شارع الرشيد بين زمنين/ ارفع صوتك
شارع الرشيد بين زمنين/ ارفع صوتك

كتب: علي عبد الأمير

قبل نحو قرن وتحديداً في العام 1916، شُقّ شارعٌ ما بين "الباب المعظم" و"الباب الشرقي" في بغداد وعرّف باسم "جادة خليل باشا" نسبة إلى الوالي العثماني الذي أمر بشقه وجعله محاذياً لامتداد نهر دجلة وسط عدد كبير من الأسواق والمحال الشعبية.

الشارع لفرط ما شهد من أحداث، يكاد يختصر في قيامه وبنائه وتشكيل عمارته حال العاصمة العراقية. فهو ازدهر مع خطوات البلاد في انفتاحها على المعاصرة خلال العقود الخمسة الاولى من القرن الماضي. وبدأ تراجعه العمراني الخاص وعموم موقعه الاجتماعي والفكري مع تراجع حال البلاد سياسياً وفكرياً في السنوات الأربعين الماضية، حتى صار خربة ومكباً للنفايات في مناطق كثيرة منه، وتحديداً تلك التي تشهد حركة تجارية ومنها منطقة "الشورجة" و"السوق العربي" وساحة الرصافي وساحة الميدان.

 

تأهيل

وردّاً على الشجب والاستنكار لما يحصل للعمارة العراقية تشكلت لجنة حكومية في عام 2017 تحمل اسم "لجنة الأمر الديواني 55 لعام 2017 " انيطت بها مهمة تأهيل شارع الرشيد، وضمت أعضاء بدرجة وكلاء معظم الوزارات تقريباً، مع وكيل أمين بغداد وبعضوية معماري واحد، مع أكثر من عشرين آخرين بمناصب تمكنهم من اتخاذ قرار، لكن "ما من دراسة أو مشروع أو أهداف ولا رؤية يضعها مخطط ولا معماري يبنى عليها القرار" تقول د. غادة السليق.

وتضيف أستاذة العمارة حول سياق عمل اللجنة "الغريب انهم يعملون بطلاء مرة وترميم بسيط مرة، وبدون دراسة للطرز. يفترض انهم يحسنون من مشهد شارع الرشيد، وهذا شيء ايجابي إذا كان كمرحلة أولى لتطوير حقيقي، ولكن المشكلة انه لا يوجد تطوير ولا معرفة حقيقية بالمشكلات، التي هي بالأساس تغير الاستعمال للأرض وتحول المباني التراثية الى مخازن جملة، وكما نقول نحن بالحفاظ فان الإشغال هو أهم صيانة، فمن يعيش يسكن أو يعمل في مبنى سيضطر إلى صيانته ولكن المباني تحولت إلى مخازن تتكدس بها البضاعة بشكل سيئ مما يؤدي إلى تهرؤ الأبنية وحصول حرائق سوء الخزن وما إلى ذلك".

هذه اللجنة تفرعت عنها لجنةٌ مصغرة من موظفين صغار من أمانة بغداد ودائرة التراث مع عضوية منظمة خاصة انيطت بها مهمة الترميم الذي تراه د. السليق " تسعون بالمئة من هذا الترميم الذي قاموا به ساذج وخاطئ، فليس هناك في المنظمة معماريون أو حفاظيون أو مؤرخو عمارة".

 

سينتهي

لكن هذه المنظمة تنفق على الترميم والجهات الرسمية ترى ذلك ممتازاً كي لا تتحمل الانفاق من جهتها "وبالتالي أصبح كل محيط شارع الرشيد بيدها ووافق الموظفون الذين اشرت لهم على هدم كنيسة السريان الكاثوليك في منطقة الشورجة من أجل بناء مجمّع تجاري، له واجهة كنيسة لذرّ الرماد في العيون" توضح السليق.

قامت أستاذة العمارة برفع الموضوع إلى الوكيل الفني لأمانة بغداد، وإلى رئيس ديوان الوقف المسيحي، "ليس من أجل موضوع الكنيسة بل لأجل شارع الرشيد الذي سينتهي مع الأسف" تختم د غادة السليق حديثها إلى (ارفع صوتك).

 

نحو إحياء مركز بغداد التاريخي

وضمن المبادرات الهادفة إلى إحياء مركز بغداد التاريخي، ويشكل شارع الرشيد قلبه النابض، جاءت مبادرة "إحياء" ضمن خطة "بغداد 21"، وتضمنت ما يشبه النداء التحذيري:

"عانت منطقة مركز بغداد التاريخي التي تضم تراث الاجداد منذ عقود ليست بالقليلة من الاهمال والتردي ووصلت الاوضاع فيها إلى ما لا يليق بها كعاصمة تاريخية للعراق ولا بأهلها ومواطنيها.

