويسرا، هناك أربع لغات وجماعات مختلفة لا يقل تنوعها عن الموجود في العراق،  لكن لماذا أصبحت سويسرا واحدة من أكثر البلدان أمناً واستقراراً؟ لأنهم استطاعوا تأسيس عقد اجتماعي يجمعهم.

العراق وللأسف، أفلس وفشل في بناء عقد اجتماعي منذ الملك الأول حتى محمد شياع السوداني، وهذا ما أقصد بـ "الإفلاس" في عنوان الكتاب ومضمونه.

قسّمت الكتاب وتاريخ العراق تالياً، إلى ثلاثة أجزاء أو مراحل: الأولى حكم الملكية (الأقلية المتغطرسة)، والثانية عن العراق بين قوميتين، والثالثة حول الحلم المستحيل المتمثل بالعراق الديمقراطي.

 

هل كانت الطائفية تتحكم بمصائر العراق والعراقيين منذ تأسيسه؟ 

في البداية كان لدى الملك فيصل الأول مشروعٌ لبناء أمة عراقية لكنه فشل؛ لأن البنية الاجتماعية للدولة العراقية وللمجتمع العراقي كما تَصوّره البريطانيون، كانت قائمة على فكرة الطائفية.

في البداية كانوا يريدون بناء الدولة العراقية مع الأكثرية الشيعية، وحينما وصلوا كان برسي كوكس يعتقد أن الشيعة المبعدين من السلطة والنظام من قبل العثمانيين هم من سيساعد البريطانيين في تأسيس الدولة الحديثة، لكن الشيعة نظموا أنفسهم في حركة جهادية ضد المشروع البريطاني الجديد في العراق، أما السنّة ببراغماتيتهم وثقافتهم في إدارة الدولة منذ زمن العثمانيين، فهموا أن العالم تغيّر وانتهى عهد العثمانيين وجاء الدور البريطاني في الشرق الأوسط ويجب أن يتحالفوا معهم.

لذلك عندما انتهى التحالف الشيعي لبناء الدولة، أبرم البريطانيون مباشرةً، عقداً مع "الأقلية المتكبرة" كما أسماها الملك فيصل، لبناء الدولة العراقية.

وحينما جاء الملك فيصل من خارج العراق لم يكن عراقياً، لكنه كان مثقفاً يتحدث الإنجليزية والفرنسية والعربية، وكان على معرفة كاملة بمعنى بناء الأمة وبناء الدولة، وأراد بناء الدولة العراقية الحديثة على غرار الدول الأوروبية، إلا أنه فشل، ذلك أن البنيتين الاجتماعية والسياسية والنخب الاجتماعية والسياسية، تقف على النقيض من هذا المشروع.

بعد ذلك، جاء عبد الكريم قاسم بمشروع "العرقنة"، أي بناء أمة عراقية، وكان شعاره "العراق أولاً"، ما يعني أنه كان على نقيض مع فكرة بناء الأمة العربية، لذلك حصلت خلافات بينه والرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي كان في وقتها الأب للقومية العربية.

قاسم أيضاً، فشل في مشروعه؛ لأن الشروط الموضوعية في العراق لم تسمح لا للملك ولا لقاسم بالنجاح في مثل هكذا مشروع.

أما بعد التغيير في 2003، أي بعد سقوط الدكتاتورية والاحتلال الأميركي للعراق، كان لدى مجموعة من الممثلين السياسيين مشروعاً لبناء الأمة والدولة العراقية، لكنهم ما كانوا يستطيعون السيطرة على البنية الاجتماعية والسياسية والثقافية والتاريخية التي بنيت على الطائفية.

باختصار، الطائفية في العراق ليست مجرد مفهوم، بل لها أرض وحدود وطبقات اجتماعية وسياسية وعلاقات دولية تغذيها. لذلك أعتقد بأسف أنه لطالما هذه البنية وهذا التاريخ لم يتغيرا، فإن حلم بناء الأمة والدولة الوطنية في العراق سيبقى حلماً ليس إلا.

 

لماذا وصل العراق من حكم الأقلية السنية في زمن الملكية، إلى أزمة حقيقية في إنتاج قيادة سنيّة بعد مئة عام؟

في 2003 لا أبالغ إذا قلت، إن المكون السني في العراق واجه جينوسايد (إبادة جماعية). مثلاً في مدينة مثل بغداد كان  هناك قبل الاحتلال تقريباً نصف من السنة ونصف من الشيعة، أما الآن فقد تحول وجودهم إلى أقلية في الأحياء المختلطة بين السنة والشيعة، هذا أولاً، وثانياً يجب أن نعترف بوجود الهيمنة المطلقة للشيعة في العاصمة.

