بقلم علي عبد الأمير:
لم تقرأ صورة الهدوء والإرتياح التي ظهر عليها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي وهو يقضي في 13 أيلول/سبتمبر الجاري، وقتا خاصا في مناطق أهوار ذي قار جنوب البلاد، على نحو يتصل بنقيضها: صورة الصخب السياسي والدعائي التي كانت أربيل تعليها ضمن حملة يختلط بها حق التاريخ الكردي مع باطل السياسة في عراق ما بعد 2003 والإقليم بخاصة، فضلا عن التحشيد القومي من أجل جعل الاستفتاء على قيام الدولة المستقلة أمرا طبيعيا ضمن مسار مخطط له بجعل الانفصال طبيعيا ويتمتع بقبول واسع محليا وإقليميا ودوليا.
اقرأ أيضا:
استطلاع: هل تؤيدون انفصال إقليم كردستان عن العراق؟
ما فات كثيرون في ملامح العبادي الهادئة في ذلك القارب البسيط، وحتى نبرته التي لم تتراجع عن هدوئها المعتاد وإن أصبحت أكثر وضوحا حيال قضايا حساسة مثل الانفصال الكردي عن الدولة العراقية، هو سبب تلك "القوة" التي استند عليها في ظهوره ذاك الذي لا يخلو من استعراض مدروس.
قطعا هي "قوة" لا علاقة لها بالإلهام الروحي ولا بالقدرة السياسية الشخصية لرئيس الوزراء العبادي على قراءة المستقبل، بل هي قوة واقعية جدا مقامة على رفض أميركي للمسار الذي رسمته أربيل في إنهاء علاقتها بالعراق. رفض لم يتوقع أكثر المتشائمين من القادة الكرد أن يكون عليه موقف الولايات المتحدة الحليف الأقوى لهم رسميا ومنذ العام 1991، حين رعت عبر مظلة عسكرية وسياسية مناطق السليمانية وأربيل ودهوك من سطوة الدولة المركزية ببغداد ونظامها الديكتاتوري حينذاك.
من فاتهم قراءة ملامح العبادي هم ذاتهم من فاتهم فهم الطريقة التي يجب أن تسير بها عربة الاستقلال الكردي، فهي لن تتحرك بدون حصان قوي ولا قيمة لها بدونه. يعرف الكرد قبل غيرهم أن ثورتهم في العراق التي قادها البارزاني الأب أجهضت في اتفاق سياسي بين بغداد وطهران 1975 رعته بل خططت له واشنطن، وأن ما تمتعوا به من شبه حماية ورعاية منذ العام 1991 حتى العام 2003 كان بقرار أميركي خصوصا وغربي عموما، وكان عليهم التواصل مع الفهم الدقيق هذا وصولا إلى حقيقة أن لا انفصال كرديا عن العراق بغير ضوء مصدر طاقته أميركي وغربي.
اقرأ أيضا:
لحظة فارقة: أربيل تنسّق مع بغداد وواشنطن تبارك
ومع كونه صديقهم، لكن الكرد العراقيين من أصحاب العرض السياسي الأخير لم يقرأوا موقف المبعوث الرئاسي الأميركي إلى التحالف الدولي في الحرب على داعش، بريت ماكغورك، قبل نحو أسبوع في رفض الخطوة الكردية على النحو الصحيح بكونه مؤشرا على موقف أميركي حازم جاء عبر بيان للبيت الأبيض قبل يومين، وقد عبّر عنه بوضوح. لكن توجها في أربيل ظل يأمل موقفا آخر من الخارجية الأميركية، انطلاقا من وهم أن الوزير تيلرسون سيكون ميالا لموقف أكثر تفهما للطموحات الكردية ويتفق مع تاريخ صداقته للقادة الكرد وعلاقاته بهم أثناء إدارته عملاق النفط العالمي "إكسون موبيل" التي بدأت مشروعاته في الإقليم بالتزامن مع تعثر مشروعات مماثلة في جنوب العراق.
وما لم توضحه المواقف الأميركية في أسبوع أوضحه بجلاء موقف الخارجية الأميركية الذي أعلنته المتحدثة الرسمية هيذر نورت مساء الأربعاء، 20 أيلول/سبتمبر. فهو يبدأ بداية عجيبة لا مقدمات لها ولا تمهيدات: تعارض الولايات المتحدة بشدة استفتاء حكومة إقليم كردستان العراق على الاستقلال المزمع إجراؤه في ٢٥ أيلول.
واشنطن التي تعرف جيدا أن ذريعة الكرد في التعجيل بالانفصال عبر "الخلاص من الفساد السياسي والمالي المتمثل بدولة الفشل العراقية الحالية"، ذريعة غير مقبولة انطلاقا من كونهم مشاركين جوهريين في دولة الفشل والفساد تلك، كانت واضحة أيضا عبر معادلة: الحوار مع بغداد أو فقدان الدعم الدولي. وهو ما أشار إليه بيان الخارجية بتأكيده "تحث الولايات المتحدة القادة الكرد العراقيين على قبول البديل والذي هو حوار جدي ومستمر مع الحكومة المركزية تقوم بتسهيله الولايات المتحدة والأمم المتحدة وشركاء آخرون بشأن جميع المسائل ذات الاهمية بما في ذلك مستقبل العلاقة بين بغداد واربيل. وإذا أجري هذا الاستفتاء، فمن غير المرجح أن تجري مفاوضات مع بغداد، وسوف يتم إنهاء العرض الدولي المذكور أعلاه لدعم المفاوضات".
الموقف الأميركي الذي يعني إبقاء العربة الكردية بلا قوة تحركها، يقول بوضوح وهو ما لم تفعله مواقف أميركية واضحة ما نصه:
*ثمن إجراء الاستفتاء غال بالنسبة لجميع العراقيين، بمن فيهم الكرد. وقد أثر الاستفتاء بالفعل تأثيرا سلبيا على تنسيق الجهود لهزيمة داعش وطرده من المناطق المتبقية تحت سيطرته في العراق.
* قرار إجراء الاستفتاء في المناطق المتنازع عليها يزعزع الاستقرار بشكل خاص، مما يثير التوترات التي يسعى داعش والجماعات المتطرفة الأخرى إلى استغلالها.
*تسوية حالة المناطق المتنازع عليها وحدودها من خلال الحوار، وفقا للدستور العراقي، وليس عن طريق الفعل أو القوة من جانب واحد، في إشارة إلى موقف الكرد.
*وأخيرا، والتعبير هنا ورد نصا في بيان الخارجية الأميركية، قد يعرض الاستفتاء العلاقات التجارية الإقليمية لكردستان العراق وجميع أنواع المساعدات الدولية للخطر. أي كتابة المعادلة من جديد: الاستفتاء على الانفصال يعني نهاية للدعم الأميركي والدولي، وهو ما يعنيه إعادة عربة الإستقلال الكردي إلى مرحلة صناعتها شديدة البدائية وليس افتقادها القوة الحاسمة للحركة.
ذات مرة وفي حديث جمع كاتب السطور إلى الزعيم الكردي المستقل محمود عثمان على هامش واحد من اجتماعات مجلس الحكم العراقي في ربيع 2004، كشف الرجل عن حقيقة مضمرة في الوعي التاريخي الكردي المعاصر: تاريخنا حافل بالخيبات من الموقف الأميركي، ولا يغرنك هذا العرس الذي نحن عليه جميعا، الكرد والعراقيين والأميركيين.
ويبدو أن خبرة عثمان وحكمته لا أحد يسمعهما اليوم كأساس لبناء المواقف الحقيقية والعملية، كرديا على الأقل.
يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659