علي عبد الأمير*
في غروب 16/1/1991 قرر صديقي البدء في كتابة يومياته، ضمن محاولة فعل شيء في مشهد ذاهب إلى العدم، إلى "العد التنازلي لموتنا"، كما تظهر تلك اليوميات التي تبدأ:
"بالأمس انتهت المهلة التي حددتها الأمم المتحدة لانسحاب العراق من الكويت، ومنذ يوم أمس بات يحق لقوات التحالف استخدام القوة لتحقيق ذلك. هدوء بارد يحط على كل شيء، ضباط وحدتنا نزلوا الى الملاجئ تحت الارض، بعضهم يقهقه، ولكن ثمة خوف يتملكه مع انه يؤكد: ليس هناك حرب! فيما أسحب خطواتي خارجاً وسيناريو الموت المثير يكاد يرتسم في رأسي".
ليس صديقي وحسب، من بدأ بكتابة رسائل إلى أصدقائه في بغداد من جبهات الحرب الوشيكة، بل فعل ذلك كثيرون ممن وجدوا أنفسهم مرة أخرى تحت رحمة طغيان الحروب والموت الذي يمسك بتلابيب البلاد وكل ملمح للحياة فيها.
"رسائل قد لا تصل غير أنني أودعتها عند أحد الجنود وأرسلت به إلى موقع خلفي لوحدتنا، وأخبرته أن يذهب بها الى حيث العنوان، ساعة أن يسمع موتي أو فقداني".
ويرسم صديقي مشهد اللحظات الأخيرة ما قبل الحرب "غروب بارد، والموسيقى المميزة لفترة برامج الأطفال في التلفزيون أسمعها من إحدى الغرف القريبة لثكنتنا المؤقتة وهي قاعدة جوية مهجورة قرب الحدود مع الكويت، لم تصلنا الصحف منذ أيام وهذا جيد تماماً، لأنني تخلصت من عبء متابعة خطابها الرديء، غير أن عنصر الرداءة ما يزال حاضراً ومؤثراً في كل شيء. أكان ذلك عبر تعليقات الإذاعة وخطاب النصر، والجمعان اللذان يلتقيان عند الحدود: جميع الأخيار -هؤلاء نحن طبعاً- وجمع الأشرار" في لغة تذكرك بعصور الفتوحات والفرسان الذين انقرضوا، فيما الآخر خطط لهزيمتنا على لوحة أزرار معقدة تتحكم بالصواريخ الموجهة. إعلامنا يقول: لا عليكم، هؤلاء عبيد الكومبيوتر وأذلاء التكنولوجيا، الرعاة سيهزمونهم وسيسقطون طائرة الشبح حين يذرون الرمل في عيون الطيارين"!
غروب بارد، غروب بدائي، أفق صحراوي كئيب، بالكاد تقطعه أصوات السيارات العسكرية المسرعة في الطرق الجانبية للثكنات والمواقع العسكرية العراقية الممتدة من الكويت حتى شمال البصرة. صديقي ينزل مسرعاً من رابية قريبة متوجهاً نحو ملجأ آمر الوحدة ليخبره: التشويش، التشويش، أجهزة الرادار توقفت وظلت مجساتها تدور دون اية رسمة على الشاشة"!
هبوب "عاصفة الصحراء"
في الثانية فجر 17/1/1991 نهض صديقي ومعه ملايين العراقيين من نومهم على صوت إطلاق النار من الأسلحة المضادة للطائرات، أصوات بشرية تنادي باضطراب وخطوات مهرولة بين بيوت وقاعات وممرات وشوارع وأقبية وملاجئ، فالضربات الجوية بالطائرات وصواريخ توماهوك تطرق بعنف بالغ. راديو الترانزيستور صار مصدرا لمعرفة ما يحدث على الأرض عبر محطات الإذاعات العربية والعالمية، فيما كان التشويش قد ألغى الإذاعات العراقية تماماً، جاءت إذاعة الامارات فمصر، فـ"صوت أميركا"، ولندن، وفي صياغة شبه موحدة: "بدأت عمليات التحالف الدولي ضد العراق وبموجات من الطائرات راحت تقصف مواقع في كل البلاد". العمليات حملت اسم "عاصفة الصحراء"، وهي فعلا عاصفة رهيبة هبت من صحراء مدججة بأضخم تجمع للسلاح في العالم.
حتى ساعات أولى من الحرب، كانت بالنسبة لصديقي وكما دوّن في مذكراته "هي حرب إذاعات - بالنسبة لوحدتنا على الأقل - لا أحد يعرف ما الذي حصل بالضبط، أركض خلف آمرنا لأسأله ماذا يقول مركز القيادة؟ فيرد عليّ زاجرا بعد أن انقطع الاتصال وأصيب المركز بقذيفة صاروخية على ما يبدو. وبينما الفوضى عمّت الثكنة، صعدت إلى غرفة المطعم، أشعلت شمعة، وضعت قدر الحساء على النار، غرفت من الحساء في صحن مستعمل لم أجد غيره وقضمت رغيفاً من الخبز الأسود اليابس".
في الفجر تعالى صوت القرآن عبر إذاعة "صوت الجماهير" من بغداد، لتبدأ البيانات والخطابات وبينهما شعر شعبي سمج، عبثاً يثير حماسة تافهة بطريقته الرخيصة، وتعليقات هي إنشاء رديء عن النشامى والعز والكبرياء، ثم بدأ يومنا الأول في الحرب يتشكل عبر ما يستجد من الأحداث.