وفي محافظة ديالى، كان هناك 70% من الأهالي من السنة أما الآن سنجد العكس، لذلك نستطيع القول إن السياق الذي انتُهج مع السنة هو سياق التهجير والإقصاء والاجتثاث، وهناك قانون باسم "قانون اجتثاث البعث"، استُعمل للأسف من قبل الشيعة كأنه "لاجتثاث السنة" في العراق.

بعبارة أخرى في العراق الجديد، الأميركيون والإيرانيون ودول الخليج وتركيا وسوريا، الكل حاول استخدام الورقة السنية، لهذا لم يسمحوا ببروز قيادة سنية. هذا على الصعيد الخارجي. أما على الصعيد الداخلي، فإن السنة مدانون ومتهمون دائماً حتى يثبتوا العكس.

وثالثاً، هناك "ظِل صدام حسين" الذي بقي جاثماً في تصوّر الشيعة، فالمكون الشيعي لغاية الآن لم يتخلص منه، وكلما ظهرت قيادات سنية من طارق الهاشمي لغاية محمد الحلبوسي، يعتقد الشيعة أنها ستكون الجامع أو المرجع للمكون السني، لذلك يضربونه بكل الأشكال، بهدف ألا تظهر شخصية جامعة ورمزية بين السنة.

المكون الشيعي لم يفهم بأن هذا لن يحدث، وبتحليل بسيط  إذا عدنا إلى طبيعة المجتمع السني فهو مجتمع قبلي، بالتالي ليس سهلاً ظهور شخصية سنية تمثل رمزاً سنياً وقيادة سنية واحدة، فظهور صدام حسين كان استثناءً بالنسبة لطبيعة  تركيبة المجتمع السني وقَبله كانت دائماً هناك طبقة أو نخبة سنية تدير الدولة، وليس شخصية واحدة؛ لأن طبيعة المجتمع السني لا تساعد على ظهور "القائد الرمز".

"كيف تطعم الديكتاتور؟".. طباخ صدام حسين يتحدث
لحظات رعب انتهت بـ50 دينار عراقي (ما يعادل 150 دولاراً في حينه)، وصدام حسين الذي يضحك ويبكي ويحاول إثبات ألا شبيه له، وصدام "الأفضل في عائلة التكريتي"، وحساء اللصوص أو "شوربة الحرامية" التكريتية، وقصة سميرة التي تركت زوجها لأجل صدام، والرجل الذي ظل واقفاً حين هرب الجميع، وغير ذلك.

رأيتَ أن التجربة الديمقراطية فشلت، ما الأسباب؟ ومن يتحمل مسؤولية ذلك؟

الديمقراطية ليست انتخابات بل تربية اجتماعية وسياسية وثقافية. الديمقراطية مجموعة من نظم فكرية وتحتاج إلى أجيال وأجيال يتربون عليها، لكن في العراق، كان الأميركيون يعتقدون أن الديمقراطية ليست إلا انتخابات، لذلك كلما حدثت انتخابات في العراق نجدهم والغرب يتحدثون عن "الديمقراطية العراقية الناشئة"، وهذا خطأ كبير.

مثلاً في السودان، بسبب غياب الثقافة الديمقراطية فإن الانتخابات أوصلتهم إلى الحرب الداخلية، وفي كردستان العراق في فترة التسعينيات، بسبب عدم وجود ثقافة ديمقراطية أيضاً، أوصلتهم الانتخابات إلى الاقتتال الداخلي. كذلك في لبنان، وليبيا، واليمن، وسوريا.

لذلك، حينما تكون في بلد ليس فيه تربية ديمقراطية وتاريخ ديمقراطي وثقافة ديمقراطية، فالفرضية الرئيسية تقول إن الانتخابات ستقود لحرب داخلية. وكما شاهدنا في انتخابات 2021 في العراق، وصل التيار الصدري وقوى الإطار التنسيقي إلى الاقتتال الداخلي على بوابة المنطقة الخضراء.

ودائماً عندما تحصل انتخابات في العراق، نضع أيدينا على قلوبنا؛ خوفاً من أن تؤدي بنا إلى جولة أخرى من الحرب الداخلية.

إضافة لما سبق، لا يوجد في العراق قوى اجتماعية سياسية مكوناتية تؤمن بالديمقراطية، وثقافة الديمقراطية للكتل والأحزاب السياسية في العراق ليست إلا إدارة لموازين القوى وليست إيماناً بالمعارضة والحكومة وإدارة الاختلافات. باختصار، نحن جئنا بالديمقراطية إلى العراق من دون أن يكون لدينا ديمقراطيون.

