خالد سليمان، كاتب وصحافي عراقي متخصص في قضايا البيئة والتغير المناخي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
خالد سليمان، كاتب وصحافي عراقي متخصص في قضايا البيئة والتغير المناخي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

منذ أكثر من 15 عاماً، يحمل الصحافي والخبير البيئي العراقي خالد سليمان،  همّ البيئة في بلده الأم وفي كوكب الأرض قاطبة.

كَتَبَ مئات المقالات في الصحافة العربية والدولية عن آثار تغير المناخ على العراق ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وظلّ يذكّر في المؤتمرات وعبر المنصات التي أتيحت له، بخطر تغير المناخ والتلوث على مستقبل الأنواع على كوكب الأرض.

في كتابه "حراس المياه"، حذّر سليمان من خطر الجفاف وآثار تغير المناخ في العراق، حين صدور الكتاب في عام 2020. دق ناقوس الخطر بسبب ما تتعرض له مصادر المياه في العراق من انتهاكات ومن ابتزاز سياسي.

في كتابه الآخر "ولادة المرض" (صدر في العام 2021 في خضمّ أزمة فيروس كورونا)، غاص في الآثار التي يخلفها احترار الكوكب على الصحة البشرية وظهور الأمراض والأوبئة. وفي العام ذاته صدر له "بريد المناخ"، وهو دليل صحافي لتغطية القضايا المتعلقة بالمناخ في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

اليوم، وبمناسبة صدور كتابه الجديد "الانقراض السادس بدأ من قريتي"، يحلّ خالد سليمان ضيفاً على "ارفع صوتك" لسؤاله عن هموم العراق المناخية والبيئية، وعن الانقراض السادس الذي بدأ من قريته في كردستان، على حدّ تعبيره.

الانقراض السادس بدأ من قريتك في كردستان. هل العراق حقاً في قلب التغير المناخي ومن أكثر الدول تأثراً به؟

نعم العراق من الدول الأكثر تأثراً بتغير المناخ حيث كثرت العواصف الغبارية، ارتفاع كبير في درجات الحرارة وتقلبات ملحوظة في أنماط الهطول المطري. ولكن هذا لا يعني بأن العراق حالة خاصة في المنطقة التي تأثرت بمجملها لآثار تغير المناخ. ف

ويعود السبب إلى أن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والعراق جزء منها، تتميز بمناخ جاف جراء طبيعتها شبه القاحلة، فغالبية أراضي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تفتقد الى الغطاء النباتي والمصادر الطبيعية المتجددة، أي أن غالبية الأراضي قاحلة أو شبه قاحلة، ما يجعلها أكثر عرضة لآثار تغير المناخ.

بالعودة إلى الحالة العراقية، يتعلق الأمر بإدارة غير مستدامة للمصادر الطبيعية، وبشكل الموارد المائية التي تأتيها من خارج الحدود الوطنية للبلاد، ناهيك عن الصناعة النفطية والانبعاثات الناجمة عنها، علماً أن إنتاج كل برميل للنفط يكلف برميلين من الماء. يضاف إلى ذلك سياسات الدول الجوار  المائية واللاعدالة المائية إن جاز الاستخدام، وذلك بسبب إنشاء سدود عملاقة على منابع نهري دجلة والفرات من قبل تركيا وإيران مما يحرم العراق من حقوقه المائية.

اختصاراً يمكن القول إن عوامل مناخية وبشرية وسياسية مجتمعة تجعل العراق ضعيفاً أمام آثار تغير المناخ.

جانب من نهر دجلة في منطقة الكاظمية في بغداد
نائب عراقي: سنخسر ثلثي أراضينا الزراعية جراء تشغيل سد تركي
قال رئيس كتلة بدر النيابية العراقية محمد ناجي الأحد إن العراق سيخسر نحو ثلثي أراضيه الزراعية إذا تم تفعيل سد أليسو الذي تبنيه تركيا على نهر دجلة.

وأضاف ناجي في مؤتمر صحافي إن تركيا "لا تعترف بحقوق العراق التاريخية والطبيعية بنهر دجلة، كما أنها لا تعترف بقواعد القانون الدولي".

ما المقصود بالانقراض السادس؟

حدثت خمسة انقراضات كبرى في تاريخ الأرض وكان الخامس قبل 66 مليون سنة جراء اصطدام كويكب عملاق بالأرض في موقع المكسيك الحالي، وانقرضت على أثرها الديناصورات على الأرض.

كانت جميع الانقراضات الشاملة بسبب عوامل طبيعية أو انفجارات كونية قريبة من سطح الأرض والبحار. ولم يبق من الأنواع جراء تلك الأحداث الكبرى سوى 5% من الأنواع (الحيوان والنبات)، بما في ذلك الحيوانات الفقارية العملاقة.

بحسب علماء الطبيعة والتنوع البيولوجي نحن نعيش ملامح الانقراض السادس اليوم وقد شهدت الأرض منذ 500 السنة الأخيرة انقراض أكثر من مليوني نوع وهذا رقم كبير جداً.

