بقلم سرمد الطائي:
قرأنا مبادرة التحالف الوطني، وهو أكبر كتلة نيابية في العراق – إذا افترضنا أنها بقيت كتلة موحدة – التي تأمل إبرام اتفاق تدريجي بين الشركاء يرسم مستقبل الإدارة السياسية والأمنية بعد داعش. ولدينا عليها ملاحظات كثيرة نتشاركها مع باحثين وساسة ومحاورين محليين وأجانب. لكننا كنا نزعم أن الأولوية هي انطلاق حوار بوجود الأمم المتحدة وباقي الشركاء، بعد توقف دام عامين، وبعدها تجري مناقشة التفاصيل.
ثم أضيف إلى كل تعقيدات الانقسام الرهيب في كل المجموعات تعقيد جديد، وهو أن أطرافا مهمة في الجناح الإصلاحي المعتدل لا ترى أن انطلاق الحوار مفيد الآن.
لقد بدأنا الحرب استنادا لمبدأ أن هذه المعارك ليست خصومة بين المدافع والجيوش، وإنما هي إدارة لعملية سياسية جديدة. ثم واجهت بغداد ضغوطا بمستويات دولية رهيبة جعلتها تعجز عن الاستمرار في الحوار الداخلي. ولهذا تجمدت أحلام "بناء الثقة" التي كنا نحتاجها لملء فراغ خطير، وكان داعش قد استغله وراح يعبث بمصائرنا. وأكثر الوقائع إيلاما أن بغداد تحقق نجاحا متزايدا في المعارك، إلا أنها لم تستطع تخفيف مستويات "الخوف من المصالحة" لدى الطبقة السياسية.
نعم، فلدى جميع الأطراف خوف من الحوار حول مبدأ التنازلات المتبادلة التي تدور حول تفعيل الروح اللامركزية في الدستور وإقرار مبدأ التسامح أو التعايش.
ولم يتبدد الخوف حتى مع إدراكنا أن غياب الحوار قد يمهد لاحتراب جديد. وحينها سنهدر تضحيات أحلى شبابنا بسبب الخوف الذي يتملك الساسة. وهنا سألخص، أو أعيد التذكير، بأربع مستويات من الخوف تعتري أحزابنا وزعامات المجتمع وتصعب انطلاق حوار جوهري مسؤول.
أولا: هناك خوف من "الرابح السني"، إذ سيكون الطرف السني الذي يبرم اتفاقا تاريخيا جهة تتسيّد وتمتلك القوة. وحينها لن يمكن بسهولة جرجرة رموزها كما حصل مع السابقين. فالاتفاق سيمنحهم حصانة وطنية لحماية الاتفاق نفسه، كالحصانة التي تمتلكها الرموز الشيعية والكردية التي لا يمكن المساس بها طبقا لقاعدة التوافق السارية.
ثانيا: خوف من "الرابح الشيعي"، فإذا نجح فريق عمار الحكيم أو فريق التيار الصدري الأكثر حماسا للحوار على طول الخط، وهكذا حيدر العبادي العقلاني الهادئ، في إبرام اتفاق مؤثر، فستنطلق مخاوف من أن يستثمر ذلك ليتسيّد على شركائه. وسبب هذا نقص التنسيق الذي كان متاحا في السابق، والذي نبّه الجميع إلى خطورته كسبب سيتيح لمتشددي الشيعة أن ينتهزوا الفرصة ويصادروا الانتصارات لمصلحتهم.
أما ثالث أنواع الخوف فتتعلق بغياب "الوسيط الفاعل"، وعادة ما يكون إقليميا أو دوليا ليدخل كطرف ضامن. ولو كنا في عام 2011، لكانت تركيا والخليج والأردن مثلا أقدر في الانخراط ضمن مشروع كهذا. أما اليوم فقد "شط المزار" وتعقدت الاتصالات ونحتاج إلى حوار مع محيطنا العربي والإسلامي يستبق أي مبادرة داخلية. وهذه كلفة إضافية لا ندري من سيتحمل الاتجاه نحوها.
أما مستوى الخوف الرابع فيتعلق بالجمهور الذي يمكن تخويفه من نتائج أي حوار. حيث تروج شائعات مضادة تحركها وسائل إعلام نعرفها وجيوش الإنترنت التي لا نعرفها أن الحوار سيكون مع أنصار داعش! ولعل أكبر القادة يخشون هذه الدعاية أكثر من خشيتهم المتصلة بأي عامل آخر.
ولكن من قال أن بلوغ السلام سيكون طريقا مفروشة بالورد وخالية من المغامرات؟ ثم ألا يستحق السلام أن يندفع نحوه كل المؤمنين بالحل السياسي؟ ألم ندرك بعد سنوات الموت أن البنادق هي مجرد تمهيد لوفاق داخلي يقوم بتعريف المشتركات والمصالح؟ لماذا لا نتخيل أن الوفاق لا يهدف لمصالحة "متآمر أو خائن"، بل هدفه أن يحمي تضحيات أحلى شبابنا الذين حققوا النصر العسكري المتواصل، ويتوقعون أن نقدّس دماءهم بجرعة عقلانية مسؤولة تمنح السلام لوطنهم وتنهي عقودا من الكراهية والقمع؟ سواء بمشروع التسوية أو أي مبادرة أخرى ينبغي أن تنهي هذا الجفاء القاسي وهذه القطيعة داخل الحياة السياسية، وهي قسوة تتحول إلى تسهيلات شتى للموت المتواصل من نينوى حتى البصرة.
نبذة عن الكاتب: سرمد الطائي، كاتب عراقي من مواليد البصرة، خريج المركز الدولي للدراسات الاسلامية في ايران – قم. كاتب وصحفي منذ عام 1997، عمل في قناة الحرة عراق في بغداد من 2004 إلى عام 2007. معلق سياسي وكاتب عمود “عالم آخر” في جريدة المدى.
لمتابعة سرمد على فيسبوك إضغط هنا.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.