علي عبد الأمير ومشعل العبيد
في مدخل مركز الأورام السرطانية في البصرة، ثمة عشرات المصابين بالأمراض السرطانية وأغلبهم تم الكشف عن حالاتهم بشكل متأخر، أما لجهل المريض أو لتقاعسه عن الكشف الدوري.
ويروي عباس (50 عاما) أنه فوجئ لدى زيارته لأحد الأطباء بوجود غدد سرطانية في جسمه ليراجع مركز الأورام السرطانية حيث تلقى علاجا كيميائيا رقد على أثره أياما في إحدى غرف المركز للمتابعة.
وتقطع بشيرة صالح مئات الكيلومترات من مدينة السماوة إلى البصرة لعلاج ولدها (7 سنوات) من الإصابة بسرطان الغدد اللمفاوية بعد أن جالت به على أطباء مدينتها ومحافظة النجف، ولم يبق لها سبيل سوى مستشفى الطفل بالبصرة لأخذ العلاج الكيميائي، ولأن بشيرة لا تملك أجرة السيارة التي توصلها إلى المستشفى فقد تبرع بإيصالها أحد الخيرين.
أما زينب عواد وتسكن قضاء الزبير غرب البصرة، فهي والدة منصور الطالب في السادس الابتدائي و المصاب بالسرطان فتقول ان إصابة ولدها تعود إلى التلوث البيئي، حيث تنتشر في الزبير حقول نفطية فضلا عن مواقع سكراب الحديد الملوث باليورانيوم المنضب.
ويؤكد مختصون في مجال حماية البيئة، انتشار "التلوث الإشعاعي الخطير" الناجم عن ذخائر "اليورانيوم المنضب" بعد جلب أجزاء من مدرعات عراقية شاركت في حرب "عاصفة الصحراء" إلى داخل المدن.
وما زاد من عمق المأساة وتنامي الإصابات سببان:
1- قرار الموافقة في 2004 على تقطيع وبيع الآليات العسكرية المعطوبة من الحروب السابقة.
2- "تحريك الموت" من جبهات حفر الباطن، عبر نقل الآليات والقطع العسكرية إلى أقضية ونواح وأحياء مختلفة من البصرة، مثل أبو الخصيب والفاو والقرنة والدير والزبير والحيانية، حيث مناطق بيع سكراب الحديد ومخلفات الآليات العسكرية.
مقابر الأسلحة.. معامل السرطان
آلاف الاطنان من مخلفات الحروب المتعاقبة على العراق جمعت في أماكن غير آمنة وقريبة من مساكن المواطنين رغم إن أغلبها تم الكشف عليه من قبل دوائر البيئة التي وجدتها محتوية على نسب متفاوتة من الإشعاع.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2009 بدأ مشروع نقل الأهداف الملوثة باليورانيوم من البصرة، بتمويل فيلق الاعمار الأميركي، وبأشراف وزارتي البيئة والعلوم والتكنولوجيا العراقيتين، وتم نقل محتويات جميع المواقع الملوثة من داخل مركز مدينة البصرة.
ولكن، توافرت عوامل عدة لـ"وأد المشروع" بعد عام على انطلاقه، منها تدخل مسؤولين في البصرة بعملية إخلاء بعض المواقع لارتباطهم بعلاقات مع أصحاب مواقع تجميع سكراب الحديد، وتخلي الأميركيين عن دعم المشروع بعد أن لمسوا ضعف قرارات الحكومة المحلية.
ومن بين القطع المسروقة، أبراج دبابات، جرى تقطيعها بشكل هندسي لتستخدم في معامل تكسير الحصى، وكذلك أبدان ناقلات مدرعة قطعت كصفائح لصنع السيارات المصفحة.
ويؤكد مدير قسم الإشعاع في مديرية بيئة المنطقة الجنوبية، خاجاك وارتانيان، وجود مواقع ملوثة وتم الكشف عنها و توجد بمنطقة جبل سنام التابعة لقضاء الزبير والبادية الجنوبية جهة خراج وجريشان الحدودية مع الكويت والسعودية، مبيناً في حديث إلى (ارفع صوتك) أن مبنى الاذاعة والتلفزيون القديم هو الموقع الوحيد وسط مدينة البصرة الذي توجد به مواد ملوثة.