ويبدأ الانقراض السادس في عصر الهولوسين الذي يغطي الألف سنة الأخيرة في تاريخ الأرض، وهو عصر ظهور ملامح سيطرة الإنسان على الأرض وتدجين الأنواع البريّة.

 

تجادل في الكتاب في مسألة إذا كان الانقراض فعلا طبيعياً مرتبطاً بنظرية النشوء والتطور الدارونية أو هو من فعل الإنسان. هل نحن المسؤولون كبشر اليوم عن الانقراض السادس؟

أصحاب الرأي القائل بأن الانقراض مسار جديد للتطور، يستندون غالباً إلى نظرية النشوء والتطور، إذ أكد فيها عالم الأحياء البريطاني تشارلز داروين أن تشكل الأنواع (النبات والحيوان) مثل التشكل الجيولوجي للجبال والوديان والبحار، شأن طبيعي وترتبط أسباب بقائها أو انقراضها بما تنتقيه الطبيعة. أي أن الأنواع الجديدة، على اليابسة أو في المياه، ظهرت بتسلسل وببطء شديد، وتستمر بفضل امتلاكها أفضلية ما على الأنواع الأخرى التي تتنافس معها. أي أن الانقراض بموجب هذا التصور، شبه محتوم للأنواع الأقل تفضيلاً وشأناً.

في الأعوام التي كان يطوّر فيها داروين كتاباته عن سير الانقراض والانتقاء الطبيعي جنباً إلى جنب، كان قد قتل آخر زوج من طائر الأوك العظيم (البطريق الكبير) على يد صيادين آيسلنديين عام 1844 في إحدى جزر آيسلندا. وعلى رغم توثيق علماء الطيور البريطانيين ذلك الحدث المأساوي بعناية، إلا أنه لم يلفت اهتمام داروين الذي كان منهمكاً بوضع اللمسات الأخيرة على نظرية النشوء والتطور. وكانت أعداد هذا الطير الذي خانه الطيران، تُقدّر بالملايين على سواحل طرفي شمال المحيط الأطلسي، قبل أن يتعرض لإبادة جماعية على يد الصيادين الأوروبيين، تحديداً بعد استكشاف القارة الأميركية.

في الحقيقة، لم ينقرض هذا النوع من الطيور من تلقائه، بل تم القضاء عليه من قبل الصيادين والمستكشفين الأوروبيين بسبب مذاق لحمه الجيد. وقد اختفى طير "الدودو" في جزر المحيط الهندي للأسباب ذاتها، أي وصول المستعمرين إلى الأماكن النائية  والقضاء على الحيوانات من أجل الحصول على الغذاء ومصادر الوقود والطاقة. وبناءً على هذه القرائن يؤكد العلماء بأن الانقراض السادس يحصل ويجري بسبب الإنسان، وليس بسبب التطور الطبيعي.

سجل العراق أكثر المواسم جفافاً منذ 40 عاماً.
دراسة عراقية: التغير المناخي يعمّق من مأساة النساء
لا تتوقف المنظمات الدولية التحذّير من أثر تغير المناخ على العراق، وفيما تصيب تداعيات التغير المناخي المجتمعات الفقيرة تعاني النساء على نحو مضاعف نتيجة النزوح وما يصاحبه من الاضطرار للعمل والانقطاع عن الدراسة، فضلاً عن التحرش الجنسي وزواج القاصرات.

ما التحديات الرئيسة التي يواجهها العراق نتيجة للتغير المناخي وكيف يسهم العراق في "جريمة" الانقراض السادس؟

أي انقراض أو فقدان يحدث في أية زاوية على الأرض يؤثر على التوازن الإيكولوجي على الأرض بالكامل. بطبيعة الحال يمكن الحديث عن فقدان الأنواع في العراق وذلك بسبب التوسع العمراني على حساب النظم البيئية، بالإضافة إلى ندرة المياه والصيد الجائر والتلوث، والأنواع الغازية وارتفاع درجات الحرارة.

يمكن الاستشهاد بأمثلة كثيرة في هذا السياق، ففي محيط القرية التي ولدت وكبرت فيها، لاحظت من خلال بحثي وعملي الميداني فقدان الكثير من الأنواع التي شكلت جزءاً من ذاكرتي مع الأرض والبيئة، ولذلك عنوان كتابي "الانقراض السادس بدأ من قريتي".

كما تتعرض أنواع مائية للفقدان في شط العرب بسبب التلوث أو الصيد المفرط أو صعود المياه المالحة من الخليج إلى المياه العذبة، ناهيك عن تدمير النظام البيئي في الأهوار العراقية جراء تجفيف منابع المياه وغياب السياسات البيئية.

ولو أخذنا إقليم كُردستان كمثال، نرى أن هناك تدهوراً كبيراً في التنوع البيولوجي بسبب عدم وجود محميات طبيعية وتأسيس مدن مرتجلة على حساب البيئات الطبيعية، ما يؤدي إلى القضاء على التنوع البيولوجي.

