يبكون أقاربهم الذين قتلوا في حادثة غرق العبّارة
يبكون أقاربهم الذين قتلوا في حادثة غرق العبّارة

حازم الأمين/موقع الحرة

تصلح كارثة غرق العبارة العراقية لأن تكون مناسبة لعرض أحوال العراق، ذاك أن هذا الغرق الكبير هو لحظة رمزية تتكثف فيها صور غرق العراق كله. النظر إلى الكارثة من مسافة ليست بعيدة تتيح ضم كوارث موازية إلى مشهد نهر دجلة، الذي كان من المفترض أن يكون "دجلة الخير" بحسب شاعر العراق محمد مهدي الجواهري. عَبّارة تغرق أثناء نقلها محتفلين بـ"الربيعين" من ضفة دجلة اليسرى إلى ضفته اليمنى. على هاتين الضفتين تقع مدينة العراق المنكوبة، أي الموصل! المدينة التي تعاقبت النكبات عليها منذ ما قبل السقوط الأول. المدينة التي عاقبها البعث بسبب "ناصريتها"، وعاقبتها الأحزاب الدينية الشيعية بسبب "سنيتها"، وعاقبها "داعش" بسبب صوفيتها. وها هو "دجلة الخير" ينضم إلى المُعَاقبين، فيقتل أكثر من مئة من أهلها.

خراب هائل على ضفتي النهر، وقصة فشل العراق كلها تتكثف في تلك المدينة المنكوبة

​​والحال أن ليس دجلة من قتل بالأمس المئة "موصلاوي"، فالنهر فعلا هو عصب المدينة، وضفتيه اللتين تضمان اليوم جزئي مشهد الكارثة المقيمة في المدينة، لطالما كانتا عونا لأهل المدينة في تغنيهم فيها. والنهر إذ يخترق الصحراء في تلك الجغرافيا، يُنشئ لأهل الموصل لغة من مائه وحياة من أسماكه، فتقيم "أم الربيعين" على ضفتيه ويشرع أهلها بتبادل العبور من خلال الجسور الخمسة. وحين تكبر العائلة في الضفة اليمنى ترسل فرعها الجديد إلى الشاطئ الأيسر، وينام الأطفال على بعد ضفة من منازل أجدادهم.

افتتح صدام حسين زمن النكبات عندما أرسل عشرات الآلاف من جنود المدينة إلى جبهات حربيه مع إيران ومع الكويت، لكن المدينة نفسها بقيت بمنأى عن الاستهداف المباشر. اقتصر الأمر على استقبالها توابيت الجنود. وهذه التوابيت لطالما عبرت دجلة بأمان. كل هذا والمدينة كانت تخوض حرب غيرها من المدن المحببة إلى قلب "الرئيس الضرورة"، أي تكريت.

وبعدها كان السقوط الأول، الذي أتيح لي أن أعاينه، ذلك أنني وصلت إلى المدينة قبل ساعات من وصول الجيش الأميركي إليها. في حينها شهدت لحظة انهيار شيء في المدينة. انهيار "روح الموصل" إذا ما صحت العبارة. في حينها فقدت المدينة عقلها، وراحت ارتجاجات غامضة تدفع الناس نحو تصرفات يجهلون، ونجهل معهم، إلى ماذا ستفضي! بكاء وضحك في آن واحد، خوف ممزوج بحيرة وبانعدام القدرة على الفهم. وفي حينها، وحده دجلة كان هادئا فعبرناه قاصدين أهل الضفة اليمنى.

وبين السقوط الأول والسقوط الثاني (أي بين العامين 2003 و2014) كانت المدينة محكومة من قبل الآخرين، وهذه المرة لم يكونوا أهل تكريت، إنما أهل النجف وكربلاء وبغداد، وهؤلاء هم من تولى تسليم الموصل لـ"داعش" يدا بيد. فدخلت "داعش" المدينة من يمينها هذه المرة. تدفقت من الصحراء، واحتل أهل البادية حاضرتهم. عبروا دجلة من ضفته اليمنى إلى ضفته اليسرى. والنهر لم يبد أي اعتراض، ذاك أن مهمته تقتصر على نقل الراغبين في العبور من دون التدقيق بهوياتهم.

وحين تم تحرير الموصل من "داعش" كنت هناك أيضا؛ المدينة قبل أن تتحسس حجم الكارثة شَعَرت بأنها تحررت فعلا، ذاك أن التنظيم كان جاثما على صدر أهلها بالفعل، لكن ما هي إلا أيام قليلة حتى اكتشف أهل الموصل حجم الكارثة التي حلت بمدينتهم. كانت الحرب بين "الأيسر" و"الأيمن"، ودجلة في حينها كان يفصل بين "غزاة تكفيرين" و"غزاة من الشيعة"، فيما غزاة آخرون يعبرون بطائراتهم في سماء دجلة غير آبهين لشروط العبور.