 

كيف تنظر للآراء التي تقول إن العراق لا يُمكن أن يُحكم إلا بالديكتاتورية، وتستعيد حقبة نظام صدام حسين بالتحسّر؟

أرفض رفضاً قاطعاً هذه الأطروحة للعراق ولأي بلد آخر. أعتقد أنه لا يمكن أن يحكم لا العراق ولا أي بلد  بهذه الطريقة؛ فمن أجل أن يكون هناك أمن واستقرار وتنمية اقتصادية على المدى البعيد، لا بد أن يكون هناك اتفاق سلمي بين القوى المختلفة في هذا المجتمع.

ومن دون اتفاقات بين السنة والشيعة والكرد وبين الشيعة في داخل بيتهم والسنة في داخل بيتهم والكرد في داخل بيتهم لبناء عقد اجتماعي حقيقي، لن نستطيع حكم العراق على المدى البعيد. ودون هذا العقد ربما سيستطيعون حكم العراق لسنوات، لكنه سيكون حكماً غير مستقر، وستظهر الثورات والحركات الاحتجاجية العنيفة والانقلابات، وستكون هناك دماء! وهذا ليس تصوراً، بل وقائع حدثت وما زالت تحدث، ونستطيع أن نجدها بوضوح في تاريخ الدولة العراقية حتى الآن.

هل يحمل العراق على عاتقه أعباء تاريخ أبعد من الأعوام المئة الأخيرة؟

لو قمنا باختزال التاريخ السياسي العراقي من زمن وصول البريطانيين لغاية اليوم، سيكون تحليلنا لتاريخ العنف منقوصاً في العراق، فالعراق كأرض له تاريخ طويل جداً و داخل هذا التاريخ على الأقل قبل 2000 عام كان العراق ساحة صراع للقوى التي تدير النظام الدولي.

مثلاً كان العراق أرض بيزوبوتاميا، أرض المنافسة بين الساسانيين والبيزنطيين، ومن بعد هذا الصراع تحولت أرض وادي الرافدين إلى أرض لتحديد علاقات القوة بين الصفويين من جانب والعثمانيين من جانب آخر. حينما كان العثمانيون يدخلون كانوا يقومون بإبادة جماعية للمكون الشيعي وحينما يدخل الصفويون يقومون بإبادة جماعية للمكون السني.

لذلك أردت أن أقول إن العراق منذ ألفي عام يحمل عبئاً تاريخياً طويلاً من الصراعات على أرضه ليس له فيها لا ناقة ولا جمل، ولم يكن للعراق قوى تستطيع أن تفرض قوتها وقرارها على القوى المتصارعة إلا في العصر العباسي الذي لم يستمر سوى 524 عاماً، وهو لا يُقارن مع ألفي عام من الصراع والعنف، حتى العصر العباسي نفسه لم يخلُ من العنف والصراعات.

نعم في وقت من الأوقات كانت بغداد عاصمة النظام السياسي العالمي، هذا صحيح! ولكن إذا وضعنا هذا "الاستثناء العباسي" بين قوسين، سنجد أن بلاد ما بين النهرين تُدار من قبل القوى والعواصم والإمبراطوريات الأخرى.

بعبارة أخرى، كان العراق دائماً أرضاً لتصفية حسابات القوى الكبرى وليس وطناً ذا سيادة وطنية، منذ الساسانيين حتى الاحتلال الأميركي. وهذا التاريخ له كلمة حتى هذه اللحظة في نفسية وتفكير المواطن العراقي، وكذلك في أرض العراق كجيوبولتيك (تأثير الجغرافيا على السياسة)، وله رمزية في الذاكرة الجماعية الإيرانية والتركية.

وليس هباءً أن يعتقد الإيرانيون والترك بأن العراق كان تاريخاً لهم وأن العراقي كعراقي لم يكن إلا تابعاً للإمبراطورية الساسانية أو البيزنطية أو الصفوية أو العثمانية، والآن إما يجب أن يكون تابعاً لطهران أو يجب أن يكون تابعاً لأنقرة!.

أريد أن أقول، مع الأسف، هذا التاريخ ما زال يعطي مبررات للقوى الكبرى الإقليمية والدولية بأن تستخدم الإنسان العراقي ورقة للضغط فقط لتحقيق مصالحها.

 

تبدو متشائماً في الكتاب من إمكانية شفاء العراق من "أمراضه المزمنة" كما تسمّيها. هل الأمل مفقود؟

طالما ليس هناك قوى سياسية واجتماعية تتبنى العرقنة كهوية وكعقد اجتماعي وكإطار للعيش المشترك مع وجود الاختلاف، وطالما ليس هناك عمل جديّ وإرادة حقيقية من قبل هذه القوى لبناء الأمة العراقية بكل رمزياتها، لن يكون هناك أمل لأن يصبح العراق دولة مسقرة ومستقلة وآمنة ومتطورة اقتصادياً.

