منذ أكثر من 15 عاماً، يحمل الصحافي والخبير البيئي العراقي خالد سليمان، همّ البيئة في بلده الأم وفي كوكب الأرض قاطبة.
كَتَبَ مئات المقالات في الصحافة العربية والدولية عن آثار تغير المناخ على العراق ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وظلّ يذكّر في المؤتمرات وعبر المنصات التي أتيحت له، بخطر تغير المناخ والتلوث على مستقبل الأنواع على كوكب الأرض.
في كتابه "حراس المياه"، حذّر سليمان من خطر الجفاف وآثار تغير المناخ في العراق، حين صدور الكتاب في عام 2020. دق ناقوس الخطر بسبب ما تتعرض له مصادر المياه في العراق من انتهاكات ومن ابتزاز سياسي.
في كتابه الآخر "ولادة المرض" (صدر في العام 2021 في خضمّ أزمة فيروس كورونا)، غاص في الآثار التي يخلفها احترار الكوكب على الصحة البشرية وظهور الأمراض والأوبئة. وفي العام ذاته صدر له "بريد المناخ"، وهو دليل صحافي لتغطية القضايا المتعلقة بالمناخ في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
اليوم، وبمناسبة صدور كتابه الجديد "الانقراض السادس بدأ من قريتي"، يحلّ خالد سليمان ضيفاً على "ارفع صوتك" لسؤاله عن هموم العراق المناخية والبيئية، وعن الانقراض السادس الذي بدأ من قريته في كردستان، على حدّ تعبيره.
الانقراض السادس بدأ من قريتك في كردستان. هل العراق حقاً في قلب التغير المناخي ومن أكثر الدول تأثراً به؟
نعم العراق من الدول الأكثر تأثراً بتغير المناخ حيث كثرت العواصف الغبارية، ارتفاع كبير في درجات الحرارة وتقلبات ملحوظة في أنماط الهطول المطري. ولكن هذا لا يعني بأن العراق حالة خاصة في المنطقة التي تأثرت بمجملها لآثار تغير المناخ. ف
ويعود السبب إلى أن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والعراق جزء منها، تتميز بمناخ جاف جراء طبيعتها شبه القاحلة، فغالبية أراضي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تفتقد الى الغطاء النباتي والمصادر الطبيعية المتجددة، أي أن غالبية الأراضي قاحلة أو شبه قاحلة، ما يجعلها أكثر عرضة لآثار تغير المناخ.
بالعودة إلى الحالة العراقية، يتعلق الأمر بإدارة غير مستدامة للمصادر الطبيعية، وبشكل الموارد المائية التي تأتيها من خارج الحدود الوطنية للبلاد، ناهيك عن الصناعة النفطية والانبعاثات الناجمة عنها، علماً أن إنتاج كل برميل للنفط يكلف برميلين من الماء. يضاف إلى ذلك سياسات الدول الجوار المائية واللاعدالة المائية إن جاز الاستخدام، وذلك بسبب إنشاء سدود عملاقة على منابع نهري دجلة والفرات من قبل تركيا وإيران مما يحرم العراق من حقوقه المائية.
اختصاراً يمكن القول إن عوامل مناخية وبشرية وسياسية مجتمعة تجعل العراق ضعيفاً أمام آثار تغير المناخ.
وأضاف ناجي في مؤتمر صحافي إن تركيا "لا تعترف بحقوق العراق التاريخية والطبيعية بنهر دجلة، كما أنها لا تعترف بقواعد القانون الدولي".
ما المقصود بالانقراض السادس؟
حدثت خمسة انقراضات كبرى في تاريخ الأرض وكان الخامس قبل 66 مليون سنة جراء اصطدام كويكب عملاق بالأرض في موقع المكسيك الحالي، وانقرضت على أثرها الديناصورات على الأرض.
كانت جميع الانقراضات الشاملة بسبب عوامل طبيعية أو انفجارات كونية قريبة من سطح الأرض والبحار. ولم يبق من الأنواع جراء تلك الأحداث الكبرى سوى 5% من الأنواع (الحيوان والنبات)، بما في ذلك الحيوانات الفقارية العملاقة.
