خاص بـ"ارفع صوتك"- رضا الشمري
لا يعرف الكثير من العراقيين اسم عبد المجيد البيلاوي، لكن أهالي الفلوجة وماجاورها يعرفونه جيدا.
البيلاوي يكاد يكون أشهر "مداحي" الفلوجة، لولا أنه قتل على يد تنظيم القاعدة في عام 2006، خلال فترة سيطرة التنظيم على المدينة.
والمداح هو اللقب المحلي للمنشد، او مؤدي الترانيم والأناشيد الصوفية.
وليس البيلاوي فحسب، هناك أيضا الشيخ حمزة عباس، الذي قتل في نهاية 2005، حينما كان يشغل منصب رئيس مجلس علماء الفلوجة، وهو صوفي أيضا، والشيخ احسان عبد اللطيف الدوري الذي قتل عام 2010 بعبوة ناسفة، وربما يمكن أن تحزر أنه صوفي كذلك.
القاعدة ومن بعدها داعش قتلت العشرات من صوفية مدينة الفلوجة وحدها، فضلا عن الصوفية في الموصل والرمادي وباقي المدن التي كانت المجاميع المسلحة تنشط فيها.
المرحلة الصعبة
"كان بيت جدي مقرا لحلقات الذكر، وكنا نحيي واحدة أو اثنين أسبوعيا، وفي عاشوراء والمولد النبوي كنا نقيم الحلقات يوميا لأسابيع"، يقول عبد الرحمن المشهداني في حديث لموقع (ارفع صوتك).
ويضيف "يوتيوب أصبح الوسيلة الوحيدة لمتابعة حلقات الذكر في هذه الأيام".
وبالنسبة للكثيرين في العراق قبل دخول الإنترنت والقنوات الفضائية، وبغض النظر عن الخلفية المذهبية أو الدينية، فإن حضور حلقات الذكر تعد وسيلة أكثر امتاعا لقضاء الليل من متابعة واحدة من قناتي التلفزيون الرسميتين (والوحيدتين) في البلاد، أو القناة الثالثة التي يمتلكها ابن الرئيس، والتي تقدم كلها عادة أخبارا رسمية أو أفلاما معادة.
"أنا لست متصوفا، ولا أنتمي إلى أية طريقة صوفية، لكنني أعتقد أن الصوفيين هم الأفضل حاليا بين الإسلاميين، على الأقل هم لا يؤمنون بالعنف". لكن داعش لا تتفق مع عبد الرحمن في هذا "التفضيل" كما يبدو، فقد "عاقب" التنظيم الصوفيين بوحشية كبيرة.
أسموهم "سحرة"
بعد ستة أشهر فقط من سيطرته على منطقة العلم، شمال تكريت في محافظة صلاح الدين، أعلن داعش إعدام "ساحر"، وبث مقاطعا تصور عملية إعدامه، وصورا لمسابح صلاة، وراية خضراء مكتوب عليها "السلام على الحسين" في إشارة الى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب.
كتب التنظيم تحت الصورة التي تظهر فيها هذه الأشياء "الطلاسم والعبارات الشركية التي كانت بحوزة الساحر".
حرص التنظيم بعد هذه الحادثة على بث تسجيلات لعمليات إعدام العديد من المتصوفين في إصداراته في العراق وسورية وحتى سيناء في مصر.
وبالنسبة لداعش، فقد يكون المتصوفة هم المجموعة الإسلامية الوحيدة التي نافست الشيعة في نصيبها من جرائم التنظيم، بالطبع هو لا يعترف بأنهم مسلمون أصلا، ويحرص على وصفهم بالمشركين، القبوريين، والسحرة.
نحن لسنا سحرة
لأكثر من أربع أو خمس مرات في أقل من ساعة، حرص الشيخ مروان العبيدي، المدير التنفيذي لـ"المجمع الأعلى للتصوف في العراق"، على نفي هذه التهمة.
"نحن لسنا سحرة" يصر العبيدي بشدة.
"الصوفيون يؤمنون بالحب، لا يؤمنون بالعنف، متسامحون، وغير طائفيين، ولهذا يكرهنا داعش"، يقول العبيدي في حديث لموقع (ارفع صوتك).
ولا يبدو أن "داعش" لوحده من "يكره" الصوفيين، فهناك فتاوى من فرق إسلامية كثيرة وتهم أخفها "الضلال" وممارسة "الطقوس الكفرية" واباحة "الموسيقى وأدوات اللهو" و"إدخال البدع" إلى الدين، ويمتد بعضها إلى الاتهام "بالسحر" و"عبادة القبور" وغيرها.
لكن الشيخ مروان العبيدي يقول إن "التصوف ليس مذهبا إسلاميا وانما طريقة تعبدية" ويستطرد "هناك شوافع وأحناف وشيعة بين المتصوفة".
"مطرقة" السلفية.. و "سندان" الشيعة؟
يقول شيخ سلفي عراقي، رفض الكشف عن اسمه إن داعش "غالى كثيرا" في طريقة تعامله مع الشيعة والصوفية.
وبحسب الشيخ، الذي قال إن كشف اسمه قد يعرضه إلى الاحراج وسط مجتمعه فأن "الشيعة والصوفية مسلمون، والصالحون منهم في الجنة بكل تأكيد، وقتلهم خطيئة كبيرة".