مواضيع ذات صلة:

صورة مركبة للكاتب اللبناني حازم صاغية- ارفع صوتك
صورة مركبة للكاتب اللبناني حازم صاغية- ارفع صوتك

في طفولته، تسلّل العراق إلى الكاتب والمثقف اللبناني حازم صاغية من باب "العروبة ووحدة العرب" وبسبب علاقة البيت الذي تربّى فيه بحزب البعث.

صاغية المولود عام 1951 في لبنان، حمل العراق في انشغالاته الثقافية والسياسية ما يقارب السبعين عاماً، وأسَالَ في الكتابة عن العراق وأحواله حبراً كثيراً، ترجمه في مقالات وتحليلات نقدية وكتب خصصها للعراق وتاريخه ومآلات مستقبله.

في  2003 بعد سقوط نظام صدّام حسين، أصدر صاغية كتابه "بعث العراق: سلطة صدّام قياماً وحطاماً"، الذي عرض حكاية حزب البعث في العراق منذ بداياته الأولى عام 1949 حتى سقوط النظام.

كما عرض تحليلاً لسياسات البعث ودوره في إحكام قبضته على الحكم في العراق وتأثيره "الكارثي" بحسب وصف صاغية، على حياة ملايين العراقيين.

"العراق أبعد من العراق في أسئلته وتحدياته، كما انطوت عليها قصة البعث- قصتنا جميعاً بمعنى من المعاني"، يكتب صاغية في مقدمة كتابه. حول هذا العراق، الأبعد من نفسه، يحلّ صاغية ضيفاً على "ارفع صوتك" في حوار موسّع، يتخلله قراءة نقدية لماضي العراق وحاضره، ومحاولة استشراف للتحديات المستقبلية التي تنتظره.

 

من أين حضر "الهمّ العراقي" إلى حازم صاغية، ولماذا يشغل حيزاً ليس بقليل من كتاباته؟

جاءني العراق من أمكنة كثيرة. أمّا المكان الأوّل فتلك القصص التي كانت تُروى في بيتنا عن قريب لنا، هو الكاتب الناصريّ اللاحق والراحل نديم البيطار. فهو سافر إلى العراق، ولم أكن قد وُلدت، طلباً للدراسة والعيش في ظلال الملك غازي بن فيصل الأوّل الذي شبّهتْه الخفّة والحماسة العربيّتان بغاريبالدي، وقيل إنّه سيوحّد "أمّتنا" على النحو الذي وُحّدت فيه إيطاليا.

فإبّان عهد غازي القصير وُصف العراق بأنّه "بيادمونت العرب"، من قبيل القياس على تلك الإمارة الشماليّة التي حكمها "بيت سافوي"، ومنها انطلقت حركة التحرير من النمسويّين تمهيداً للوحدة القوميّة الإيطاليّة. ويبدو أنّ نديم، الشابّ والقوميّ العربيّ المتحمّس، أصرّ بعد عودته على اعتمار "الفيصليّة" التي درج على لبسها حينذاك شبّان قوميّون عرب، وذلك وسط اندهاش أهل القرية ممّن لم يكونوا قد سمعوا بفيصل وغازي ولا لبسوا قبّعات من أيّ نوع.

كان لتلك المرويّات عن نديم ورحلته ممّا تداوله كثيراً أهل بيتنا، أن وسّعت مخيّلتي لبلد اسمه العراق يضجّ بصُورٍ ومعانٍ غائمة الدلالة إلاّ أنّها واضحة الوجهة، وما الوجهةُ تلك إلاّ العروبة ووحدة العرب التي يُحجّ إليهما هناك.

وبسبب علاقة بيتنا بالبعث، باتت أسماء نوري السعيد وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف أسماء بيتيّة: الأوّل شتمناه، والثاني والثالث أحببناهما قبل أن نكرههما. والمشاعر حيال العراقيّين مشاعر عراقيّةٌ، بمعنى أنّها قويّة وحادّة ومتقلّبة، تماماً كما المشاعر الرومنطيقيّة.

وبشيء من التعميم أسمح لنفسي بالقول إنّ العراقيّ أشدّ العرب رومنطيقيّةً، وهو ما نلمسه في قسوته ورقّته، وفي أغانيه وأشعاره، وفي تديّنه إذا تديّن وإلحاده متى ألحد. وهكذا، حين حصل انقلاب 14 تمّوز الجمهوريّ في 1958، شعرت بفرح في بيتنا مردّه إلى أنّ أصدقاء جمال عبد الناصر أطاحوا نوري السعيد، صديق كميل شمعون. وحين حصل انقلاب 14 رمضان 1963، وكان لي من العمر ما يتيح لفرحي أن يستقلّ عن فرح أهلي، أحسست أنّ العراق مصدرُ ثأرنا من الانفصال السوريّ وممّا اعتبرناه خيانة الشيوعيّين وقاسم للقوميّة والوحدة العربيّتين.