بحسب علماء الطبيعة والتنوع البيولوجي نحن نعيش ملامح الانقراض السادس اليوم وقد شهدت الأرض منذ 500 السنة الأخيرة انقراض أكثر من مليوني نوع وهذا رقم كبير جداً.
ويبدأ الانقراض السادس في عصر الهولوسين الذي يغطي الألف سنة الأخيرة في تاريخ الأرض، وهو عصر ظهور ملامح سيطرة الإنسان على الأرض وتدجين الأنواع البريّة.
تجادل في الكتاب في مسألة إذا كان الانقراض فعلا طبيعياً مرتبطاً بنظرية النشوء والتطور الدارونية أو هو من فعل الإنسان. هل نحن المسؤولون كبشر اليوم عن الانقراض السادس؟
أصحاب الرأي القائل بأن الانقراض مسار جديد للتطور، يستندون غالباً إلى نظرية النشوء والتطور، إذ أكد فيها عالم الأحياء البريطاني تشارلز داروين أن تشكل الأنواع (النبات والحيوان) مثل التشكل الجيولوجي للجبال والوديان والبحار، شأن طبيعي وترتبط أسباب بقائها أو انقراضها بما تنتقيه الطبيعة. أي أن الأنواع الجديدة، على اليابسة أو في المياه، ظهرت بتسلسل وببطء شديد، وتستمر بفضل امتلاكها أفضلية ما على الأنواع الأخرى التي تتنافس معها. أي أن الانقراض بموجب هذا التصور، شبه محتوم للأنواع الأقل تفضيلاً وشأناً.
في الأعوام التي كان يطوّر فيها داروين كتاباته عن سير الانقراض والانتقاء الطبيعي جنباً إلى جنب، كان قد قتل آخر زوج من طائر الأوك العظيم (البطريق الكبير) على يد صيادين آيسلنديين عام 1844 في إحدى جزر آيسلندا. وعلى رغم توثيق علماء الطيور البريطانيين ذلك الحدث المأساوي بعناية، إلا أنه لم يلفت اهتمام داروين الذي كان منهمكاً بوضع اللمسات الأخيرة على نظرية النشوء والتطور. وكانت أعداد هذا الطير الذي خانه الطيران، تُقدّر بالملايين على سواحل طرفي شمال المحيط الأطلسي، قبل أن يتعرض لإبادة جماعية على يد الصيادين الأوروبيين، تحديداً بعد استكشاف القارة الأميركية.
في الحقيقة، لم ينقرض هذا النوع من الطيور من تلقائه، بل تم القضاء عليه من قبل الصيادين والمستكشفين الأوروبيين بسبب مذاق لحمه الجيد. وقد اختفى طير "الدودو" في جزر المحيط الهندي للأسباب ذاتها، أي وصول المستعمرين إلى الأماكن النائية والقضاء على الحيوانات من أجل الحصول على الغذاء ومصادر الوقود والطاقة. وبناءً على هذه القرائن يؤكد العلماء بأن الانقراض السادس يحصل ويجري بسبب الإنسان، وليس بسبب التطور الطبيعي.
ما التحديات الرئيسة التي يواجهها العراق نتيجة للتغير المناخي وكيف يسهم العراق في "جريمة" الانقراض السادس؟
أي انقراض أو فقدان يحدث في أية زاوية على الأرض يؤثر على التوازن الإيكولوجي على الأرض بالكامل. بطبيعة الحال يمكن الحديث عن فقدان الأنواع في العراق وذلك بسبب التوسع العمراني على حساب النظم البيئية، بالإضافة إلى ندرة المياه والصيد الجائر والتلوث، والأنواع الغازية وارتفاع درجات الحرارة.
يمكن الاستشهاد بأمثلة كثيرة في هذا السياق، ففي محيط القرية التي ولدت وكبرت فيها، لاحظت من خلال بحثي وعملي الميداني فقدان الكثير من الأنواع التي شكلت جزءاً من ذاكرتي مع الأرض والبيئة، ولذلك عنوان كتابي "الانقراض السادس بدأ من قريتي".