العراق الغني، فقير وجائع، والعراق الجميل يتعاقب على حكمه قبيحون

​​اليوم، خراب هائل على ضفتي النهر، وقصة فشل العراق كلها تتكثف في تلك المدينة المنكوبة. فشل في السياسة وفي الاقتصاد وفي التمثيل البرلماني وفي إدارة الحياة. وها هو النهر يرتكب حماقته الأخيرة فيقتل من أهل نينوى مئة، ويفر الجناة الحقيقيون من أهل الفساد وجني الثروات.

العراق صاحب أكبر احتياطي نفط في العالم على وشك انهيار اقتصادي كبير. والعراق صاحب أكبر نهرين في الشرق (دجلة والفرات) عطشٌ، وتقتصر وظيفة النهرين على ما يرسمانه من خطوط قتال وانقسام. العراق الذي تخلص من أعتى ديكتاتورية في هذا الزمن عالق اليوم في حكم أحزاب دينية رهنت قراره لدولة مجاورة وسرقت ثرواته. العراق صاحب لوحة أقليات مذهلة في تنوعها يطرد أقلياته. والعراق تدفع حكومته رواتب ميليشيات تحتل الموصل وتقاتل في سوريا. والعراق الغني، فقير وجائع، والعراق الجميل يتعاقب على حكمه قبيحون، وعراق "دجلة الخير" يقتل مئة بريء، وينجو الفاعل، ويمثل النهر أمام قضاة قاطعي رؤوس.

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

أسرى
أسرى عراقيون خلال الحرب الإيرانية العراقية- أرشيفية

لا يزال ملف أسرى ومفقودي الحرب العراقية الإيرانية، ورغم اعلان البلدين اغلاقه منذ عام 2011، يشكّل أحد أبرز الملفات العالقة التي تنتظر التسوية بينهما وسط مطالبات ذوي الضحايا بالكشف عن مصير أبنائهم.

وتنتظر الآلاف من العائلات العراقية عودة أبنائها الاسرى، الذين لا يزال مصيرهم مجهولاً، رغم مرور 35 عاماً على انتهاء الحرب و43 عاما على انطلاقتها وقد استمرت 8 سنوات، اسفرت وبحسب احصائيات دولية عن مقتل أكثر من مليون و100 الف شخص من الجانبين، وتدمير البنية التحتية والاقتصادية للبلدين وخلفت نحو مليوني جريح وأكثر من 200 ألف اسير ومفقود.

ويتبادل البلدان بين الحين والآخر رفات الجنود الذين قضوا خلال الحرب سواء الاسرى الذي توفوا في معسكرات الأسر او رفات الجنود الذين قتلوا على الشريط الحدودي بين الجانبين.

وفي سياق تقصي ملف الاسرى والمفقودين العراقيين وآخر التطورات التي شهدها هذا الملف، ومن أججل معرفة العدد الحقيقي للأسرى العراقيين المتبقين في إيران، تواصل موقع "ارفع صوتك" مع مسؤولين عراقيين للحديث عن الموضوع، لكن لم يدل أي منهم باي تصريحات عن هذا الملف.

واعتذر المتحدث باسم الحكومة العراقية، باسم العوادي، عن التصريح حول الملف مكتفيا بالقول لـ"ارفع صوتك"، "لا يوجد لدينا تعليق حول هذا الموضوع".

ولم تتوقف عمليات بحث العوائل العراقية عن ذويها من الاسرى ومن المفقودين خلال السنوات الماضية، التي أعقبت سقوط نظام الرئيس العراقي صدام حسين عام 2003. حتى ان عددا من العوائل سافرت الى إيران للبحث عن ذويها، كما تروي لـ"ارفع صوتك" مروة عبدالمحسن، وهي عراقية من بغداد مازال مصير خالها مجهولاً منذ مطلع الثمانينيات، ومازالت تواصل البحث عن مصيره.

تضيف عبدالمحسن:"عندما فقد خالي كنت حينها 9 سنوات، العائلة تلقت بعد مدة من فقدانه رسالة منه وكنا سعداء لأنه أسير حي، لكن هذه السعادة لم تدم طويلا فبعد عامين من الرسائل التي كانت تصلنا بشكل متقطع انقطعت رسائله، حاولنا عبر مراجعة الجهات المعنية معرفة مصيره لكن لم نحصل على أي معلومات، ومع بدء تبادل الأسرى بين البلدين بعد الحرب كانت جدتي تزور الأسرى العائدين وتعرض عليهم اسم ومواصفات خالي آملة أن يتعرفوا إليه، واستمر بحثها الى ما بعد العام 2003 حيث ذكر لها عدد من الاسرى العائدين أنه موجود في السجون الإيرانية مع عدد اخر من الأسرى الذين لم يطلق سراحهم بعد".