وجاء اهتمامي بالعراق من تعرّفي إلى عراقيّين كثيرين في بريطانيا، كان أوّلهم الصديق الراحل فالح عبد الرحمن، ولم يكن آخرهم الصديق كنعان مكيّة. ومن خلالهم  تحوّلت المعرفة بالعراق إلى أشباح وكوابيس تُروى عن حكم البعث وعن أفعال صدّام حسين – "السيّد النائب" ثمّ "السيّد الرئيس" ثمّ "السيّد الله".

ومن خلال تجارب سياسيّين وحزبيّين أتيح لي أن أعرفهم عن كثب، كالصديقين الراحلين هاني الفكيكي، وهو بعثيّ سابق، وعامر عبد الله، وهو شيوعيّ سابق، بتُّ أملك ما يشبه توثيق الفظاعات التي يرويها عراقيّون آخرون أقلّ ضلوعاً منهما في السياسة. فهنا يعثر السامع والناظر على تجارب شاملة تتعدّى السياسة والعقائد إلى آلام البشر الشخصيّة ومآسيهم.

والشمول المذكور مرآةٌ تعكس حقيقة نظام صدّام بوصفه أقرب نماذجنا العربيّة إلى التوتاليتاريّة. ففي ذاك اللامعقول بدا مشروعاً أن يسأل المرء نفسه (هل يوجد فعلاً هذا الكائن المدعو صدّام حسين أم أنّ الإرث الميثولوجيّ لما بين النهرين هو ما يحضّ العراقيّين على اختراعه كيما يؤسطروا حياتهم؟).

وجاءني العراق أيضاً من شعر كثير، تقاسمَ أبياته شعراء انجذبت إلى قصائدهم في هذه المرحلة من حياتي أو تلك، لكنّ المؤكّد أنّ أشدّهم أثراً كان بدر شاكر السيّاب الذي لا يزال الحبّ لعراقه ولجيكوره يلازمني حتّى اللحظة.

"كيف تطعم الديكتاتور؟".. طباخ صدام حسين يتحدث
لحظات رعب انتهت بـ50 دينار عراقي (ما يعادل 150 دولاراً في حينه)، وصدام حسين الذي يضحك ويبكي ويحاول إثبات ألا شبيه له، وصدام "الأفضل في عائلة التكريتي"، وحساء اللصوص أو "شوربة الحرامية" التكريتية، وقصة سميرة التي تركت زوجها لأجل صدام، والرجل الذي ظل واقفاً حين هرب الجميع، وغير ذلك.

"بعث العراق" ربما يكون الكتاب الأكثر تخصصاً في تأريخ ظاهرة البعث العراقي، وقد خصصت كتاباً آخر للبعث السوري. ما الذي يمكن أن يتعلمه قارئ من جيل الألفية الجديدة حول هذا التاريخ؟

 ما يمكنني التحدّث عنه هو ما تعلّمته أنا، وهو أنّ البعث كان أقوى جسورنا في المشرق العربيّ الآسيويّ إلى الكارثة التي لا نزال نرزح تحتها، كما كان، عربيّاً، ثاني أقوى جسورنا إليها بعد الناصريّة.

لقد جمع البعث بين حداثة الحزب والعقيدة وقدامة القبيلة والخرافة، ما جعله يُطبق علينا من جهات كثيرة. لكن ما يرعبني أنّ الدور الفظيع للبعث، بوصفه الطرف الذي صادر تاريخ العراق وسوريا، وأفسد البلدين وألغى احتمالاتهما، لا يستوقف الكثيرين بوصفه هذا، بل في أحيان كثيرة لا يستوقف بعض معارضي البعث وضحاياه ممّن لا زالوا يرونه حركة تحرّر أخطأت الوسيلة لكنّها لم تخطىء الهدف، أو يرونه قاطرة لهيمنة طائفيّة يُردّ عليها بهيمنة طائفيّة معاكسة.

 

هل خرج العراق من تداعيات حزب البعث، أم لا يزال يعاني؟

هذه أنظمة تدمّر الماضي والحاضر والمستقبل بيد واحدة: الماضي بكتابتها للتاريخ، والحاضر بقمعها وقهرها السكّان المواطنين، والمستقبل بتفتيتها المجتمع وسدّها باب الاحتمالات.

