فلاح المشعل
مدونات إرفع صوتك - فلاح المشعل

بقلم فلاح المشعل:

* نزوح مليوني وتغييرات ديموغرافية

أعلنت المنظمة الدولية للهجرة مطلع سنة 2017 أن عدد النازحين العراقيين منذ كانون الثاني/يناير 2014 بلغ 3.1 مليون نازح وأن عدد العائدين إلى مناطقهم هو نحو مليون وربع، وهو الرقم الذي يتطابق مع تصريحات رسمية عراقية.(1)

وإذ تذهب التقديرات الى أن عدد سكان العراق يبلغ 36 مليون إنسان تقريباً، فإن نسبة من اكتوى بنار النزوح (بضمنهم العائدين) تبلغ نحو 12 في المئة. وهي نسبة عالية جداً وتشكل تحولات ديموغرافية كبيرة وخطيرة سيما ونحن نتحدث عن ثلاث محافظات فقط تعرضت إلى النزوح المليوني.

انتهج داعش أسلوب القتل والأسر والعنف والتهجير والطرد لكل من يختلف مع منهجه التكفيري الظلامي. وبفعل الشروخ الدينية والعنصرية والطائفية التي أحدثها في الجسد العراقي المتعايش سلمياً بتنويعاته الأثنية، اتجهت موجات النزوح نحو الاستقطاب الطائفي والاثني والمذهبي، بهدف الابتعاد عن التهديد بالموت أو العنف الطائفي وبحثا عن الحماية، بعد صدمة داعش. ومن هنا وجدنا المسيحيين النازحين من الموصل وكركوك يتجهون نحو مدينة عينكاوة ذات الأغلبية المسيحية في مدينة أربيل وغيرها من المدن والأقضية ذات الغالبية المسيحية من مدن كردستان. وكذا الحال للأيزيدية ذات الأغلبية الكردية. بينما اتجه الشيعة من سكان صلاح الدين وديالى والشبك والتركمان نحو المدن ذات الأغلبية الشيعية في وسط وجنوب العراق. في وقت اضطر النازحون من السنة لاختيار أربيل وبقية مدن كردستان إضافة إلى بغداد أو الأردن. وبعضهم اضطر لاختيار المدن القريبة داخل المحافظة نفسها بسبب ضيق اليد، أو النزوح نحو كربلاء أو بابل قاصدين بغداد بأحيائها السّنية.

الكثير من النازحين والمهجرين سوف تدفعهم قوة الرغبة بالحياة والبحث عن الأمان إلى الاستقرار بهذه المدن التي لجأوا إليها هرباّ من التهديد بالقتل أو الأسر، وتفريغا إجرائيا للصدمة التاريخية التي تعرضوا لها من قبل داعش، والشعور بتوفير الحماية وعدم التهديد من النظير القومي أو الطائفي.

إن فسيفساء التنوع القومي والاثني والديني والمذهبي يشكل أبرز مظاهر التعايش السلمي بين العراقيين وأحد أهم خصائص المجتمع العراقي ومنتجاته الثقافية والحضارية، لكن النزوح باتجاه الجذب الاثني أو الطائفي أو القومي، سيجعل غالبية المدن التي قصدها  النازحون تنغلق على انتماء من لون طائفي أو قومي محدد. هذا الواقع الجديد يعني أن ثمة تحولات ديموغرافية خطيرة قد تطرأ في العراق، ما يجعل المجتمع العراقي يقف على تقسيمات عرقية ومذهبية حادة لا تستوعب التنوع الذي يعطي له دفقه الحضاري والإنساني المعهود.

سريان مفعول هذا الواقع يجعل المجتمع العراقي يعيد ترتيب تكوينه وفق أنساق وبنى تقوم على أسس طائفية وعرقية من نوع واحد، أي انغلاق ثقافي على واحدية النوع وانعدام التلاقح مع بقية ألوان المجتمع وتعدد أنماط حياته وثقافاته وتقاليده باختلاف مستويات تعبيرها. ويدفع نحو ترشح ثقافة تقوم على مضامين من نوع الانتماء، سواء عرقيا أو طائفيا، وتقاليد اجتماعية محددة بهذه المدينة دون غيرها. وهذا واقع مغاير لملامح الطبيعة الاجتماعية للعراق لا يمكن التعبير عنه إلا بكونه تكريسا لظاهرة العزل للمكونات الطائفية والدينية والقومية ما يفضي إلى تراكم أسباب الخلافات والدعوات إلى الإستقلال والإنعزال وتفتيت المجتمع العراقي القائم على التنوع منذ خمسة آلاف سنة أو أكثر من عمره.

إن أخطر ما أحدثته جرائم داعش سينتج عنه ظهور نزعة الانفصال  إلى "عراقات " جديدة لا تحمل صفة وخصائص العراق الدولة التي كانت مركز إشعاع  فكري ونموذجا لروح التعايش السلمي والتعدد النوعي. "عراقات" ليس على مستوى التجمعات السياسية والطائفية وحسب، إنما عراقات بمظاهر اجتماعية وثقافية طارئة ومتنافرة، ما يجعلها تنفتح على حروب دائمة في التنافس على الثروة والأرض أو المعتقد المذهبي أو العرقي. وهذه وتلك أخطر وأقصى الغايات التي أرادها المؤسسون لفكرة وجود داعش وشعار "جئناكم بالذبح يا أعداء الله".

* (1) مصفوفة تتبع النزوح- تقرير رقم 60 لشهر كانون الثاني/يناير 2017. موقع المنظمة الدولية للهجرة-العراق http://iomiraq.net/ .

نبذة عن الكاتب: فلاح المشعل، كاتب وصحافي عراقي يقيم في بغداد ويكتب في عدد من الصحف والمواقع العربية والعراقية. شغل عدة مواقع خلال تجربته الصحافية البالغة نحو 30 سنة، ولعل أبرزها رئيس تحرير صحيفة الصباح العراقية، وكان أحد مؤسسيها . عضو نقابة الصحفيين العراقيين ، ومؤسس لمركز الصباح للدراسات والنشر.

لمتابعة فلاح المشعل على فيسبوك، إضغط هنا.

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.