مبنى في شارع الرشيد ببغداد/وكالة الصحافة الفرنسية
مبنى في شارع الرشيد ببغداد/وكالة الصحافة الفرنسية

في حديقة القشلة بشارع المتنبي التي يزورها الكثير من العراقيين كل جمعة، تشاجر أحمد كاظم (48 عاما) مع مجموعة من الشباب، وسط سخرية بعض المارة ومداخلات آخرين علت أصواتهم تعبيرا عن تأييدهم لوجهة نظره.

في هذه الحديقة، تدور نقاشات بين أحمد الذي يصف نفسه بأنّه متديّن باعتدال وبعض الشبان الآخرين، بعضهم أكثر تشددا في الدين وبعضهم يقولون إنهم ملحدون.

"عندما أتحدث مع شباب يريدون أن يقنعوني بإلحادهم، وأواجههم بنقاش علمي بأنهم لا يفهمون توجهاتهم، يتهمونني بأنني متطرف"، يقول أحمد.

يقول أحمد إنّه يساند فصل الدين عن الدولة وأنه مقتنع بالعلمانية. "هذا لا يجعلني ملحدا. الكثير من الشباب لا يفهمون فعلا ما هو الإلحاد. لديهم فقط ميول للابتعاد عن الدين. أحيانا أكاد أقول إن الإلحاد غير موجود في البلاد".

ويشير إلى أن أحدهم كان يدعي لسنوات بأنه لا ديني وملحد، ولكن ما أن أصيبت ابنته بمرض عضال، حتى قام بتوزيع (خبز العباس) وهو من العادات الدينية في طلب المراد والدعاء.

"هذه حال غالبية من يقول إنه ملحد. يعزي عائلة الميت بالقول: البقاء لله، وعندما تصيبه شدة يطلب المراد ويزور بيوت الله والأولياء الصالحين وهكذا". 

وبسخرية يقول "لا يمكنني تسمية هذا النوع من الأشخاص إلاّ بأنه ملحد إسلامي".

ملاحقات أمنية

وقد أثار جدلا حاداً بداية شهر آذار/مارس خبر ملاحقة الأجهزة الأمنية لأشخاص لهم توجهات إلحادية في قضاء الغراف شمال محافظة ذي قار.

وحسب قائممقام قضاء الغراف ضيدان عبود ضاحي، أوقف واحد من ضمن هؤلاء الأشخاص الذين "يحاولون إشاعة ثقافة عدم وجود (الله) ونشر الإلحاد".

ويقول شاكر طالب، وهو رجل قانون، إنه لا يقتنع أنهم ملحدون بالمعنى الحقيقي، لأن طبيعة المجتمع العراقي وخاصة في المناطق والمدن الجنوبية تعتمد بالأساس على التقاليد العشائرية المستمدة بالأساس من الدين.

ويضيف أن "اتخاذ هكذا إجراءات غير صحيحة، ولكن من الواضح أن لها علاقة بتوجهات سياسية خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية".

ويتابع أنه بعد انتهاء معارك القضاء على داعش، المفروض أن تبدأ الجهات الأمنية باحتواء الازمات وخاصة المتعلقة بالدين بشكل لا يدعو الناس إلى الريبة والقلق من فكرة انتشار التطرف وعدم القدرة على التخلص منه.

وينص الدستور العراقي في المادة 41 منه على أن العراقيين أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية، حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم.

ويؤكد شاكر أن قانون العقوبات لا يعاقب على الإلحاد، ويعتقد ان الهدف من الملاحقات  "إثارة الرعب من الارتداد عن الدين وهذا يدخل ضمن قمع الحريات المدنية".

ويعاقب قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنه 1969 المعدل وفي باب الجرائم الاجتماعية الفصل الثاني تحت عنوان (الجرائم التي تمس الشعور الديني) بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات أو بغرامة لا تزيد على ثلاثمئة دينار من يعتدي على الأديان أو يخرّب رموزها وبيوت العبادة أو يهين ما هو مقدّس لدى الطوائف.

المتشددون دينيا

شهدت البلاد في سنوات سابقة محاولات شبيهة قادها مسلحون مجهولون ضد ما وصف بـ"غياب المعتقد الديني" أو الإلحاد.

ففي عام 2006، بدأ متشددون من الطائفتين السنية والشيعية بملاحقة كل من لا يلتزم بتعاليم الشريعة الاسلامية وقاموا بمعاقبة الكثير منهم بالتعذيب والاختطاف والقتل.

وقد أجبرت هذه الظروف الكثير من العراقيين على الهرب أو الهجرة خشية استهدافهم ليس فقط بسبب ضعف الالتزام الديني بل أيضا لاختلاف الطائفة الدينية أو المكون الديني.

مخالفة تقاليد المجتمع

يقول وليد، وهو شاب عشريني، إنه ملحد وبعيد عن تطبيق تعاليم الدين الإسلامي على عكس رغبة والديه. ويحلم بالتخلص من استهجان الناس ومحاربتهم له والتدخل بحريته الشخصية كلما علموا بألحاده.

لم يكن الدخول بالإلحاد بالنسبة لوليد مهمة صعبة رغم أنه يعيش في عائلة محافظة ومتدينة. "الديانات لم تتسبب لنا إلاّ بالخراب والدمار، لقد عذبوا الناس وقتلوهم باسم الدين الإسلامي. والاكثر من ذلك أن المتدين يبيح لنفسه الاستيلاء على حقوق الآخرين وحريتهم، فلماذا لا أكون مختلفاً عنهم كحال الكثير من الشباب اليوم".

ولكن وليد لا يعرف عن الإلحاد غير ما ينشر بمواقع الإنترنت والتواصل الاجتماعي. كما ولا يتوانى بمشاركة عائلته في تأدية بعض الطقوس الدينية المتعارفة.

"لا أستطيع ألاّ أرفض تأدية خدمة لأمي أذا طلبت مني مساعدتها، لأن ذلك بمثابة مخالفة لتقاليد المجتمع وعصيانها".

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.