بهذا المعنى، لا أظنّ أنّ العراق يخرج "من تداعيات البعث" إلاّ بمباشرة واحدٍ من اثنين: إمّا مراجعة وطنيّة راديكاليّة صارمة تطال القواسم المشتركة بين البعث وخصومه، لا سيّما الأطراف الراديكاليّة الشيعيّة الموالية لإيران، أو تطوير الفيدراليّة العراقيّة وإكسابها مزيداً من الصدقيّة والجديّة، بحيث تبدأ كلّ واحدة من الجماعات حياتها السياسيّة في مواجهة أبناء جلدتها من قامعيها ومُضطهِديها بعيداً من التذرّع بالآخر الطائفيّ والإثنيّ. والخياران، للأسف، ضعيفان جدّاً.

 

هل كان يمكن لنظام البعث أن يسقط من دون غزو عسكري أميركي؟ هل كانت هناك طرق أخرى لإسقاطه؟

لا أظنّ ذلك، بدليل أنّ ذاك النظام عاش ما بين 1968 و2003، وخاض خلال تلك المرحلة عديد الحروب ولم يسقط. لكنّ هذا الواقع، على ما فيه من مأسويّة، لا يكفي لتبرير مبدأ التدخّل لإسقاط النظام، ولا يكفي خصوصاً لتبرير الأخطاء والحماقات الهائلة التي رافقت ذاك التدخّل.

 

 هل كان خاطئاً قرار "اجتثاث حزب البعث" الذي أصدره الحاكم الأميركي بول بريمر بعد سقوط النظام؟ وكيف يجب على العراقيين التعامل مع التركة الثقيلة للحزب؟

يصعب على من يسمّي نفسه ديمقراطيّاً أن يوافق على سلوكٍ أو إجراء اسمه "اجتثاث"، وبالنظر إلى تاريخ الأحقاد الطائفيّة التي رسّخها نظام صدّام، لم يكن من الصعب توقّع انقلاب ذاك الاجتثاث اجتثاثاً للسنّيّة السياسيّة في العراق.

فليكن بعثيّاً من يؤمن بـ"الوحدة والحريّة والاشتراكيّة"، ولا تكون يداه ملوّثتين بالدم والفساد. أمّا الحياة السياسيّة نفسها فتستطيع أن تتولّى تنظيف نفسها بنفسها. غير أنّ مبدأ كهذا يبدو اليوم بعيداً جداً بسبب التعفّن الذي يضرب الحياة السياسيّة والوطنيّة والإدارة الإيرانيّة النشطة لهذا التعفّن.

المؤرخ العراقي عادل بكوان: الميليشيات والفساد يهددان العراق
صدرت حديثاً عن دار "هاشيت أنطوان/ نوفل" النسخة المترجمة إلى العربية من كتاب المؤرخ وعالم الاجتماع العراقي-الفرنسي عادل بكوان. الكتاب صادر أساساً باللغة الفرنسية، وحمل بالعربية عنوان "العراق: قرن من الإفلاس من عام 1921 إلى اليوم"، وهو يوثق لمئة عام من تاريخ العراق الحديث. هنا حوار مع الكاتب.

 بعد أكثر من عشرين عاماً على سقوط البعث العراقي، لا يزال حضوره في الشارع العربي لافتاً، خصوصاً في الأردن ولبنان، حيث يمكن رؤية صور صدام حسين في كثير من الأماكن، كما أن "الترحم" على زمن صدام شائع على مواقع التواصل الاجتماعي. ما تفسيرك لهذه الظاهرة؟

لا أظنّ أنّ حضور البعث، كحزب وكأيديولوجيا هو الظاهرة اللافتة. اللافت أمران كثيراً ما يتقاطعان، أوّلهما شعور بالمظلوميّة السنيّة المحتقنة، وهو ما تتقاسمه الصداميّة مع الحركات الأصوليّة والراديكاليّة السنيّة على أنواعها. ومن هذه المظلوميّة تأتي فكرة التحدي ورد التحدي بوصفها "ديانة" أنتجها موت صدام وظروف إعدامه. وتزدهر نظرة كهذه على ضوء قراءة البعض مآسي سوريا ومآسي غزة بوصفها مآسي سنية لا يوجد طرف سني قويّ يرفعها عن كاهل السنّة.