وقبل فوات الاوان وزوال ما تبقى من الشواخص المعمارية للمدينة القديمة فالجميع مطالبون للتحرك بصورة عاجلة وجدية لإنقاذ تراث المدينة والحفاظ عليه وتطوير المناطق المركزية تطويراً شاملاً والابتعاد عن عمليات الترقيع والتجميل والاستثمار الغير مدروس والتي اساءت للمدينة وإرثها الغني وشوهت طابعها الحضري والمعماري".وتهدف خطة "بغداد 21" لإحياء مركز مدينة بغداد التاريخي الذي يتوسطه شارع الرشيد الى تطوير مركز المدينة القديمة واحيائه ليعود قلب مدينة بغداد النابض ومركزا تراثيا متميزا محميا.

ويأتي كتاب "بغداد القرن الحادي والعشرين - المدينة التاريخية"، للمعماري والمخطط العراقي تغلب تقي عبد الهادي الوائلي، حاملاً لـ "رؤية عراقية لما قد تصبح عليه مدينة بغداد التاريخية مستقبلا، وتحديدا منطقة الرصافة المحصورة من باب المعظم ووزارة الدفاع شمالا وحتى ساحة التحرير جنوبا (حوالي 3300 متر طولا)، ومن شارع الرشيد شرقا وحتى ضفاف نهر دجلة غربا. وهو ما يشكل جوهر خطة "بغداد 21".

 

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

FILE - In this March 10, 1984 file photo,  Iranian troops advance despite obstacles set by Iraqi forces in the Manjnoon Islands…
أحد تقارير الصليب الأحمر الدولي قال إن الصراع في هذه الحرب بلغ "درجة استثنائية من الوحشية"- أرشيفية

توصف الحرب العراقية الإيرانية من قبل المختصين بأنها ذات تأثير ممتد في حياة ملايين العراقيين ممن فقدوا أبناءهم أو أجزاء من أجسادهم وحتى عقولهم على طول الشريط الحدودي بين الجارتين. أحد تقارير الصليب الأحمر الدولي قال إن الصراع في هذه الحرب بلغ "درجة استثنائية من الوحشية".

حملت الحرب التي انطلقت رسمياً في 22 سبتمبر العام 1980 العديد من الأسماء، ففي العراق أطلق على تلك الحرب اسم "قادسية صدام" للتذكير بانتصار المسلمين في معركة القادسية في الفترة الأولى من التوسع الإسلامي الذي نتج عنه فتح المسلمين العرب لبلاد فارس. وعرفت في إيران باسم "الدفاع المقدس" في إشارة إلى حماية الثورة الإسلامية التي أطاحت بنظام الشاه في العام 1979.

أسماء عديدة أخرى أطلقت على هذه الحرب منها "حرب الخليج الأولى" و "حرب السنوات الثمانية" وأحيانا يتم إطلاق تسمية "الحرب العبثية" عليها كونها الحرب التي نشبت وانتهت دون تحقيق أي أهداف سياسية على أرض الواقع.

وبغض النظر عن المسميات فقد كلفت تلك الحرب خسائر بشرية هائلة وصلت إلى المليون قتيل من الطرفين، ولا تزال السيول تجرف رفات العشرات منهم سنوياً على طول الشريط الحدودي للبلدين، أضعاف هذا العدد سقطوا جرحى ومعوقين ومفقودين.

البحث عن مفقودين

فقد حسين الكعبي إثنان من أعمامه في العام الثالث من الحرب دون أي خبر عنهما. يقول لـ"ارفع صوتك" إن "جهود عائلتنا ما تزال مستمرة منذ إعلان وقف إطلاق النار وحتى يومنا هذا، ولن نيأس من محاولة العثور عليهما أحياء ليلتئم شملنا، أو أمواتاً لدفنهما وتكريمهما بشكل لائق".

ويصف رحلة الفقدان والبحث عنهما لأكثر من عقدين بأنها "متعبة نفسياً لجميع أفراد العائلة، وبشكل خاص جدتي التي كان وقع الحرب عليها مريراً، وهي تعتني بستة من الأيتام دون معرفة مصير أبويهم".

يتذكر الكعبي كيف كانت العائلة، تهرع مع كل وجبة أسرى يتم إطلاقها، لتعرض صور ابنيها المفقودين على الأسرى، لعل أيا منهم  يكون قد التقى بهما، و"مع كل إعلان من وزارة الدفاع بالعثور على رفات نكون أول الحاضرين. لكن، جميع تلك الجهود كانت دون جدوى حقيقة ".

