تصلح كارثة غرق العبارة العراقية لأن تكون مناسبة لعرض أحوال العراق، ذاك أن هذا الغرق الكبير هو لحظة رمزية تتكثف فيها صور غرق العراق كله. النظر إلى الكارثة من مسافة ليست بعيدة تتيح ضم كوارث موازية إلى مشهد نهر دجلة، الذي كان من المفترض أن يكون "دجلة الخير" بحسب شاعر العراق محمد مهدي الجواهري. عَبّارة تغرق أثناء نقلها محتفلين بـ"الربيعين" من ضفة دجلة اليسرى إلى ضفته اليمنى. على هاتين الضفتين تقع مدينة العراق المنكوبة، أي الموصل! المدينة التي تعاقبت النكبات عليها منذ ما قبل السقوط الأول. المدينة التي عاقبها البعث بسبب "ناصريتها"، وعاقبتها الأحزاب الدينية الشيعية بسبب "سنيتها"، وعاقبها "داعش" بسبب صوفيتها. وها هو "دجلة الخير" ينضم إلى المُعَاقبين، فيقتل أكثر من مئة من أهلها.
والحال أن ليس دجلة من قتل بالأمس المئة "موصلاوي"، فالنهر فعلا هو عصب المدينة، وضفتيه اللتين تضمان اليوم جزئي مشهد الكارثة المقيمة في المدينة، لطالما كانتا عونا لأهل المدينة في تغنيهم فيها. والنهر إذ يخترق الصحراء في تلك الجغرافيا، يُنشئ لأهل الموصل لغة من مائه وحياة من أسماكه، فتقيم "أم الربيعين" على ضفتيه ويشرع أهلها بتبادل العبور من خلال الجسور الخمسة. وحين تكبر العائلة في الضفة اليمنى ترسل فرعها الجديد إلى الشاطئ الأيسر، وينام الأطفال على بعد ضفة من منازل أجدادهم.
افتتح صدام حسين زمن النكبات عندما أرسل عشرات الآلاف من جنود المدينة إلى جبهات حربيه مع إيران ومع الكويت، لكن المدينة نفسها بقيت بمنأى عن الاستهداف المباشر. اقتصر الأمر على استقبالها توابيت الجنود. وهذه التوابيت لطالما عبرت دجلة بأمان. كل هذا والمدينة كانت تخوض حرب غيرها من المدن المحببة إلى قلب "الرئيس الضرورة"، أي تكريت.
وبعدها كان السقوط الأول، الذي أتيح لي أن أعاينه، ذلك أنني وصلت إلى المدينة قبل ساعات من وصول الجيش الأميركي إليها. في حينها شهدت لحظة انهيار شيء في المدينة. انهيار "روح الموصل" إذا ما صحت العبارة. في حينها فقدت المدينة عقلها، وراحت ارتجاجات غامضة تدفع الناس نحو تصرفات يجهلون، ونجهل معهم، إلى ماذا ستفضي! بكاء وضحك في آن واحد، خوف ممزوج بحيرة وبانعدام القدرة على الفهم. وفي حينها، وحده دجلة كان هادئا فعبرناه قاصدين أهل الضفة اليمنى.
وبين السقوط الأول والسقوط الثاني (أي بين العامين 2003 و2014) كانت المدينة محكومة من قبل الآخرين، وهذه المرة لم يكونوا أهل تكريت، إنما أهل النجف وكربلاء وبغداد، وهؤلاء هم من تولى تسليم الموصل لـ"داعش" يدا بيد. فدخلت "داعش" المدينة من يمينها هذه المرة. تدفقت من الصحراء، واحتل أهل البادية حاضرتهم. عبروا دجلة من ضفته اليمنى إلى ضفته اليسرى. والنهر لم يبد أي اعتراض، ذاك أن مهمته تقتصر على نقل الراغبين في العبور من دون التدقيق بهوياتهم.
وحين تم تحرير الموصل من "داعش" كنت هناك أيضا؛ المدينة قبل أن تتحسس حجم الكارثة شَعَرت بأنها تحررت فعلا، ذاك أن التنظيم كان جاثما على صدر أهلها بالفعل، لكن ما هي إلا أيام قليلة حتى اكتشف أهل الموصل حجم الكارثة التي حلت بمدينتهم. كانت الحرب بين "الأيسر" و"الأيمن"، ودجلة في حينها كان يفصل بين "غزاة تكفيرين" و"غزاة من الشيعة"، فيما غزاة آخرون يعبرون بطائراتهم في سماء دجلة غير آبهين لشروط العبور.
اليوم، خراب هائل على ضفتي النهر، وقصة فشل العراق كلها تتكثف في تلك المدينة المنكوبة. فشل في السياسة وفي الاقتصاد وفي التمثيل البرلماني وفي إدارة الحياة. وها هو النهر يرتكب حماقته الأخيرة فيقتل من أهل نينوى مئة، ويفر الجناة الحقيقيون من أهل الفساد وجني الثروات.
العراق صاحب أكبر احتياطي نفط في العالم على وشك انهيار اقتصادي كبير. والعراق صاحب أكبر نهرين في الشرق (دجلة والفرات) عطشٌ، وتقتصر وظيفة النهرين على ما يرسمانه من خطوط قتال وانقسام. العراق الذي تخلص من أعتى ديكتاتورية في هذا الزمن عالق اليوم في حكم أحزاب دينية رهنت قراره لدولة مجاورة وسرقت ثرواته. العراق صاحب لوحة أقليات مذهلة في تنوعها يطرد أقلياته. والعراق تدفع حكومته رواتب ميليشيات تحتل الموصل وتقاتل في سوريا. والعراق الغني، فقير وجائع، والعراق الجميل يتعاقب على حكمه قبيحون، وعراق "دجلة الخير" يقتل مئة بريء، وينجو الفاعل، ويمثل النهر أمام قضاة قاطعي رؤوس.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).