حارث
مدونات إرفع صوتك حارث حسن

بقلم حارث حسن:

في الحديث عن الدين في منطقتنا العربية، يستذكر بعضنا "إسلاماً" مختلفاً عن الذي نراه اليوم في شاشات التلفزيون، وفي بيانات الجماعات الجهادية، وفتاوى رجال الدين المتحمسين. "إسلام جدّاتنا" لا يبدو ذا صلة بإسلامٍ موغل في العنف والصراع السياسي. فقد كان يتسم بالكثير من الروحانية الطيبة والمرونة المريحة. ورغم أن هذا "الإسلام" مازال موجودا حول أضرحة الأولياء وفي ممارسات الكثير من أبناء الأجيال الخمسينية والستينية، لكنه يبدو وكأنه في طور الدفاع عن الوجود، وبتعبير أدق: طور التراجع أمام هجوم الإسلام "الرسالي" المسلح بأيديولوجية سياسية.

تحولات "الدين" ومعانيه وأشكاله لا تنفصل عن مجمل التحولات السياسية والاقتصادية التي شهدتها منطقتنا في العقود الأخيرة، حيث حدث انتقال تدريجي من الفهم الطقوسي-الروحاني للدين إلى الفهم الأيديولوجي له. وأعيد تعريف الإسلام بوصفه "نموذج للحكم" و "نظام للمعنى المطلق والحقيقة الكلية" و "هوية ثابتة وراسخة" تنقض غيرها من الهويات.

بدأ هذا الانتقال كرد فعل على التحديث الغربي في المنطقة الذي ساد بعد انهيار الدولة العثمانية وظهور الدولة-الوطنية كنتاج لصراعات وتسويات القوى الغربية. كانت غاية هذا "الإسلام المؤدلج" هي تقديم إجابة على تحدي الهوية المتنامي بسبب "العلمنة" التي تبنتها دول المنطقة، ليعاد طرح الإسلام من قبل مفكرين كسيد قطب ومحمد باقر الصدر وأبو الأعلى المودودي وآخرين، أولاً كهوية أصيلة أريد تشويهها بفعل سياسات التغريب، وثانياً كجواب على التحديات المعاصرة التي تواجهها شعوب المنطقة. من هنا أعاد سيد قطب تكييف فكرة الجاهلية واعطائها معنى معاصرا كما فعل مع فكرة الحاكمية، محولاً الإسلام إلى نظام سياسي-اجتماعي كلّاني. بينما راح محمد باقر الصدر يُحَّدث الإسلام ليحوله إلى أيديولوجية ثالثة مقابلة للماركسية-الشيوعية والليبرالية-الرأسمالية، تعد بتقديم حلول فلسفية واقتصادية وسياسية بديلة لتلك الأيديولوجيات الغربية.

يميل كثيرون – خطأً- إلى قراءة هذه التحولات على أنها عودة إلى القرن الهجري الأول، لكن لو تعمقنا في تفاصيلها، سنجد أنها مثّلت محاولات للتعامل مع تحديات معاصرة عبر ادعاء أن هناك جواباً "إلهياً" نهائياً قدّمه الإسلام على قضايا الحكم والدولة والنظام الاجتماعي (وهي في جلّها إشكاليات معاصرة)، لا نحتاج لنعرفها سوى استنطاق النصوص الدينية لتعطينا معانٍ تناسب عصرنا. بهذه الطريقة تم تحويل الإسلام من كونه عقيدة دينية وتقليد عبادي تعشّق عبر القرون مع أنظمة ثقافية وسياسية واجتماعية مختلفة على شكل "إسلامات" متعددة، إلى أيديولوجية "معاصرة" تتخيل أنها عودة إلى "جوهر ثابت" لكنها في أساسها محاولة لتكييف هذا "الجوهر" المتخيل مع تحديات وشروط حاضرة.

تدريجياً، خرج من هذا الفهم الأيديولوجي للإسلام تيارات متعددة، بعضها صار أميل إلى تحديث ودمقرطة فكره وأكثر تواضعاً في طرح صيغ أيديولوجية صارمة، وبعضها أكثر تزمتاً وميلاً إلى زعم "الطهرانية" واحتكار الحقيقة. وهذا التيار الثاني الذي تعشّق مع الفهم السلفي للإسلام واستفاد من توفر بضاعته بعد الفورة النفطية، ليدّعي أنه يقدم الصورة الأكثر "نقاءً" والشكل الوحيد الممكن للإسلام، متهماً حتى التيارات الإسلامية الأخرى بأنها منحرفة عن الدين القويم. هذا التيار هو الذي أنجب الجماعات الجهادية التكفيرية كالقاعدة وداعش، وهو الذي يشيع في المنطقة والعالم اليوم الصورة القيامية العنيفة للإسلام – محتكراً الحديث باسم المسلمين ومحيلاً من يغايرونه من هؤلاء المسلمين إلى كفار ومرتدين.

وإن كان هذا التيار هو الأكثر عنفاً، فإنه ليس التيار الأكثر شعبية أو جذباً من داخل منظومة الإسلام السياسي. هو استفاد من فراغات السلطة وتزعزع نظام الدولة في المنطقة، ومن إيمانه العميق بالعنف كوسيلة "مشروعة" لفرض "الحقيقة الوحيدة" التي يزعم احتكارها، ليحتل الصدارة في اهتمام نشرات الأخبار والمؤتمرات السياسية والأكاديمية المعنية بالدين والسياسة في المنطقة. هو استفاد أيضا من العولمة والتكنولوجيا الحديثة ليطرح نفسه كإسلام معولم كاسح للإسلامات المحلية ومعوض عن مشاعر الاغتراب التي تخلقها أزمات الهوية.

إن التعامل مع هذا التيار يتطلب فهم ظاهرة الإسلام السياسي الأيديولوجي بطريقة كلية، تنظر ليس فقط إلى النصوص والأفكار التي انتجتها تلك التيارات، بل وأيضا إلى الظروف والشروط التي أسهمت بإنتاجها، كما أسهمت في الظهور المتوحش للتيار الجهادي. ويعني ذلك مقدماً، التخلي عن الأجوبة المبسطة والقوالب السردية السائدة عند التعامل مع إشكالية "الإرهاب"، أمّا بتحويلها إلى إشكالية أمنية بحتة، أو بالتعامل معها كمجرد تعبير عن "انحراف" ديني واجتماعي، ولنتذكر أن قسماً كبيراً من مشاكل هذه المنطقة هي نتاج لحالة الإنكار السائدة والخشية من التعامل مع "المحرمات".

عن الكاتب: حارث حسن، كاتب وباحث عراقي، يحمل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية، وزميل جامعة براندايز، ومتخصص بقضايا العراق والشرق الأوسط، مع التركيز على مواضيع الدولة والعلمنة والهوية وعلاقة الدين بالسياسة.

لمتابعة حارث على فيسبوك إضغط هنا. وعلى تويتر إضغط هنا.

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.