ودعا وارتانيان إلى الابتعاد عن تلك المناطق بمسافات جيدة موضحا أن مناطق شرق البصرة تخلو من المناطق الملوثة وتكثر في المناطق الغربية خصوصا لأنها تعرضت للقصف بقذائف اليورانيوم المنضب في عملية "عاصفة الصحراء" 1991.
ومن بين الأماكن كما يؤكد وارتانيان التي عملت دائرة بيئة البصرة على إزالة المواد والأتربة الملوثة منها: معمل الحديد والصلب وبالذات في أحد الأفران والعمل مستمر على إزالته منذ أكثر من خمس سنوات والمتبقي هو نقل التربة والمواد الملوثة إلى مواقع الطمر.
ونوه وارتانيان إلى أن العمل جار للتخلص مما هو موجود في هذه المواقع الملوثة خصوصا في موقع تجميع موقت في الصحراء يسمى "مقبرة الدبابات" وتبعد 170 كيلو مترا عن البصرة التي عاش سكانها لسنوات "بين أنقاض خلفتها الحرب حيث حملت الرياح غبار صدئها بني اللون الى منازل العراقيين وطعامهم ورئاتهم".
وتقول بشرى علي من ادارة الوقاية من الإشعاع التابعة لوزارة البيئة العراقية "تشير معلوماتنا الى أن هناك أكثر من 200 كيلومتر مربع من الأراضي جنوبي البصرة تحتوي على مخلفات الحرب بعضها ملوث بيورانيوم مستنفد"، وهو معدن ثقيل يستخدم في القذائف المخصصة لاختراق المدرعات الثقيلة مثل الدبابات.
مختصون يحذرون والحكومة تطمئن
ووفق إحصائية قدمها استشاري طب الأطفال في البصرة الدكتور حسام محمود، تدخل المستشفى من 15-20 حالة إصابة شهريا ومن 200-250 حالة جديدة سنويا فالمستشفى يغطي المنطقة الجنوبية من محافظة البصرة إلى السماوة.
وهذا يتصل بما كان قد أعلنه سابقا مدير مركز السيطرة على السرطان في البصرة الدكتور كريم عبد السادة "في سنة 2005 استقبل مركزنا 500 حالة، بينما كان عدد حالات السرطان المسجلة لمجمل عقد التسعينيات 1160 حالة، وبما يعني أن ما يقرب من نصف ما سجل في 10 سنوات حدث في سنة واحدة".
وتسارعت الزيادة على نحو خطر، إذ سجل المركز 2082 مصابا في 2009 (4 أضعاف المرضى في 2005)، فيما قفز الرقم إلى 2538 في 2010، أي أكثر من ضعف ما رصده المركز خلال عقد التسعينيات، يوضح الدكتور عبد السادة .
لكن عضوة لجنة الصحة في مجلس البصرة، صفاء بندر، بيّنت أن "نسب الإصابة في أمراض السرطان هي ضمن المعدل الطبيعي في محافظة البصرة".
لكن هذا التطمين الحكومي لا ينفي الحاجة لمزيد من الاستقصاء والبحث لمعرفة ما إذا كانت الإصابات في تزايد وهل هي مرهونة ومترابطة طرديا مع الملوثات البيئية؟
ويؤشر مدير مستشفى الطفل التخصصي الدكتور علي العيداني أسباب السرطان الذي يصيب الصغار والكبار فهي "متعددة لكن الإصابة بين أبناء الطبقة الفقيرة أكثر كونهم يعيشون في مناطق ملوثة ومناعتهم قليلة وتغذيتهم سيئة".
ويكلّف علاج حالات السرطان أكثر من عشرين ضعفا عن العلاجات الاعتيادية ويتراوح بين 600 و700 دولار، بحسب مدير مستشفى الطفل الدكتور علي العيداني، الذي يستدرك أن التقشف الذي عملت به الحكومة الاتحادية أثّر على القطاع الصحي بشكل عام وعلى علاجات السرطان بشكل خاص لأنها غير متوفرة في العراق وتستورد من خارج البلاد.