ولا يختلف حال الكعبي عن حال جعفر ناظم ابن سوق الشيوخ (الناصرية) الذي فقد شقيقه الأكبر في العام الأول من الحرب ولا يزال يعيش على أمل العثور عليه حياً، دليله على ذلك، "سماع صوته على الراديو يعرف عن نفسه بعد عامين على اختفائه"، كما يقول لـ" ارفع صوتك".

وفي حين فقد كثير من العراقيين أحبتهم، "فقد آخرون أجزاء من أجسادهم"، كما يقول الجندي السابق حسن سبهان الذي فقد ذراعه في معركة نهر جاسم، وهي واحدة من أكثر المعارك شراسة خلال الحرب العراقية الإيرانية.

ويسرد متأثراً لـ"ارفع صوتك" ذكريات الموت والخراب التي عاشها: "كانت معركة لا يمكن تجاوز آثارها لا بالنسبة للأحياء ولا الأموات الذين لم تعد أغلب جثثهم إلى ذويهم، وبقيت ملقاة هناك في مزيج من اللحم البشري المخلوط بالطين والدم والأمعاء المتناثرة".

يتابع: "هناك فقدت ذراعي وانتهت الحرب بعدها بفترة قصيرة. ولكن المعركة ذاتها لا تزال مستمرة في كوابيسي حتى اليوم".

ضحايا الحرب المجهولون

تقول الباحثة الاجتماعية ابتسام الخفاجي لـ" ارفع صوتك" إن الحرب العراقية الإيرانية التي خلفت مئات آلاف القتلى والمفقودين، "خلفت أضعاف هذا الرقم من الضحايا المجهولين من الأرامل والأيتام والثكالى الذين أثرت الحرب بشكل مباشر على حياتهم".

تغيرت طبيعة المجتمع العراقي بحسب الخفاجي، بسبب الحرب، "وكانت البداية لعسكرة المجتمع وتعزيز سلطة الحزب الحاكم آنذاك، وجرت تصفيات كثيرة لمعارضين لم يتم احتسابهم حينها ضمن خسائر الحرب البشرية".

كان الوضع في العراق "مرعباً خلال تلك الفترة" تقول الخفاجي. وتوضح: "فرض على الشباب العراقي التجنيد الإلزامي فكان يتم سوق الجنود إلى الموت وهم بأعمار لا تتجاوز 18 ربيعاً، وأحياناً كان يتم التوجيه برسوب الطلاب في الامتحانات الثانوية عمداً بهدف زجهم في الحرب".

وكان الهارب والرافض للحرب، تتابع الخفاجي، "يتم سجنه وتعذيبه، وفي فترة من الحرب تمت معاقبة المتخلفين عن القتال بقطع الأذن، وعندما تشتعل جبهات القتال بهجوم عنيف من الجانب الإيراني كان يتم وضع فرق إعدام لتقتل على الفور الهاربين من ذلك الجحيم".

وبحسب الباحثة، حتى الآن "لم نجد دراسة شاملة عن الآثار الاجتماعية والنفسية التي تركتها تلك الحرب المرعبة في نفوس مئات آلاف الجنود العائدين من خنادق الموت او تأثيرها النفسي على عوائلهم. ولان العراق لم تنته مصائبه عند تلك الحرب فلا أعتقد انه ستكون هناك دراسة فعليه لهذا الجانب المخفي من الحرب".

تركة ثقيلة

ورث العراق من الحرب في ثمانينيات القرن الماضي كما يقول مصطفى حميد مدير إعلام دائرة الألغام بوزارة البيئة "تركة ثقيلة من الألغام التي لم نكن نمتلك عنها وعن مساحاتها وخرائطها رؤية واضحة. ولذلك أجرينا مسوحات بعد تغيير النظام العام 2003 وأحصينا مساحة التلوث بعموم العراق والتي بلغت أكثر من ستة آلاف كيلومتر مربع وحتى الآن تم تطهير 57 % من مساحة التلوث الإجمالية".

كان من المفترض أن يتخلص العراق من مصائد الموت التي ملات حقولاً كانت قبل اندلاع الحرب مناطق للرعي ولزراعة الحنطة والشعير بحلول العام 2018، "لكن ذلك لم يتحقق، وتعذر الالتزام بالسقف الزمني فطلبنا من المنظمات الأممية المتخصصة بالالغام تمديد العمل إلى العام 2028" كما يقول حميد.

ويعلل حميد تأخر العراق بالتزاماته في التخلص من الألغام بـ "التحديات الأمنية والاقتصادية التي واجهت العراق طوال السنوات الماضية، والتي أدت إلى تعثّر جهود إزالة الألغام وخصوصاً في مناطق جنوب العراق التي تعرضت الأراضي المحاذية لإيران فيها إلى تلوث كبير بالألغام".

