مشاركة من صديقة (إرفع صوتك) هبة أمجد:
لم يمض وقت طويل على احتلال الموصل حتى بدأ عناصر داعش يظهرون وجوههم وأفعالهم الحقيقية. وأولها التعالي على عامة الناس. فهم بهذه الفترة كانوا قد قاموا بسرقة مدن وقرى بأكملها: الحمدانية، برطلة، سنجار، زمّار، وغيرها من المدن التي كانت مدناً آمنة فرحة بأهلها من المكوّنات المختلفة. هرب أهلها. وبساعات قليلة كانت المدن فارغة تماما، إلا من الدواعش. كانت أيام نصر بالنسبة لهم. سرقوا كل شيء بما فيها من دكاكين وبيوت وأثاث ومعارض سيارات ومكاتب إلكترونيات. بينما نحن الأهالي مستغربون. أي نفس تتهافت على سرقة حتى "شبشب" الحمام من بيوت تلك العوائل الفارّة بأرواحها؟
والشيء العجيب أنه من كثرة ما توفر لهم من منازل وراحة من مأكل ومشرب، بدأت بطونهم تصبح كروشا متضخمة. وازدادوا بشاعة فوق بشاعة أفعالهم. أردنا الهرب، أردنا الخروج. تمنينا ذلك. ولكن من يريد الخروج كان يجب عليه تقديم طلب لداعش فيقوموا بأخذ سند بيت أو قطعة أرض أو أوراق ملكية سيارة حديثة كضمان لعودة من يغادر. أما من يحاول الهروب، فكان مصيره الموت في حال اكتشافه، وخاصة من الموظفين أو العسكريين السابقين. وهو الأمر الذي حدث مع جارتنا وابنها صاحب الثلاثة أطفال. حاول المسكينُ الخروج من المدينة ليجد عملاً ويبعث لأهله ما يسد قوتهم، ولكنهم قتلوه وعائلته الصغيرة. هذه الحادثة أتعبتني وأرهقتني. لم يكن سهلا التعامل مع كل هذه القسوة المحيطة بنا. حاولت الهرب بأفكاري. اصطنعت لنفسي فكرة مفادها أنهم ماتوا بحادث سيارة، وأن هذا ما حدث فعلا. لكي أتعايش ولو قليلا مع ما يجري. ولكن هيهات النسيان.
لم يسلم الناس من العقوبات وعلى أتفه الأسباب. أحد الشباب من أقاربي جُلد لأن طريقة حلاقة شعره لم تعجبهم، وآخر لأنه كان يرتدي الجينز، أو غيرها.
كان الجلد على مرأى من الناس في كل الأحياء. زرعوا الرعب في قلوب الناس. صار أمر جلد الناس طبيعيا، بمعنى أنه حدث يومي غير مستغرب منهم. ولكن ما كان يهز المدينة هو أخبار الاعدامات وطرقها المختلفة المبتكرة بهمجية والتي كانوا يقومون بها. مثل لف المتفجرات حول العنق، أو وضع الناس بأقفاص وانزالهم إلى الماء، أو في حفرة عميقة تسمى الخسفة.
كان بداية ظهور داعش على حقيقتهم للجميع هو هجماتهم الشرسة والوحشية ضد الأقليات المختلفة. محاولة قتل الجميع. كان هجومهم ضد المسيحيين بداية كل التغيير. اكتشف الناس حقيقتهم تماما. بعد الأقليات تفرغوا لنا. بقيت طائفة واحدة وركزوا كل همجيتهم عليها.
حاولت الاتصال بزميلاتي وصديقاتي من المسيحيات. لم أكن أعقل كيف يتم التعامل مع المسيحيين الطيبين المسالمين بهذه الطريقة؟ قالت لي صديقتي "ندعي الله يهديهم ويسامحهم. نحن لا نحقد أو ندعي على أحد". صعقتُ من جوابها. كم خجلتُ منها. أي نبل لديها، وأي همجية لدى من هجّرهم وحاربهم.
بدأوا يتوحشون علينا أكثر وأكثر. نشروا نساءهم في الأسواق. وكنّ على رأسهن ما أسموهنّ بالـ "عضاضات". كن يعضضن المخالفات للتعاليم. وبعد فترة صرن يحملن آلة مسننة يقرصن بها من تمر أمامهن. كانت الآلة مؤذية جدا بأطرافها المعدنية الحادة التي تترك جروحا عميقة تستوجب مراجعة للطبيب. كن مقززات. لم أتعرض لأذاهن والحمد لله، فقد قررت عدم الخروج من البيت مطلقا. لم أراهم ولن أراهم، قلت لنفسي. ولن ألتزم بما يريدوه من عندنا. ولن أرتدي ذلك اللباس الأفغاني المفروض علينا.
لم يكن الأمر يمر بسهولة. كان هناك مشادات بين بعض النساء العراقيات والعضاضات. في أحد الأيام نقلت لي صديقتي عند عودتها من رحلة السوق القصيرة والسريعة أن إحدى العضاضات كانت سورية. وكانت تحاول أن تعاقب عراقية وتعضها بالآلة بسبب لبسها المخالف. ولم تتحمل العراقية لتصرخ بوجه العضاضة: كيف تريدين تعليمي قواعد اللباس، تعلميها أنتي في البداية؟ وأنا متأكدة أن النزاع لم يطل. فالكل كان يريد الابتعاد عن هذه الحالات والعودة إلى بيته سالماً بأقل تماس معهم.
لم أكن الوحيدة التي تحاشت الخروج من المنزل. كان النساء بصورة عامة يحاولن البقاء في البيوت. كان الداعشيون ينظرون للنساء بتفصيل مخيف بحجة رؤية زيهن الشرعي ومدى تطبيقهن له. كان الأمر مخيفا ومقززا. ولكنهم كانوا يتزوجون فيما بينهم. فنحن من العامة، كنا بنظرهم شبه مرتدين.
كان أفرادهم يتزوجون مراراً وتكرارا. ولم لا، فكل تجهيزات العرس يحصلون عليها مجانا مما سرقوه من غرف من تركوا بيوتهم، أو من محال الأثاث التي سرقوها، فضلا عن مبلغ 800 دولار يعطيها لهم التنظيم، وهي أيضا مسروقة من أموال الناس بالنتيجة.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.