ويقول إن هذا ليس رأيه لوحده، لكنه يعترف أن "ابن عثيمين وابن باز" قاما بالحكم على الصوفية والشيعة بالكفر بناء على ما وصلهما من أخبار، فجاء الحكم متطرفا ومغاليا"، بحسب وصفه.
مع هذا فإن الشيخ حرص على أن يتبع اسمي الشيخين السعوديين بكلمة رحمهما الله، و"برر لهما" بالقول "لم يكن هناك إذاعات أو تلفاز أو وسائل اتصال وتحقق، والأخبار التي وصلت عن الشيعة والمتصوفة كانت تشير إلى تصرفات غريبة، ولهذا كفرهم الشيخان".
"الطقوس هي موضع الخلاف الأكبر" يقول الشيخ السلفي.
ومع أن داعش كان يقتل المتصوفة باعتبارهم "قبوريين" أي يقومون بعبادة القبور كما يحاول أن يروج، وهي التهمة نفسها التي يقتل الشيعة على أساسها، إلا أن الشيعة ليسوا أقرب إلى الصوفية كما يعتقد داعش، أو كما يحاول أن يروج.
رجل الدين الشيعي حسين علي يعترف أن "هناك عددا كبيرا من مراجع الشيعة يعتبر المتصوفة مغالين، أو حتى كفارا، والموضوع ليس بسبب الطقوس فحسب، وإنما أيضا بسبب بعض العقائد الصوفية مثل وحدة الوجود ووحدة الشهود وغيرها"، بحسب وصف الشيخ.
"التصوف لقاح التطرف"
وعلى الرغم من كل هذا، فإن التصوف يبدو صعب "الاستئصال".
يقول محمد الدليمي، وهو مهندس من أهالي الفلوجة "إن التكايا عادت لتنتشر في الفلوجة الآن".
والتكايا جمع تكية، وهو مكان إقامة حلقات الذكر الأسبوعية، وقد يعيش في التكايا أيضا بعض "الدروايش".
يضيف محمد أن "الفلوجة بشكل عام مدينة صوفية، والوجود السلفي فيها وجود بتأثير من خارج المدينة"، مؤكدا أن "التصوف منتشر بشكل كبير بين أبناء المدينة".
ويؤكد الدليمي أن "أعداد المنتمين للطرق الصوفية لم تقلّ أبدا، وربما العكس، حتى خلال فترة داعش"، وبحسب تعبيره فإن "التصوف يعتبر لقاحا مهما ضد التطرف، المتصوفة لا يؤمنون بالعنف، ويحبون السلام، ولا يثورون على الحكومات أبدا".
الحكومة تعرف هذا؟
بحسب وزارة الداخلية، فالجواب سيكون "نعم".
يقول الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية وعمليات بغداد العميد سعد معن إن "المناهج الصوفية هي ضد عملية التطرف وضد ممارسات داعش".
وبحسب معن فإن "المتصوفة يساندون القوات الأمنية".
ورغم أنه لا أحد يقول هذا صراحة، فإن الحكومة تبدو راغبة بدعم التصوف والطرق الصوفية، ربما لإعادة التوازن وخلق بديل شرعي يجذب المتدينين الشباب، يقول "المجمع الأعلى للتصوف" إن "الوقف السني وعد بإعادة فتح التكايا، وتخصيص موازنة لها".
ويبدو هذا التوجه موازيا لبرامج أخرى يطلقها الوقف السني لـ"محاربة التطرف"، وتشمل برامج اختبارات ودورات شرعية وإقالات لائمة مساجد يوصفون بالمتطرفين.
ليست الحكومة وحدها
في الفلوجة مثلا عادت حلقات الذكر بعد 20 يوما فقط من تحريرها، ولاتزال مستمرة حتى الآن بشكل يومي تقريبا.
وربما لم تكن الحكومة او الوقف السني وحدهما من انتبه إلى الإمكانات الواعدة التي يمتلكها التصوف.
يقول عثمان المشهداني، وهو من أهالي الفلوجة إن هناك "تحركا صوفيا جديدا يبدو قريبا جدا من الأحزاب الشيعية الحاكمة".
يمتلك موقع (ارفع صوتك) معلومات عن هذا التيار، تشمل اسمه وأسماء شيوخه، لكن تعذر الاتصال بهم أو تأكيد معلومات المتحدث، لهذا فلن يذكر الاسم.
يضيف المشهداني "يمتلك شيوخ هذا التوجه سيارات حديثة، وحمايات، ويلتقي عندهم قادة الفصائل المسلحة المنتشرة في الفلوجة وغيرها، ويبدون نافذين، وأثرياء".
"لا نحبهم كثيرا، ارتباطهم مريب"، يستطرد المشهداني.
مع هذا فإن (المجمع الأعلى للتصوف) يقول إن اهل الفلوجة يدعمون الحلقات الصوفية بقوة، وهناك الكثير من التبرعات لهم، كما أن الموصل، والرمادي، وباقي مدن نينوى وصلاح الدين والأنبار، تشهد عودة "كبيرة جدا" للتصوف والمتصوفين.