 

ما الإجراءات التي يجب اتخاذها لتخفيف تأثيرات التغير المناخي على المجتمع والبيئة في العراق؟ وهل يمكن تفادي وقوع الانقراض السادس؟

إنشاء محميات طبيعية وتفعيل أو تجديد القوانين البيئية المتعلقة بالتنوع البيولوجي، ووضع الميزانية للإصلاح البيئي، وتجديد مناهج التعليم وكذلك العمل الإعلامي، إذ يلعب كل ذلك دوراً كبيراً في حماية الأنواع، خاصة أنها تسهم إسهاماً كبيراً في توفير الغذاء والحفاظ على الغطاء النباتي وكذلك حماية التربة.

 

هل تعتقد أن هناك جهوداً كافية تبذل في العراق، على صعيد الحكومة والناس، لمواجهة التحديات المتعلقة بالتغير المناخي؟

لا أعتقد بأن هناك سياسة عراقية واضحة المعالم بهذا الشأن، يمكن القول إن هناك تجهيل ما، وإلا لماذا لا تتحرك الحكومة ومؤسساتها تجاه الأزمات الناتجة عن تغير المناخ.

المشكلة أن الحكومة العراقية لا تحسب لآثار تغير المناخ حسابات صحية واقتصادية واجتماعية، فلو أخذنا الفاتورة الصحية التي يتحمل قطاع الصحة، تتجاوز تكلفتها في الأموال الأرواح تكلفة الإصلاح البيئي. ناهيك عن آثار أخرى مثل تدهور التربة وخروج أراض صالحة للزراعة والانتاج عن الخدمة، ما يزيد ثقل الآثار المناخية.

 

يشكل مناخ العراق تحدياً لأبنائه خصوصاً مع شح المياه والتلوث. هل الكوارث البيئية في العراق أسبابها سياسية؟

كما أشرت في البداية تجتمع عوامل كثيرة فيما خص التدهور الحاصل في العراق، فمن بين هذه الأسباب مناخية وتتعلق بالمناخ الإقليمي والعالمي ولا يستطيع العراق وحده مواجهته، إنما هناك أسباب محلية مثل الاستغلال غير المستدام للمصادر الطبيعية والصناعة النفطية والتكاثر السكاني والبنى التحتية القديمة والمهترئة للمدن العراقية، كل هذه تزيد من حجم الآثار المناخية. على سبيل المثال تفريغ المياه الآسنة والنفايات والمخلفات في الأنهار العذبة، أيضاً له تأثير كبير. نعم يتم كل هذا جراء سياسات خاطئة أو غياب السياسات.

 

هل هناك أنشطة أو مبادرات يقوم بها المواطنون العراقيون للمساهمة في مكافحة التغير المناخي ومنع انقراض الأنواع؟

باستثناء جهود في إقليم كُردستان تبذل من أجل التنوع الأحيائي، لا نرى شيئاً من هذا القبيل في مناطق العراق الأخرى، حيث الصيد الجائر وتدمير موائل الحيوانات والدعاية المجانية للحوم الحيوانات والطيور البرّية، جار في العراق كأن شيئاً لم يكن.

 

هل يمكن أن تشارك بعض الأمثلة على مشاريع ناجحة في العراق تهدف إلى التكيف مع التغير المناخي؟

هناك محاولات متواضعة مثل توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية أو التشجير أو حماية الأنواع، إنما الأمر محدود للغاية. التجاهل يطغي على كل شيء، لو دخلت إلى المطاعم العراقية ورأيت حجم التبذير في الغذاء أو قمت بتوثيق كميات الغذاء الهائلة التي تُلقى في النفايات، تدرك ما يعانيه البلد من ثقافة التجاهل البيئية.

 

ما أبرز التوصيات التي يمكنك تقديمها للسلطات في العراق لتعزيز الجهود المبذولة في مجال التكيف مع التغير المناخي؟

أهم خطوة تقوم بها السلطات العراقية حماية الأنهار ومصادر المياه العذبة من التلوث. ويقتضي ذلك تجديد البنى التحية للمدن، لأن التلوث يأتي من المدن والمؤسسات الصناعية والصحية والنشاطات التجارية.

أيضاً، إيقاف المشاريع السكنية العشوائية على حساب النظم البيئية وهي في الغالب مشاريع مملوكة لأصحاب للطبقة السياسية أو أصحاب النفوذ، والاستثمار في الطاقة المتجددة والتفكير التدريجي للتخلي عن النفط كمصدر وحيد لإدارة البلاد.

تتبخر نسبة كبيرة من المياه المخزونة جراء ارتفاع درجات الحرارة، يجب التفكير بآليات جديدة في تخزين المياه، وانشاء محميات طبيعية لحماية المزيد من فقدان الأنواع، وكذلك تجديد القوانين البيئية وإدخال موضوع تغير المناخ في مناهج التعليم من أجل إنشاء أجيال جديدة واعية بالمخاطر المناخية وسبل مواجهتها.

 

كيف يمكن للمجتمع الدولي دعم العراق في مواجهة تحديات التغير المناخي؟

العراق بدأ يعيش لحظة تعاف وهمية ويطالب بإنهاء بعثة الأمم المتحدة (يونامي)، فيما لا يزال هناك الكثير للعمل عليه من ناحية آثار تغير المناخ، ناهيك عن المجالات الأخرى. قد يقوض هذا الطلب كل الجهود التي من الممكن بذلها لمساعدة العراق ووضع إستراتيجية بيئية له، خاصة في ظل وجود مؤسسات غير قادرة على تقييم الآثار ووضع الحلول المستقبلية.