زار افراد من عائلة مروة إيران عدة مرات للبحث عن خالها محاولين معرفة السجن الذي يتواجد فيه للعمل على اطلاقه لكنهم لم يتوصلوا الى أي نتيجة، وبحسب مروة، توصلت عائلتها الى معلومات تفيد أن "من تبقى من الاسرى في إيران محكومون بالسجن لسنوات ولن تطلق إيران سراحهم، الا بعد قضاء مدة حجزهم وغالبيتها مدد طويلة تصل الى 60 او 70 وحتى 90 عاما".

وتشير أرقام الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط العراقية الى أن اعداد المفقودين العراقيين في الحرب العراقية الإيرانية بلغت 52785 مفقوداً، فيما يبلغ عدد الأسرى الذين لم يحدد حتى الآن مصيرهم 169 اسيرا.

وتؤكد احصائيات الجهاز على عودة 8467 أسيرا عراقيا خلال الفترة الممتدة ما بين الأعوام 2003 ولغاية 2012، فيما بلغ عدد الأسرى المتوفين في معسكرات الاسر الإيرانية 1627 اسيراً، تسلم العراق حتى عام 2012 رفات 1166 منهم، فيما الإجراءات مستمرة للحصول على رفات الآخرين المدفونين في إيران والبالغ عددهم 461.

وتشير المتحدثة الرسمية باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في العراق، هبة عدنان، الى التأثيرات العاطفية والنفسية لفقدان أفراد العائلة في الحرب العراقية الإيرانية انتقلت عبر الأجيال بما يشكل الصدمة، "نلاحظ هذا من خلال التفاعل مع العائلات التي تزور مركز الزبير في محافظة البصرة لاسترداد رفات أقاربها المفقودين"، كما تقول عدنان.

وتلفت عدنان الى أنه وبحسب إعلان كلا الحكومتين، فإن ملف الأسرى قد اغلق رسمياً، وجرى آخر تبادل للأسرى بينهما عام 2003 تحت إشراف اللجنة الدولية للصليب الاحمر.

وتضيف عدنان لـ"ارفع صوتك": "اغلاق ملف أسرى الحرب لا يعني توقف البحث عن الاشخاص الذين لا يزالون مفقودين جراء الحرب الايرانية العراقية، فهناك آلية عمل ثلاثية بين العراق وإيران والصليب الأحمر لمعرفة مصير العسكريين الذين فقدوا جراء هذه الحرب وتترأس اللجنة الدولية للصليب الاحمر هذه الآلية منذ العام 2008، وتسهل الحوار وتبادل المعلومات بين العراق وإيران في إطار هذه الآلية"، مشيرة الى أن "الصليب الأحمر يدعم أيضًا جهود السلطات لتوضيح مصير ومكان الأشخاص المفقودين وتشرف على عملية تبادل الرفات البشرية والتي يعثر عليها بشكل دوري".

وتؤكد عدنان أن الآلية هذه تمكنت في العام 2022، من استعادة 236 مجموعة من الرفات البشرية، التي سُلمت من العراق إلى إيران و45 مجموعة سُلمت من إيران إلى العراق. وفي النصف الأول من عام 2023 الحالي، سُلمت 71 مجموعة من الرفات البشرية من العراق إلى إيران و4 مجموعات من الرفات البشرية سُلمت من إيران إلى العراق.

وتضيف عدنان "على الرغم من ان مسؤولية التعرف على الرفات البشرية تقع على عاتق السلطات والدول، مع ذلك فإن اللجنة الدولية للصليب الأحمر تسعى جاهدة لتعزيز قدرات السلطات المحلية من خلال توفير خبرتها المتميزة في جميع أنحاء العالم حول كيفية التعامل مع الرفات البشرية وتقديم المشورة لممارسي الطب الشرعي، وتجهيزهم بالأدوات والخبرات اللازمة حول أفضل الممارسات في عملية الفحص وتحديد الهوية وضمان تطبيق المعايير الدولية في عملية جمع البيانات".

وبحسب احصائيات الجهاز المركزي للإحصاء بلغ عدد رفات الجنود العراقيين، التي استخرجت ما بين الأعوام 1991 ولغاية 2012، من مناطق العمليات على الشريط الحدودي العراقي الإيراني 15883 رفاتاً، بينما بلغ عدد رفات الجنود الإيرانيين المستخرجة من مناطق العمليات خلال الفترة نفسها 399 رفاتاً.