أمّا الأمر الثاني فتلخّصه النتائج البائسة لتجربة العراق بعد تحريره من صدّام وحكمه، ما يرى البعض فيه سبباً وجيهاً للترحّم عليهما، إذ هل يُعقل احتمال كلّ تلك المآسي وبذل كلّ تلك الأكلاف للوصول إلى بلد على هذا النحو؟

 

يُعتبر العراق اليوم في أكثر فتراته السياسية ما بعد ٢٠٠٣ "استقراراً"، بعد سنوات من العنف والفوضى. ما التوازنات التي أرست هذا "الاستقرار" النسبي برأيك، وهل يمكن البناء عليه؟

لا أظنّ ذلك لأنّ هذا "الاستقرار" تعبير عن تجميد للحياة السياسيّة، وهو مقرون بجعل طهران مصدر التحكيم الأخير في الشأن الشيعيّ. أمّا عنصر الإزعاج الذي مثّلته انتفاضة أواخر 2019 فعُطّل بالقوّة، فيما المكوّنان الآخران، الكرديّ والعربيّ السنّي، يلزمان الحدود التي أملاها تقسيم العمل القائم.

 

تحضر في العراق أزمة إنتاج النخب السياسية السنية، في وقت يبدو أن التطرف والإرهاب يملآن، في أحيان كثيرة، الفراغ الذي يتركه غياب هذه النخب. ما سبب عدم قدرة العراق على إنتاج زعامة سنية منذ سقوط صدام، وهل الخيارات محدودة إلى هذه الدرجة؟

يشبه وضع السنية السياسيّة العراقيّة وضع المسيحية السياسية اللبنانية قبل خروج الأمن والجيش السوريين من لبنان سنة 2005، أي التهميش الذي يبتر العلاقة بالسياسة كما يبتر الحراك السياسيّ في داخل الجماعة المهمّشة.

وأظنّ، مع توسّع حالة المَيْلَشَة في العراق كما في عموم المشرق العربي، أن السياسة تغدو أقرب إلى الاستحالة، ولا يتسع المجال، إذا اتسع، إلاّ للمداخلات المتطرفة الإرهابية وشبه الإرهابية.

لقطة من الوثائقي
"مسرحة الرعب" لدى صدام حسين.. صناعة الديكتاتورية بأعواد المشانق
أثر هذه الاعدامات ترك صداه على أجيال عراقية لسنوات قادمة، اذا تكتب هاديا سعيد في كتابها "سنوات مع الخوف العراقي" أنها كانت تسمع كلمة الإعدام "تتكرر مع رشفة استكان الشاي ومجة السيجارة وأمام صواني الطعام وبين سطور ما نقرأ أو نكتب". وتتابع أن الخوف "التحم بالنبضة والنظرة"،

 تحل في العراق هذه الأيام الذكرى العاشرة على اجتياح داعش، والذكرى السابعة على تحرير مدينة الموصل. هنا تحضر إشكالية الأقليات ومصائرها، هل يمكن للعراق أن يتعافى ويستعيد تنوعه الإثني والطائفي. أم أن المسألة أبعد من داعش؟

كانت "داعش" تعبيراً مكثفاً وحاداً وشديد البدائية عن انسداد أبواب السياسة، وعن اتخاذ المنازعات شكلاً يجمع بين العنفية وتعدي الإطار الوطني. وواقع كهذا يُستأنف بأشكال ألطف، والجميع يدفعون أكلاف ذلك، لا سيما الأقليات الأضعف والأصغر، خصوصاً في ظل تماسك جماعة الأكثرية (الشيعيّة) وتسلحها وتواصلها المباشر مع إيران، فضلاً عن الوعي الطائفي النضالي لفصائلها.

 

في المسألة الكردية، كيف تقيم تجربة الحكم الذاتي وعلاقة أربيل بالحكومة الاتحادية في بغداد. وهل يشكل العنصر الاقتصادي مأزقاً لفكرة الاستقلال الكردي؟

هناك سياسة من التحايُل على الحقوق الفيدراليّة للكرد، والمالُ بعض أشكال هذا التحايُل الذي يستكمله الابتزاز الآيل إلى استضعاف الكرد عبر تعييرهم بعلاقاتهم مع الولايات المتّحدة واتّهامهم الذي لا يكلّ بعلاقات مع إسرائيل.

في الوقت ذاته، وهو مصدر لارتفاع أسهم التشاؤم، لم ينجح الكرد في بناء تجربة أرقى من تجارب العرب، تجربة تكون أقلّ قرابية واعتماداً على الرابط الدموي مع ما يتأدى عن ذلك من إضعاف للشفافيّة، أو أقدر على توحيدهم من السليمانيّة إلى أربيل في نموذج بديل واعد.

هذه حال مدعاة للأسى، لكن ليس لليأس، لظنّي أنها قابلة للإصلاح والاستدراك في زمن لا يطول كثيراً، أو أن هذا ما آمله وأرجوه.