 

هل يمكن توضيح الأثر المتوقع للتغير المناخي على الاقتصاد العراقي في المقبل من السنين؟ 

العواصف الغبارية وحدها تكلف العراق خسائر تقدر بمليارات الدولارات. في العادة يتم تقييم الخسائر عبر توقف حركة النقل والطيران والموانئ، ولكن ماذا بخصوص الأضرار الصحية وكذلك العواقب الخطيرة التي تتركها في التربة؟

ومن ناحية المياه، بدأ العراق يخسر الكثير من منتوجاته الزراعية. الأرز (نوع العنبر) على سبيل المثال وكذلك السمسم ومنتوجات أخرى. وقد تتسع القائمة وتشمل أنواعاً أخرى من دون سياسة بيئية من شأنها تقليل الخسائر.

 

ما الرسالة الرئيسية التي ترغب بإيصالها من خلال الكتاب؟

رسالة الكتاب ليس للعراق فحسب، بل إلى مجمل العالم العربي، وهي أننا نعيش على أرض لا تشاركنا الأنواع الحياة فقط، بل تسهم في توفير غذائنا وبقائنا، أي أن الأرض ليست لنا وحدنا؛ لذلك يجب حمايتها وحماية الأنواع عليها.

علينا نحن الصحافيون والناشطون إيصال مثل هذه الحقيقة الى المجتمعات واستعادة الشراكة بين المجتمع البشري وبين مجتمعات الأرض الأخرى. الحياة هي مثل سلاسل الغذاء، لو فقدنا حلقة واحدة منها، يختل توازن الحياة على الأرض.

 

هل لا يزال هناك في العالم العربي قراء مهتمون بالمواضيع البيئية في رأيك؟ أم أن الكتاب موجه للمتخصصين؟

مع الأسف القراءة في حالة يرثى لها في العالم العربي، وقد أسهمت منصات التواصل الاجتماعي بشكل كبير في ذلك، حيث هيمنت مقاطع الفيديو القصيرة والأخبار الخاطئة والمضللة على عقول الناس. لقد أصبحت الإثارة أسلوباً رائجاً لترويج المحتوى الصحافي، والمسألة الإيكولوجية لا تحتمل الإثارة".

مواضيع ذات صلة:

صورة مركبة للكاتب اللبناني حازم صاغية- ارفع صوتك
صورة مركبة للكاتب اللبناني حازم صاغية- ارفع صوتك

في طفولته، تسلّل العراق إلى الكاتب والمثقف اللبناني حازم صاغية من باب "العروبة ووحدة العرب" وبسبب علاقة البيت الذي تربّى فيه بحزب البعث.

صاغية المولود عام 1951 في لبنان، حمل العراق في انشغالاته الثقافية والسياسية ما يقارب السبعين عاماً، وأسَالَ في الكتابة عن العراق وأحواله حبراً كثيراً، ترجمه في مقالات وتحليلات نقدية وكتب خصصها للعراق وتاريخه ومآلات مستقبله.

في  2003 بعد سقوط نظام صدّام حسين، أصدر صاغية كتابه "بعث العراق: سلطة صدّام قياماً وحطاماً"، الذي عرض حكاية حزب البعث في العراق منذ بداياته الأولى عام 1949 حتى سقوط النظام.

كما عرض تحليلاً لسياسات البعث ودوره في إحكام قبضته على الحكم في العراق وتأثيره "الكارثي" بحسب وصف صاغية، على حياة ملايين العراقيين.

"العراق أبعد من العراق في أسئلته وتحدياته، كما انطوت عليها قصة البعث- قصتنا جميعاً بمعنى من المعاني"، يكتب صاغية في مقدمة كتابه. حول هذا العراق، الأبعد من نفسه، يحلّ صاغية ضيفاً على "ارفع صوتك" في حوار موسّع، يتخلله قراءة نقدية لماضي العراق وحاضره، ومحاولة استشراف للتحديات المستقبلية التي تنتظره.

 

من أين حضر "الهمّ العراقي" إلى حازم صاغية، ولماذا يشغل حيزاً ليس بقليل من كتاباته؟

جاءني العراق من أمكنة كثيرة. أمّا المكان الأوّل فتلك القصص التي كانت تُروى في بيتنا عن قريب لنا، هو الكاتب الناصريّ اللاحق والراحل نديم البيطار. فهو سافر إلى العراق، ولم أكن قد وُلدت، طلباً للدراسة والعيش في ظلال الملك غازي بن فيصل الأوّل الذي شبّهتْه الخفّة والحماسة العربيّتان بغاريبالدي، وقيل إنّه سيوحّد "أمّتنا" على النحو الذي وُحّدت فيه إيطاليا.

