فلاح المشعل
فلاح المشعل

بقلم فلاح المشعل:

* صفحات من تفاصيل الجريمة.

استطاع تنظيم داعش إحداث كارثة كونية لم يحصل مثيل لها في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وهي الأولى من نوعها في الشرق الأوسط منذ غزوات المغول قبل نحو 1000 عام.
ارتكب التنظيم مذابح وإبادات جماعية في كل من العراق وسورية. وهو يسعى للتمدد وفتح الآفاق لكوارثه وجحيمه في بقية الدول، مثل إيران ولبنان والأردن وغيرها من بلدان الشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي. كما أطلق الوعود بغزوات لأوروبا وأميركا.

وحشية داعش أنتجت عشرات الألوف من القتلى وآلاف المقابر السرية والجثث مقطوعة الرؤوس. هذه الحملة الداعشية المداهمة لأجواء الشرق الأوسط السياسية، كانت تتجول بين سورية والعراق وهي تمطر موتا في ظل شعار "جئناكم بالذبح" الطالع من جحور الظلام.

تنظيم داعش يمارس النحر، أي قطع رقاب الضحايا والأسرى ومجازر وانتهاكات واغتصابات وتصفيات عرقية ودينية ومذهبية شملت الشيعة والسنة والكرد والمسيحيين والأيزيديين والدرزية والشبك والكاكائية، وكل شعوب ومكونات الشرق ودياناتها المتآخية والمتشاركة عبر حقب التاريخ واختلاف الأنظمة السياسية وأنماط العيش والديانات.

لم يستثن تنظيم داعش الأطفال من القتل ولا الشيوخ، بل عمم قرار الانتقام الشامل على الجميع، وقد استثنى النساء باعتبارهن سبايا للمتعة الجنسية، أو اجبارهن على جهاد النكاح، وهو نوع مستحدث من دعارة ذات غطاء تسعى داعش لمنحه شرعية نابعة من عقلية همجية تدعي امتلاك صلاحيات إلهية. احتقار وامتهان لذات المرأة وتسخيرها لأعمال التفجير والقتل الجماعي. وعندما تفيض عن الحاجة الجنسية أو الوظيفة الإجرامية، تعرض للبيع في سوق النخاسة. ووثقت "هيومن رايتس ووتش" نهجاً من الاغتصاب والاعتداءات الجنسية والاسترقاق الجنسي والتزويج القسري المنظمة من قبل داعش. وتعد تلك الأفعال جرائم حرب قد ترقى إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية. وما زال عدد من السيدات والفتيات في عداد المفقودين. لكن الناجيات الموجودات الآن في كردستان العراق بحاجة إلى دعم نفسي اجتماعي وضروب أخرى من المساعدة(1). وبهذا تخطى داعش كل أنماط الوصف العدواني، ليسقط في قعر البشاعة والوحشية في التعامل مع الآخر المختلف دينيا وتوجهات مذهبية.

أحدثت ظاهرة داعش وأفعاله الإجرامية بإهانة وتسليب وقتل وتهجير سكان المدن التي احتلها، أو الذي وضعهم تحت الأسر والسبي والعبودية بعد سلسلة من الاغتصابات والانتهاكات، كسراً عميقا في كبرياء الروح، وجروح لا تشفى لأحاسيس تعرضت بالإكراه لشتى أنواع الظلم والقهر وانتزاع الكرامة والحرية والممتلكات. وقائع سوف تشكل طبقات دفينة من الرغبة بالثأر لفقدان الشرف والانتقام من العدو الراسخ بملامحه المتطرفة وفكره التكفيري الذي أذاقهم أشد انواع العذاب والشعور بالذلَة والامتهان، ووضعهم في مهب الضياع والتشرد ونقص فادح بشروط الحياة الآدمية.

سلوكيات داعش تجذير لمتغيرات ديموغرافية وردّات فعل إجرائية مستقبلية قد تقوم بها هذه الجماعات العرقية والإثنية والطائفية إزاء ما نالها من اضطهاد ودمار وموت من داعش الذي داهمهم بغفلة وكأنه كارثة تحمل أسوأ الأقدار والمصائب التي تفوق أخطر العقول والخيالات الشريرة.

الزمن المقبل ينذر بفتح معارك دائمة ومستمرة بين الجماعات البشرية التي جعلتها داعش تنقسم مجتمعيا وثأريا، بعد تاريخ طويل من التعايش والانسجام. وهنا نتحدث عن المدن التي احتلها هذا التنظيم الإجرامي، وخصوصا مدينة الموصل التي تتعايش فيها غالبية المكونات العراقية كالشيعة والسَنة والاكراد والمسيحيين والأيزيدية والتركمان والشبك، والتي شهدت تهجير غالبية هذه المكونات إلى خارج حدود نينوى أو وقعت في دائرة الذبح أو الأسر. وما يحرض هذه الجماعات على خوض معارك الثأر هو استرداد الشرف المسروق بالإكراه وبتهديد السلاح، حيث لم تزل مئات النساء والأطفال يحتفظ بهم داعش ولا يعرف مصيرهم.

التهجير والنزوح الذي تولد جراء غزوات داعش واحتلاله المدن شكل ظاهرة تمثل هروبا جماعيا لما يزيد على مليوني نازح ومهجر. بينهم (280) ألف أيزيدي و(123) ألف مسيحي و(8) آلاف من الشبك وغيرهم (2). حدث كهذا لم تشهد بلاد الرافدين مثيلا له عبر تاريخها الممتد لآلاف السنين. وهو ما سيترك آثاره السلبية جلية في طبيعة الحياة المقبلة، والتوزع السكاني وطبيعته الديموغرافية بتراكيبها الثقافية والطائفية والمعيشية.

وفي الوقت الذي عاشت فيه آلاف العوائل المهجرة والنازحة ظروفا معيشية تتسم بالفاقة والفقر والعوز الدائم وانعدام شروط الحياة الطبيعية، فإنها تعتمد بترميم وضعها وإدامة معيشتها البائسة على معونات المنظمات الإنسانية والدعم الحكومي الشحيح وتبرعات المواطنين، بعد أن جردهم داعش وسلب منهم كل ممتلكاتهم حتى حاجياتهم الصغيرة المحمولة بأيديهم مثل الحلي الذهبية أو جهاز الجوال أو بطاقة الهوية ومصروف الجيب...! شعوب تعرضت للتعرية التامة خلال تهجيرها القسري. ولعلها أفضل حالاً من القتل أو الأسر لينتهي الفرد عند أسواق بيع البشر وبورصاتها.

يمكن قراءة الحلقة السابقة هنا.
هوامش:
*(1) هيومن رايتس ووتش، جريدة النهار اللبنانية ليوم 16 نيسان 2015 ، شهادات مفجعة لأيزيديات اغتصبهن داعش.
*(2) موقع العربي الجديد، يوم 11مايو 2015، تحقيق بعنوان: تمدد داعش يفرز تغييرات ديموغرافية غير متوقعة.

نبذة عن الكاتب: فلاح المشعل، كاتب وصحافي عراقي يقيم في بغداد ويكتب في عدد من الصحف والمواقع العربية والعراقية. شغل عدة مواقع خلال تجربته الصحافية البالغة نحو 30 سنة، ولعل أبرزها رئيس تحرير صحيفة الصباح العراقية، وكان أحد مؤسسيها . عضو نقابة الصحفيين العراقيين ، ومؤسس لمركز الصباح للدراسات والنشر.

لمتابعة فلاح المشعل على فيسبوك، إضغط هنا.

 الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.