 

كيف تقرأ الدور الإيراني في العراق؟ وهل ترى أن العراق يشكل جبهة جدية من جبهات محور الممانعة؟

لا نبالغ إذا قلنا إنّ الدور الإيرانيّ في العراق يعادل منع العراق من التشكّل. أما جرّه لأن يصير جبهة من جبهات الممانعة فجديته الأكبر تكمن في هذا الهدف بالضبط، أي في إبقائه بلداً متعثّراً ومتنازعاً داخلياً ومرتَهَناً لطهران، أمّا إذا كان المقصود بالجدية فعاليته العسكرية كجبهة ممانعة فهذا ما تحيط به شكوك كثيرة.

وفي هذا لا تُلام إيران بل يُلام العراقيّون الذين تسلّموا في 2003 بلداً كبيراً يملك شروط القوّة والغنى، فأهدوه إلى جيرانهم. وهي واقعة تنبّه مرة أخرى إلى مدى تغلّب الرابط المذهبيّ العابر للحدود في منطقة المشرق على الرابط الوطنيّ.

 

هل من دور تلعبه دول الخليج العربي في العراق لموازنة الحضور الإيراني؟

لا أعرف. أظن أنها، من خلال متابعة إعلامها وفي حدود ما هو متاح لها دبلوماسياً، تحاول ذلك.

العراق و5 قضايا عالقة منذ تحرير الموصل
لا تقتصر تركة التنظيم الإرهابي داخل العراق، على العبوات الناسفة والذخائر، بل تتجاوز ذلك إلى ملفات عالقة كثيرة، بينها ملف إعادة الإعمار وعودة النازحين وإنهاء محاكمة مقاتلي التنظيم، وحلّ معضلة مخيم "الهول" الذي يضم عائلات وأبناء وزوجات "داعش"، من دون أن ننسى خطر الخلايا النائمة للتنظيم التي لا تزال تشكّل تهديداً لأمن العراق والأمن العالمي.

بعد هجوم السابع من أكتوبر في إسرائيل، عاد إلى الواجهة الحديث عن الإخوان المسلمين في العراق، واتصالهم بالقضية الفلسطينية. هنا يحضرني سؤالان: الأول عن علاقة العراق بالقضية الفلسطينية وهل هي في صلب اهتمامات الشارع العراقي أم أنها مادة للاسثمار السياسي؟ والسؤال الثاني: هل ترى أن تجربة "الإخوان" ممكنة في عراق اليوم؟

بطبيعة الحال يتفاعل العراقيّون بقوّة، شأنهم شأن باقي المشارقة، مع القضية الفلسطينية. لكنني أظن، وفي البال تاريخ الحقبة الصدامية وما تلاها من أعمال ثأرية وعنصرية نزلت بفلسطينيي العراق، أنّ المسألة الطائفية هي التي تقرر اليوم هذا التفاعل، وهي التي توظفه بما يلائمها.

أليس من المريب أن البيئة التي هاجمت الفلسطينيّين في 2003 و2004 واتهمتهم بالصدامية كما أخذت على صدام إهداره أموال العراقيين على فلسطين والفلسطينيّين، هي التي تخوض اليوم معركة غزّة!؟ أمّا الإخوان المسلمون العراقيون فلا أملك اليوم ما يكفي من معلومات عن أحوالهم بما يتيح لي الرد على السؤال، لكنّني أظن أن فرصة لعب الإخوان دوراً أكبر متاحة وممكنة مبدئياً في ظل غياب قوى سياسية سنية منظمة وفي المناخات التي تطلقها حرب غزة ودور حركة حماس ذات الأصل الإخواني فيها.

إذا أجريتَ مراجعة نقدية لرؤيتك السياسية حول العراق، هل ترى أنك اخطأت في مكان ما؟ أين؟

بطبيعة الحال أخطأت كثيراً. فإذا كان المقصود أطوار الماضي، حين كنت متعاطفاً مع الناصرية والبعث ثم إبان ماركسيتي، فكلّ ما فعلته وقلته كان خطأ. وأمّا إذا كان القياس على وعيي الراهن، أي ما يعود إلى قرابة 45 عاماً إلى الوراء، فأظن أن الأخطاء لم تكن من نوع "إستراتيجيّ" إذا صحّ التعبير، بل طالت درجات الحماسة والاندفاع وسوء التقدير في بعض الأحيان.

 

برأيك هل يمكن للعراق أن يستقر ويأخذ سيادته الكاملة في ظل تجربة ديمقراطية رائدة، أم أن الأوان قد فات على ذلك؟

ليس هناك ما "يفوت" في ما أظن، لكن الحديث في المستقبل هو ما تعلمنا التجارب أن نتروى ونتردد كثيراً فيه. ما يمكن قوله إن تجارب كبرى فاتت وتعويضها يستلزم جهوداً جبارة لا يبدو لي أن ثمة ما يشير إليها أو يوحي بها راهناً.