فإبّان عهد غازي القصير وُصف العراق بأنّه "بيادمونت العرب"، من قبيل القياس على تلك الإمارة الشماليّة التي حكمها "بيت سافوي"، ومنها انطلقت حركة التحرير من النمسويّين تمهيداً للوحدة القوميّة الإيطاليّة. ويبدو أنّ نديم، الشابّ والقوميّ العربيّ المتحمّس، أصرّ بعد عودته على اعتمار "الفيصليّة" التي درج على لبسها حينذاك شبّان قوميّون عرب، وذلك وسط اندهاش أهل القرية ممّن لم يكونوا قد سمعوا بفيصل وغازي ولا لبسوا قبّعات من أيّ نوع.

كان لتلك المرويّات عن نديم ورحلته ممّا تداوله كثيراً أهل بيتنا، أن وسّعت مخيّلتي لبلد اسمه العراق يضجّ بصُورٍ ومعانٍ غائمة الدلالة إلاّ أنّها واضحة الوجهة، وما الوجهةُ تلك إلاّ العروبة ووحدة العرب التي يُحجّ إليهما هناك.

وبسبب علاقة بيتنا بالبعث، باتت أسماء نوري السعيد وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف أسماء بيتيّة: الأوّل شتمناه، والثاني والثالث أحببناهما قبل أن نكرههما. والمشاعر حيال العراقيّين مشاعر عراقيّةٌ، بمعنى أنّها قويّة وحادّة ومتقلّبة، تماماً كما المشاعر الرومنطيقيّة.

وبشيء من التعميم أسمح لنفسي بالقول إنّ العراقيّ أشدّ العرب رومنطيقيّةً، وهو ما نلمسه في قسوته ورقّته، وفي أغانيه وأشعاره، وفي تديّنه إذا تديّن وإلحاده متى ألحد. وهكذا، حين حصل انقلاب 14 تمّوز الجمهوريّ في 1958، شعرت بفرح في بيتنا مردّه إلى أنّ أصدقاء جمال عبد الناصر أطاحوا نوري السعيد، صديق كميل شمعون. وحين حصل انقلاب 14 رمضان 1963، وكان لي من العمر ما يتيح لفرحي أن يستقلّ عن فرح أهلي، أحسست أنّ العراق مصدرُ ثأرنا من الانفصال السوريّ وممّا اعتبرناه خيانة الشيوعيّين وقاسم للقوميّة والوحدة العربيّتين.

وجاء اهتمامي بالعراق من تعرّفي إلى عراقيّين كثيرين في بريطانيا، كان أوّلهم الصديق الراحل فالح عبد الرحمن، ولم يكن آخرهم الصديق كنعان مكيّة. ومن خلالهم  تحوّلت المعرفة بالعراق إلى أشباح وكوابيس تُروى عن حكم البعث وعن أفعال صدّام حسين – "السيّد النائب" ثمّ "السيّد الرئيس" ثمّ "السيّد الله".

ومن خلال تجارب سياسيّين وحزبيّين أتيح لي أن أعرفهم عن كثب، كالصديقين الراحلين هاني الفكيكي، وهو بعثيّ سابق، وعامر عبد الله، وهو شيوعيّ سابق، بتُّ أملك ما يشبه توثيق الفظاعات التي يرويها عراقيّون آخرون أقلّ ضلوعاً منهما في السياسة. فهنا يعثر السامع والناظر على تجارب شاملة تتعدّى السياسة والعقائد إلى آلام البشر الشخصيّة ومآسيهم.

والشمول المذكور مرآةٌ تعكس حقيقة نظام صدّام بوصفه أقرب نماذجنا العربيّة إلى التوتاليتاريّة. ففي ذاك اللامعقول بدا مشروعاً أن يسأل المرء نفسه (هل يوجد فعلاً هذا الكائن المدعو صدّام حسين أم أنّ الإرث الميثولوجيّ لما بين النهرين هو ما يحضّ العراقيّين على اختراعه كيما يؤسطروا حياتهم؟).

وجاءني العراق أيضاً من شعر كثير، تقاسمَ أبياته شعراء انجذبت إلى قصائدهم في هذه المرحلة من حياتي أو تلك، لكنّ المؤكّد أنّ أشدّهم أثراً كان بدر شاكر السيّاب الذي لا يزال الحبّ لعراقه ولجيكوره يلازمني حتّى اللحظة.

"كيف تطعم الديكتاتور؟".. طباخ صدام حسين يتحدث
لحظات رعب انتهت بـ50 دينار عراقي (ما يعادل 150 دولاراً في حينه)، وصدام حسين الذي يضحك ويبكي ويحاول إثبات ألا شبيه له، وصدام "الأفضل في عائلة التكريتي"، وحساء اللصوص أو "شوربة الحرامية" التكريتية، وقصة سميرة التي تركت زوجها لأجل صدام، والرجل الذي ظل واقفاً حين هرب الجميع، وغير ذلك.

"بعث العراق" ربما يكون الكتاب الأكثر تخصصاً في تأريخ ظاهرة البعث العراقي، وقد خصصت كتاباً آخر للبعث السوري. ما الذي يمكن أن يتعلمه قارئ من جيل الألفية الجديدة حول هذا التاريخ؟

 ما يمكنني التحدّث عنه هو ما تعلّمته أنا، وهو أنّ البعث كان أقوى جسورنا في المشرق العربيّ الآسيويّ إلى الكارثة التي لا نزال نرزح تحتها، كما كان، عربيّاً، ثاني أقوى جسورنا إليها بعد الناصريّة.