كما تتعرض أنواع مائية للفقدان في شط العرب بسبب التلوث أو الصيد المفرط أو صعود المياه المالحة من الخليج إلى المياه العذبة، ناهيك عن تدمير النظام البيئي في الأهوار العراقية جراء تجفيف منابع المياه وغياب السياسات البيئية.
ولو أخذنا إقليم كُردستان كمثال، نرى أن هناك تدهوراً كبيراً في التنوع البيولوجي بسبب عدم وجود محميات طبيعية وتأسيس مدن مرتجلة على حساب البيئات الطبيعية، ما يؤدي إلى القضاء على التنوع البيولوجي.
ما الإجراءات التي يجب اتخاذها لتخفيف تأثيرات التغير المناخي على المجتمع والبيئة في العراق؟ وهل يمكن تفادي وقوع الانقراض السادس؟
إنشاء محميات طبيعية وتفعيل أو تجديد القوانين البيئية المتعلقة بالتنوع البيولوجي، ووضع الميزانية للإصلاح البيئي، وتجديد مناهج التعليم وكذلك العمل الإعلامي، إذ يلعب كل ذلك دوراً كبيراً في حماية الأنواع، خاصة أنها تسهم إسهاماً كبيراً في توفير الغذاء والحفاظ على الغطاء النباتي وكذلك حماية التربة.
هل تعتقد أن هناك جهوداً كافية تبذل في العراق، على صعيد الحكومة والناس، لمواجهة التحديات المتعلقة بالتغير المناخي؟
لا أعتقد بأن هناك سياسة عراقية واضحة المعالم بهذا الشأن، يمكن القول إن هناك تجهيل ما، وإلا لماذا لا تتحرك الحكومة ومؤسساتها تجاه الأزمات الناتجة عن تغير المناخ.
المشكلة أن الحكومة العراقية لا تحسب لآثار تغير المناخ حسابات صحية واقتصادية واجتماعية، فلو أخذنا الفاتورة الصحية التي يتحمل قطاع الصحة، تتجاوز تكلفتها في الأموال الأرواح تكلفة الإصلاح البيئي. ناهيك عن آثار أخرى مثل تدهور التربة وخروج أراض صالحة للزراعة والانتاج عن الخدمة، ما يزيد ثقل الآثار المناخية.
يشكل مناخ العراق تحدياً لأبنائه خصوصاً مع شح المياه والتلوث. هل الكوارث البيئية في العراق أسبابها سياسية؟
كما أشرت في البداية تجتمع عوامل كثيرة فيما خص التدهور الحاصل في العراق، فمن بين هذه الأسباب مناخية وتتعلق بالمناخ الإقليمي والعالمي ولا يستطيع العراق وحده مواجهته، إنما هناك أسباب محلية مثل الاستغلال غير المستدام للمصادر الطبيعية والصناعة النفطية والتكاثر السكاني والبنى التحتية القديمة والمهترئة للمدن العراقية، كل هذه تزيد من حجم الآثار المناخية. على سبيل المثال تفريغ المياه الآسنة والنفايات والمخلفات في الأنهار العذبة، أيضاً له تأثير كبير. نعم يتم كل هذا جراء سياسات خاطئة أو غياب السياسات.
هل هناك أنشطة أو مبادرات يقوم بها المواطنون العراقيون للمساهمة في مكافحة التغير المناخي ومنع انقراض الأنواع؟
باستثناء جهود في إقليم كُردستان تبذل من أجل التنوع الأحيائي، لا نرى شيئاً من هذا القبيل في مناطق العراق الأخرى، حيث الصيد الجائر وتدمير موائل الحيوانات والدعاية المجانية للحوم الحيوانات والطيور البرّية، جار في العراق كأن شيئاً لم يكن.
هل يمكن أن تشارك بعض الأمثلة على مشاريع ناجحة في العراق تهدف إلى التكيف مع التغير المناخي؟
هناك محاولات متواضعة مثل توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية أو التشجير أو حماية الأنواع، إنما الأمر محدود للغاية. التجاهل يطغي على كل شيء، لو دخلت إلى المطاعم العراقية ورأيت حجم التبذير في الغذاء أو قمت بتوثيق كميات الغذاء الهائلة التي تُلقى في النفايات، تدرك ما يعانيه البلد من ثقافة التجاهل البيئية.