وفيما الطائرات تقصف الأمكنة حولنا، وتمطر قنابل خاصة على مدارج قاعدة جوية قريبة منا ومقذوفات أخرى مخصصة للتوجه الى عمق الملاجئ المحصنة للطائرات، كانت الإذاعات الخارجية تقول: غارات بل موجات متتالية من الغارات على بغداد (آه يا أحلامنا) والقواعد الجوية (هذا ما يحصل فعلاً بالقرب منا) ومواقع الحرس الجمهوري إلى الشمال والغرب من البصرة.
صدام حسين بصوت كأنه آت من مكان ما تحت الأرض أو ملجأ، يخاطب الجيش و"العرب الشرفاء"! وينهي خطابه القصير بجملة فيها ثقة جعلتني، ومثلي ملايين العراقيين، أضحك بصوت خافت: "يا محلى النصر بعون الله" أي نصر ينتظرنا!
الصواريخ والطائرات تنهال على بغداد ومدن كثيرة، فيما أعلن عن انضمام فرنسا إلى الجولات القادمة من الغارات. يكتب صديقي "تعالي يا نيران، وتعالي يا فصول استباحة دمنا، وفجرك مخضب بنثار أجسادنا يا (عاصفة الصحراء)، بلادنا تصدر المحنة والسلطات الغاشمة وتهدي أبناءها إلى فراغات الآفاق ووحشة السواتر والخنادق، انها لا تطيق رؤيتنا نطلع إلى الصباح بروح متجددة، ومنذ أكثر من عقد كامل! فيا للبلاد… يا لمحنتها، يا لخراب أيامنا".
موتنا المجاني: 27/1/1991
يقول الشاعر جاك بريفير: "الحرب… يا للغباء"، أتذكره وأنا أنزل من الطابق العلوي لأحدى بنايات مجمعنا السكني، إلى الطابق الأول حيث مكتبي الصغير لأعمال استنساخ الوثائق الشخصية وطبع البحوث والدراسات الجامعية، حاملا معي الراديو الصغير. لم أدخل الملجأ حتى الآن على الرغم من توالي الغارات وازدياد ضراوتها، وتوالى "مهرجان الألعاب النارية الذي تشعله الأسلحة المضادة" وهو تعبير استخدمه طيّار أميركي أثناء تنفيذه غارة على بغداد.
رحل الجميع الى الملاجئ تحت الارض، وتوزعت المعاول والمجارف حول سياج مجمعنا الخارجي مختارة أشكالاً متعددة من التنفيذ لملجأ سيكون بمثابة وهم خلاص. من أجل هذا راح ثلاثة من جيراننا الذين عرفوا بكسلهم الأسطوري، في سباق من أجل الحفر تحت قشرة الأرض الصلبة الكريهة، بينما غادر معظم السكان بعيدا إلى قرى وأرياف ومدن بعيدة عن بغداد.
صديقي يكتب عن أوضاع ثكنته على الحدود بين البصرة والكويت: "تنهال علي الأوامر بتجهيز عجلات صالحة لتنفيذ واجبات لا تنتهي، المزيد من الوقود، نضائد جاهزة لتشغيل عجلات الأجهزة الرادارية، حفر المزيد من الملاجئ، حراسات، توزيع مياه الشرب، تعويض عتاد الرشاشات الذي تعرض للقصف الجوي فأحاله الى كرات لهب وشظايا، كل ذلك يريده (المقر الأعلى) مرة واحدة ودونما تأخير، لكن من أين؟ وقد تقطعت بنا السبل وأصبحت الحركة البسيطة معرضة للرصد ومن ثم الإصابة الأكيدة، وبالطبع ثمة التهديد في حال التلكؤ بالتنفيذ، آه كيف لي أنجو بنفسي؟ ليس من الحريق الشامل، بل من فوضى واضطراب عقليات ضحلة وأذهان تمتلئ بكل ما هو متعارض مع المنطق. بمثل هذه القيادات يراد لنا أن نهزم التحالف الشديد البأس"!
على مجمعنا ينزل المطر الآن وتبتل عماراته ويلتمع الأسفلت في شوارعه، علّها غيمة تخمد النار؟
أمنية باهتة تشتتها الوقائع المشتعلة لأحداث القصف والرد الذي جاء مخيباً للآمال من وحدات الدفاع الجوي العراقية، فثمة كلام عن إسقاط طائرات لكن لا حطام إلا القليل الذي يتضارب مع الأرقام الإعلامية.
وإعلامنا مهد لهزيمتنا، فمن غير المعقول أن يظل يردد أغنيات فقط، رديئة اللحن وبشعة في اختيار الكلام: الأغنية التي يرددها بصوته الأجش ، المطرب ياس خضر، وتتحدث عن "روعة صدام وعصره الذهبي"!
لا ترد إشارة أو تعليق مناسب حول الأحداث، لا نشرات أخبار تتوفر فيها علاقة مع ما يحدث في الميدان، وكأنك تسمع إذاعة تبث من كوكب آخر، وليس إذاعة دولة تحارب في العمق العميق منها. هزيمة إعلامية كنت أتوقعها لكن ليس بهذا الشكل المخزي، وجعلتني أتحسب لأخرى مثلها في الميدان.
متى ننتهي من روزنامة حياة يحددها القتلة وندخل الى السلام- المعنى الذي يتهشم مع شهوة السلطة واستباحة دمنا: الطفولة في بلادنا مغدورة فيا للأمهات وأوجاعهن، يا لحيرة الآباء وندمهم - لماذا يقتل أولادهم في الحرب تلو الحرب؟ يا لمواسم قتلنا المجاني.
17/1/2018
العاصفة التي هبّت على العراق قبل 27 عاما توالت أعاصير وزوابع لم تهدأ حتى اليوم.