لقد جمع البعث بين حداثة الحزب والعقيدة وقدامة القبيلة والخرافة، ما جعله يُطبق علينا من جهات كثيرة. لكن ما يرعبني أنّ الدور الفظيع للبعث، بوصفه الطرف الذي صادر تاريخ العراق وسوريا، وأفسد البلدين وألغى احتمالاتهما، لا يستوقف الكثيرين بوصفه هذا، بل في أحيان كثيرة لا يستوقف بعض معارضي البعث وضحاياه ممّن لا زالوا يرونه حركة تحرّر أخطأت الوسيلة لكنّها لم تخطىء الهدف، أو يرونه قاطرة لهيمنة طائفيّة يُردّ عليها بهيمنة طائفيّة معاكسة.

 

هل خرج العراق من تداعيات حزب البعث، أم لا يزال يعاني؟

هذه أنظمة تدمّر الماضي والحاضر والمستقبل بيد واحدة: الماضي بكتابتها للتاريخ، والحاضر بقمعها وقهرها السكّان المواطنين، والمستقبل بتفتيتها المجتمع وسدّها باب الاحتمالات.

بهذا المعنى، لا أظنّ أنّ العراق يخرج "من تداعيات البعث" إلاّ بمباشرة واحدٍ من اثنين: إمّا مراجعة وطنيّة راديكاليّة صارمة تطال القواسم المشتركة بين البعث وخصومه، لا سيّما الأطراف الراديكاليّة الشيعيّة الموالية لإيران، أو تطوير الفيدراليّة العراقيّة وإكسابها مزيداً من الصدقيّة والجديّة، بحيث تبدأ كلّ واحدة من الجماعات حياتها السياسيّة في مواجهة أبناء جلدتها من قامعيها ومُضطهِديها بعيداً من التذرّع بالآخر الطائفيّ والإثنيّ. والخياران، للأسف، ضعيفان جدّاً.

 

هل كان يمكن لنظام البعث أن يسقط من دون غزو عسكري أميركي؟ هل كانت هناك طرق أخرى لإسقاطه؟

لا أظنّ ذلك، بدليل أنّ ذاك النظام عاش ما بين 1968 و2003، وخاض خلال تلك المرحلة عديد الحروب ولم يسقط. لكنّ هذا الواقع، على ما فيه من مأسويّة، لا يكفي لتبرير مبدأ التدخّل لإسقاط النظام، ولا يكفي خصوصاً لتبرير الأخطاء والحماقات الهائلة التي رافقت ذاك التدخّل.

 

 هل كان خاطئاً قرار "اجتثاث حزب البعث" الذي أصدره الحاكم الأميركي بول بريمر بعد سقوط النظام؟ وكيف يجب على العراقيين التعامل مع التركة الثقيلة للحزب؟

يصعب على من يسمّي نفسه ديمقراطيّاً أن يوافق على سلوكٍ أو إجراء اسمه "اجتثاث"، وبالنظر إلى تاريخ الأحقاد الطائفيّة التي رسّخها نظام صدّام، لم يكن من الصعب توقّع انقلاب ذاك الاجتثاث اجتثاثاً للسنّيّة السياسيّة في العراق.

فليكن بعثيّاً من يؤمن بـ"الوحدة والحريّة والاشتراكيّة"، ولا تكون يداه ملوّثتين بالدم والفساد. أمّا الحياة السياسيّة نفسها فتستطيع أن تتولّى تنظيف نفسها بنفسها. غير أنّ مبدأ كهذا يبدو اليوم بعيداً جداً بسبب التعفّن الذي يضرب الحياة السياسيّة والوطنيّة والإدارة الإيرانيّة النشطة لهذا التعفّن.

المؤرخ العراقي عادل بكوان: الميليشيات والفساد يهددان العراق
صدرت حديثاً عن دار "هاشيت أنطوان/ نوفل" النسخة المترجمة إلى العربية من كتاب المؤرخ وعالم الاجتماع العراقي-الفرنسي عادل بكوان. الكتاب صادر أساساً باللغة الفرنسية، وحمل بالعربية عنوان "العراق: قرن من الإفلاس من عام 1921 إلى اليوم"، وهو يوثق لمئة عام من تاريخ العراق الحديث. هنا حوار مع الكاتب.

 بعد أكثر من عشرين عاماً على سقوط البعث العراقي، لا يزال حضوره في الشارع العربي لافتاً، خصوصاً في الأردن ولبنان، حيث يمكن رؤية صور صدام حسين في كثير من الأماكن، كما أن "الترحم" على زمن صدام شائع على مواقع التواصل الاجتماعي. ما تفسيرك لهذه الظاهرة؟

لا أظنّ أنّ حضور البعث، كحزب وكأيديولوجيا هو الظاهرة اللافتة. اللافت أمران كثيراً ما يتقاطعان، أوّلهما شعور بالمظلوميّة السنيّة المحتقنة، وهو ما تتقاسمه الصداميّة مع الحركات الأصوليّة والراديكاليّة السنيّة على أنواعها. ومن هذه المظلوميّة تأتي فكرة التحدي ورد التحدي بوصفها "ديانة" أنتجها موت صدام وظروف إعدامه. وتزدهر نظرة كهذه على ضوء قراءة البعض مآسي سوريا ومآسي غزة بوصفها مآسي سنية لا يوجد طرف سني قويّ يرفعها عن كاهل السنّة.