وكان بياناً مشتركاً لبرنامج الأمم المتحدة من أجل التنمية (بنود) وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) اعتبر أن العراقيين يعيشون "وسط أكبر تجمعات عالمية للألغام غير المنفجرة من مخلفات الحرب".

وقال البيان إن الألغام تتسبب "بجروح مدى الحياة وتعيق الوصول إلى أراض خصبه وتعيق حرية الحركة". وهي تمثل "خطراً كبيراً على الأطفال العراقيين". مبينا أن "ربع الضحايا الـ 565 من الألغام غير المنفجرة والذين تم إحصاؤهم عام 2006، تقل أعمارهم عن الـ 18 عاماً".

أما عدد الضحايا الإجمالي للمتضررين من الألغام في مختلف أنحاء العراق كما يقول حميد "تجاوز 30 ألف شخص، عدد كبير منهم من جنوب العراق".

وبحسب لجنة الصليب الأحمر العراقية فإن "البصرة تعتبر من أكثر مدن العالم تلوثاً بالأسلحة غير المنفجرة، حيث يبلغ معدل التلوث فيها 1200 كيلومتر مربع. وتشمل الألغام الأرضية والذخائر العنقودية وغيرها من مخلفات الحرب، ويعود تاريخ معظم حقول الألغام المعروفة إلى الحرب العراقية الإيرانية".

كلفة الحرب الإيرانية-العراقية.. ملايين الأرواح ومئات مليارات الدولارات
رغم مرور عقودٍ على انتهاء الحرب الإيرانية العراقية فإن خسائرها الجسيمة لا تزال تلاحق البلدين والمنطقة حتى اليوم، وهي لم تقتصر على الخسائر البشرية والعسكرية فقط وإنما امتدّت إلى جوانب اقتصادية واجتماعية أيضاً.

خراب اقتصادي

ما يحصل اليوم من أزمات اقتصادية في العراق يمكن ربطه بشكل مباشر مع الخراب الاقتصادي الذي أصاب البلد خلال الحرب العراقية الإيرانية التي أسست للخلل الهيكلي الذي وصلنا إليه اليوم. كما تستنتج دراسة للباحث توفيق المراياتي وهو باحث اقتصادي في جامعة البصرة.

الدراسة التي حملت عنوان "الحروب وآثارها على تدهور الاقتصاد العراقي" تحدثت عن أولى كوارث الحرب التي تمثلت في تدمير منشآت تصدير النفط :"حيث شملت محطات التحميل والضخ والأنابيب، مما أدى إلى تقليص مستويات الإنتاج". حصل هذا بعد أن تمكن العراق من توسيع وارداته المالية من النفط في الخمسينيات وتحقيق إنجازات تنموية مهمة خلال العقدين التاليين.

الصدمة الثانية في الاقتصاد كان التحول المفاجئ في النفقات من خطط التنمية إلى الأغراض العسكرية حتى بلغ 12.9 مليار دولار في أول سنوات الحرب وهو ما يمثل 75 % من الدخل النفطي.

العجز الواضح ما بين الإنفاق والإيراد تم سده عبر الاقتراض من السعودية والكويت، وعن طريق قروض المجهزين والسحب من احتياطي العملات الأجنبية المتراكم، إضافة إلى توقف الصرف على خطط التنمية أو برامج الاستيراد أو الخدمات الاجتماعية.

طريقة سد العجز هذه أثرت بصورة سلبية على سعر صرف الدينار العراقي الذي وصل بنهاية الحرب إلى نحو أربعة دنانير لكل دولار، فيما كان يتجاوز الثلاث دولارات لكل دينار عراقي.

التجنيد الإلزامي للحرب وسحب الشباب العراقي أثّر هو الآخر بحسب الدراسة على توزيع القوى العاملة فبعد أن كانت القوات المسلحة تشكل 2.9 % من إجمالي القوى العاملة ارتفعت خلال الحرب إلى 21 % ووصل عدد المجندين إلى مليون شاب.

هذه الأعداد تركت آثاراً سلبية على النشاط الاقتصادي لأنها سحبت القوى العاملة من القطاعات الاقتصادية المختلفة كالزراعة والصناعة، وتم سند النقص عبر اجتذاب العمالة من الخارج وبالتالي استنزاف ميزان المدفوعات نتيجة تحويلات تعويضات العاملين إلى بلدانهم.

وبالنتيجة بلغت خسائر العراق كما تقول الدراسة 452 مليار دولار، ما يعادل عشرة أضعاف معدل الناتج المحلي الاجمالي أثناء فترة الحرب واضطر البلد إلى بدء فترة ما بعد الحرب بحال من الفقر والاحتياج.