ما أبرز التوصيات التي يمكنك تقديمها للسلطات في العراق لتعزيز الجهود المبذولة في مجال التكيف مع التغير المناخي؟
أهم خطوة تقوم بها السلطات العراقية حماية الأنهار ومصادر المياه العذبة من التلوث. ويقتضي ذلك تجديد البنى التحية للمدن، لأن التلوث يأتي من المدن والمؤسسات الصناعية والصحية والنشاطات التجارية.
أيضاً، إيقاف المشاريع السكنية العشوائية على حساب النظم البيئية وهي في الغالب مشاريع مملوكة لأصحاب للطبقة السياسية أو أصحاب النفوذ، والاستثمار في الطاقة المتجددة والتفكير التدريجي للتخلي عن النفط كمصدر وحيد لإدارة البلاد.
تتبخر نسبة كبيرة من المياه المخزونة جراء ارتفاع درجات الحرارة، يجب التفكير بآليات جديدة في تخزين المياه، وانشاء محميات طبيعية لحماية المزيد من فقدان الأنواع، وكذلك تجديد القوانين البيئية وإدخال موضوع تغير المناخ في مناهج التعليم من أجل إنشاء أجيال جديدة واعية بالمخاطر المناخية وسبل مواجهتها.
كيف يمكن للمجتمع الدولي دعم العراق في مواجهة تحديات التغير المناخي؟
العراق بدأ يعيش لحظة تعاف وهمية ويطالب بإنهاء بعثة الأمم المتحدة (يونامي)، فيما لا يزال هناك الكثير للعمل عليه من ناحية آثار تغير المناخ، ناهيك عن المجالات الأخرى. قد يقوض هذا الطلب كل الجهود التي من الممكن بذلها لمساعدة العراق ووضع إستراتيجية بيئية له، خاصة في ظل وجود مؤسسات غير قادرة على تقييم الآثار ووضع الحلول المستقبلية.
هل يمكن توضيح الأثر المتوقع للتغير المناخي على الاقتصاد العراقي في المقبل من السنين؟
العواصف الغبارية وحدها تكلف العراق خسائر تقدر بمليارات الدولارات. في العادة يتم تقييم الخسائر عبر توقف حركة النقل والطيران والموانئ، ولكن ماذا بخصوص الأضرار الصحية وكذلك العواقب الخطيرة التي تتركها في التربة؟
ومن ناحية المياه، بدأ العراق يخسر الكثير من منتوجاته الزراعية. الأرز (نوع العنبر) على سبيل المثال وكذلك السمسم ومنتوجات أخرى. وقد تتسع القائمة وتشمل أنواعاً أخرى من دون سياسة بيئية من شأنها تقليل الخسائر.
ما الرسالة الرئيسية التي ترغب بإيصالها من خلال الكتاب؟
رسالة الكتاب ليس للعراق فحسب، بل إلى مجمل العالم العربي، وهي أننا نعيش على أرض لا تشاركنا الأنواع الحياة فقط، بل تسهم في توفير غذائنا وبقائنا، أي أن الأرض ليست لنا وحدنا؛ لذلك يجب حمايتها وحماية الأنواع عليها.
علينا نحن الصحافيون والناشطون إيصال مثل هذه الحقيقة الى المجتمعات واستعادة الشراكة بين المجتمع البشري وبين مجتمعات الأرض الأخرى. الحياة هي مثل سلاسل الغذاء، لو فقدنا حلقة واحدة منها، يختل توازن الحياة على الأرض.
هل لا يزال هناك في العالم العربي قراء مهتمون بالمواضيع البيئية في رأيك؟ أم أن الكتاب موجه للمتخصصين؟
مع الأسف القراءة في حالة يرثى لها في العالم العربي، وقد أسهمت منصات التواصل الاجتماعي بشكل كبير في ذلك، حيث هيمنت مقاطع الفيديو القصيرة والأخبار الخاطئة والمضللة على عقول الناس. لقد أصبحت الإثارة أسلوباً رائجاً لترويج المحتوى الصحافي، والمسألة الإيكولوجية لا تحتمل الإثارة".