أمّا الأمر الثاني فتلخّصه النتائج البائسة لتجربة العراق بعد تحريره من صدّام وحكمه، ما يرى البعض فيه سبباً وجيهاً للترحّم عليهما، إذ هل يُعقل احتمال كلّ تلك المآسي وبذل كلّ تلك الأكلاف للوصول إلى بلد على هذا النحو؟

 

يُعتبر العراق اليوم في أكثر فتراته السياسية ما بعد ٢٠٠٣ "استقراراً"، بعد سنوات من العنف والفوضى. ما التوازنات التي أرست هذا "الاستقرار" النسبي برأيك، وهل يمكن البناء عليه؟

لا أظنّ ذلك لأنّ هذا "الاستقرار" تعبير عن تجميد للحياة السياسيّة، وهو مقرون بجعل طهران مصدر التحكيم الأخير في الشأن الشيعيّ. أمّا عنصر الإزعاج الذي مثّلته انتفاضة أواخر 2019 فعُطّل بالقوّة، فيما المكوّنان الآخران، الكرديّ والعربيّ السنّي، يلزمان الحدود التي أملاها تقسيم العمل القائم.

 

تحضر في العراق أزمة إنتاج النخب السياسية السنية، في وقت يبدو أن التطرف والإرهاب يملآن، في أحيان كثيرة، الفراغ الذي يتركه غياب هذه النخب. ما سبب عدم قدرة العراق على إنتاج زعامة سنية منذ سقوط صدام، وهل الخيارات محدودة إلى هذه الدرجة؟

يشبه وضع السنية السياسيّة العراقيّة وضع المسيحية السياسية اللبنانية قبل خروج الأمن والجيش السوريين من لبنان سنة 2005، أي التهميش الذي يبتر العلاقة بالسياسة كما يبتر الحراك السياسيّ في داخل الجماعة المهمّشة.

وأظنّ، مع توسّع حالة المَيْلَشَة في العراق كما في عموم المشرق العربي، أن السياسة تغدو أقرب إلى الاستحالة، ولا يتسع المجال، إذا اتسع، إلاّ للمداخلات المتطرفة الإرهابية وشبه الإرهابية.

"مسرحة الرعب" لدى صدام حسين.. صناعة الديكتاتورية بأعواد المشانق
أثر هذه الاعدامات ترك صداه على أجيال عراقية لسنوات قادمة، اذا تكتب هاديا سعيد في كتابها "سنوات مع الخوف العراقي" أنها كانت تسمع كلمة الإعدام "تتكرر مع رشفة استكان الشاي ومجة السيجارة وأمام صواني الطعام وبين سطور ما نقرأ أو نكتب". وتتابع أن الخوف "التحم بالنبضة والنظرة"،

 تحل في العراق هذه الأيام الذكرى العاشرة على اجتياح داعش، والذكرى السابعة على تحرير مدينة الموصل. هنا تحضر إشكالية الأقليات ومصائرها، هل يمكن للعراق أن يتعافى ويستعيد تنوعه الإثني والطائفي. أم أن المسألة أبعد من داعش؟

كانت "داعش" تعبيراً مكثفاً وحاداً وشديد البدائية عن انسداد أبواب السياسة، وعن اتخاذ المنازعات شكلاً يجمع بين العنفية وتعدي الإطار الوطني. وواقع كهذا يُستأنف بأشكال ألطف، والجميع يدفعون أكلاف ذلك، لا سيما الأقليات الأضعف والأصغر، خصوصاً في ظل تماسك جماعة الأكثرية (الشيعيّة) وتسلحها وتواصلها المباشر مع إيران، فضلاً عن الوعي الطائفي النضالي لفصائلها.

 

في المسألة الكردية، كيف تقيم تجربة الحكم الذاتي وعلاقة أربيل بالحكومة الاتحادية في بغداد. وهل يشكل العنصر الاقتصادي مأزقاً لفكرة الاستقلال الكردي؟

هناك سياسة من التحايُل على الحقوق الفيدراليّة للكرد، والمالُ بعض أشكال هذا التحايُل الذي يستكمله الابتزاز الآيل إلى استضعاف الكرد عبر تعييرهم بعلاقاتهم مع الولايات المتّحدة واتّهامهم الذي لا يكلّ بعلاقات مع إسرائيل.

في الوقت ذاته، وهو مصدر لارتفاع أسهم التشاؤم، لم ينجح الكرد في بناء تجربة أرقى من تجارب العرب، تجربة تكون أقلّ قرابية واعتماداً على الرابط الدموي مع ما يتأدى عن ذلك من إضعاف للشفافيّة، أو أقدر على توحيدهم من السليمانيّة إلى أربيل في نموذج بديل واعد.

