بقلم تحسين الطائي:
في أحد أزقة حي التأميم بالموصل التي تقع في الجانب الأيسر (الشرقي) قرب المدينة الصناعية، وهي منطقة شعبية كأي منطقة سكانها فقراء، عليك أن تعرف أن عدد الأطفال فيها يتجاوز المعدل المنطقي.
قبل أشهر، كانت تعلو كل يوم صيحات الأطفال بلعب كرة القدم أو الكريات الزجاجية التي تسمى شعبيا في الموصل (تبال). افتقدت الأصوات في محلتي.. وقلت لنفسي: إنها هادئة جداً اليوم.
خرجت إلى عملي، فكان جاري خارجاً لعمله أيضا. قلت له مبتسماً: كان منبهي الصباحي صوت الأطفال، إلا أنهم اليوم في مكان آخر. وناولته لفافة تبغ كانت تساوي (80 جلدة) في العصر البائد.
كانت سلطة داعش ابتكرت لتعليم الأطفال في المدارس مناهج لا تقل سوءاً عن سحناتهم البشعة. بسببهم صارت القراءة الخلدونية (وهي منهج القراءة في الصف الأول ابتدائي) ماضياً قتله حفنة من الأوغاد. لم يعد في منهاج داعش التعليمي "قلم + قلم" أو "تفاحة + تفاحة" لتعليم الأطفال الحساب. لقد غيروا كل شيء إلى القتل والانتقام والحقد الذي ليس له أصل أرضي ولا سماوي. أرادوا أن يعلموا الأطفال منهجاً في الرياضيات ليس لتنمية عقولهم بل لقتله.
أرادوا تحويل الحساب إلى "بندقية + مجاهد = انتحاري ضد الكفار".
لكن الأطفال كانوا أكبر قوة في الموصل، حين امتنعوا عن الذهاب إلى المدرسة ورفضوا هذا النظام التعليمي. كان الأطفالُ أول من أسقط مملكة الشياطين خلال شهر من إعلانها؛ فقط من خلال عدم ذهابهم إلى المدارس. قرر الأطفال اللعب في الأحياء، فرحين بما أتاهم الله من قلب سليم.
خلال فترة الاحتلال، كان ضجيج الأطفال يبدأ من الصباح حتى المساء في المحلات والأزقة، فانهارت مخططات طيور الظلام في خلق جيل دموي من القتلة. كان ضجيج الأطفال أقوى من أحزمتهم الناسفة، لأنهم ببساطة نسفوا حلم داعش. نسفوه بضربة كرة قدم.
أدركت قول المسيح بنكهة موصلية هذه المرة حين قال للناس: اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ.
بعد عملية التحرير التي شملت الجانب الأيسر بالكامل من الموصل، تم افتتاح المدارس. لم يعاند الأطفال، بس انطلقوا بركضة نشرت الأمل والحب في كل زقاق في أحياء الجانب الأيسر، وهم بطريقهم إلى مدارسهم شوقاً إلى المعلم سالم، والمديرة الشديدة (ست آلاء) التي تحمل عصا خشبية كأنها صولجان الملك، تنظم الصفوف والتلاميذ.
في الجانب الأيسر من الموصل انتهى عصر احتلال قبيح كان يجثو على صدورنا. إنه عصر جديد.
انتهى ضجيج الأطفال الصباحي في محلتي لأنهم رجعوا إلى مدارسهم اليوم ليصرخوا بضجيج جميل!
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.