هذه حال مدعاة للأسى، لكن ليس لليأس، لظنّي أنها قابلة للإصلاح والاستدراك في زمن لا يطول كثيراً، أو أن هذا ما آمله وأرجوه.

 

كيف تقرأ الدور الإيراني في العراق؟ وهل ترى أن العراق يشكل جبهة جدية من جبهات محور الممانعة؟

لا نبالغ إذا قلنا إنّ الدور الإيرانيّ في العراق يعادل منع العراق من التشكّل. أما جرّه لأن يصير جبهة من جبهات الممانعة فجديته الأكبر تكمن في هذا الهدف بالضبط، أي في إبقائه بلداً متعثّراً ومتنازعاً داخلياً ومرتَهَناً لطهران، أمّا إذا كان المقصود بالجدية فعاليته العسكرية كجبهة ممانعة فهذا ما تحيط به شكوك كثيرة.

وفي هذا لا تُلام إيران بل يُلام العراقيّون الذين تسلّموا في 2003 بلداً كبيراً يملك شروط القوّة والغنى، فأهدوه إلى جيرانهم. وهي واقعة تنبّه مرة أخرى إلى مدى تغلّب الرابط المذهبيّ العابر للحدود في منطقة المشرق على الرابط الوطنيّ.

 

هل من دور تلعبه دول الخليج العربي في العراق لموازنة الحضور الإيراني؟

لا أعرف. أظن أنها، من خلال متابعة إعلامها وفي حدود ما هو متاح لها دبلوماسياً، تحاول ذلك.

العراق و5 قضايا عالقة منذ تحرير الموصل
لا تقتصر تركة التنظيم الإرهابي داخل العراق، على العبوات الناسفة والذخائر، بل تتجاوز ذلك إلى ملفات عالقة كثيرة، بينها ملف إعادة الإعمار وعودة النازحين وإنهاء محاكمة مقاتلي التنظيم، وحلّ معضلة مخيم "الهول" الذي يضم عائلات وأبناء وزوجات "داعش"، من دون أن ننسى خطر الخلايا النائمة للتنظيم التي لا تزال تشكّل تهديداً لأمن العراق والأمن العالمي.

بعد هجوم السابع من أكتوبر في إسرائيل، عاد إلى الواجهة الحديث عن الإخوان المسلمين في العراق، واتصالهم بالقضية الفلسطينية. هنا يحضرني سؤالان: الأول عن علاقة العراق بالقضية الفلسطينية وهل هي في صلب اهتمامات الشارع العراقي أم أنها مادة للاسثمار السياسي؟ والسؤال الثاني: هل ترى أن تجربة "الإخوان" ممكنة في عراق اليوم؟

بطبيعة الحال يتفاعل العراقيّون بقوّة، شأنهم شأن باقي المشارقة، مع القضية الفلسطينية. لكنني أظن، وفي البال تاريخ الحقبة الصدامية وما تلاها من أعمال ثأرية وعنصرية نزلت بفلسطينيي العراق، أنّ المسألة الطائفية هي التي تقرر اليوم هذا التفاعل، وهي التي توظفه بما يلائمها.

أليس من المريب أن البيئة التي هاجمت الفلسطينيّين في 2003 و2004 واتهمتهم بالصدامية كما أخذت على صدام إهداره أموال العراقيين على فلسطين والفلسطينيّين، هي التي تخوض اليوم معركة غزّة!؟ أمّا الإخوان المسلمون العراقيون فلا أملك اليوم ما يكفي من معلومات عن أحوالهم بما يتيح لي الرد على السؤال، لكنّني أظن أن فرصة لعب الإخوان دوراً أكبر متاحة وممكنة مبدئياً في ظل غياب قوى سياسية سنية منظمة وفي المناخات التي تطلقها حرب غزة ودور حركة حماس ذات الأصل الإخواني فيها.

إذا أجريتَ مراجعة نقدية لرؤيتك السياسية حول العراق، هل ترى أنك اخطأت في مكان ما؟ أين؟

بطبيعة الحال أخطأت كثيراً. فإذا كان المقصود أطوار الماضي، حين كنت متعاطفاً مع الناصرية والبعث ثم إبان ماركسيتي، فكلّ ما فعلته وقلته كان خطأ. وأمّا إذا كان القياس على وعيي الراهن، أي ما يعود إلى قرابة 45 عاماً إلى الوراء، فأظن أن الأخطاء لم تكن من نوع "إستراتيجيّ" إذا صحّ التعبير، بل طالت درجات الحماسة والاندفاع وسوء التقدير في بعض الأحيان.

 

برأيك هل يمكن للعراق أن يستقر ويأخذ سيادته الكاملة في ظل تجربة ديمقراطية رائدة، أم أن الأوان قد فات على ذلك؟

ليس هناك ما "يفوت" في ما أظن، لكن الحديث في المستقبل هو ما تعلمنا التجارب أن نتروى ونتردد كثيراً فيه. ما يمكن قوله إن تجارب كبرى فاتت وتعويضها يستلزم جهوداً جبارة لا يبدو لي أن ثمة ما يشير إليها أو يوحي بها راهناً.