كل يوم على ظهر حمارها، تقطع أم علاء (57 عاماً) كيلومترات طويلة لتصل إلى حي التراث في بغداد، آتية من أطراف العاصمة.
تجمع مخلفات البلاستيك وتضعها في كيس قماشي مربوط ببردعة حمارها. تجمع أكياسا كثيرة قبل أن ترسلها إلى أحد أوراش إذابة البلاستيك المنتشرة في المناطق الصناعية مثل علاوي الحلة والكاظمية.
وتحصل أم علاء على 1000 دينار عراقي تقريبا (أقل من دولار أميركي واحد) مقابل كل كيس من المواد البلاستيكية التي تجمعها من الشوارع.
ورشات إذابة البلاستيك
لم تكن ورش إذابة المواد البلاستيكية لتستمر بعملها لولا "راكبات الحمير" اللاتي يعملن في تجميع هذه المواد من شوارع بغداد وأزقتها. وتتولى تلك الورش إذابة الأواني البلاستيكية والعلب الفارغة وتحويلها لحبيبات بلاستيكية لبيعها مثل مواد خام لمعامل صناعة الأكياس والعلب البلاستيكية.
وبدءا من عبوات قناني المياه الفارغة والعصائر والمشروبات، وصولا إلى الأواني والمعدات وغيرها من المواد المصنوعة من البلاستيك، لعبت النساء دورا مهما في استغلال هذه الدواب لتوفير لقمة العيش.
نشأت أم علاء في أسرة تمتهن تربية الدواب والخراف. وحتى بعد زواجها، كان زوجها يعمل بتربية وبيع الماعز، ولذا "لم تتوقع يوماً" أن تفارق عملها في مساعدة زوجها بتربية الماعز.
لكن عندما مرض زوجها، وهو رجل كبير بالسن، ولم يعد يقوى على مواصلة العمل، قررت أم علاء العمل بدلا منه.
تقول "وجدت نفسي مضطرة للخروج بصحبة حماره صباحاً والعودة عصراً، لقد كنت بحاجة لتوفير ما يكفي من المال لتوفير قوت أبنائي الستة".
الخبز اليابس
يعيش 71% من سكان العراق حالياً في المناطق الحضرية، حيث يعيش أكثر من نصفهم في ظروف شبه عشوائية، بحسب الأمم المتحدة. ويعيش 7 مليون عراقي أي 23% من العدد الكلي لسكان العراق في حالة فقر.
وانتشرت ظاهرة النساء اللواتي يستخدمن الحمير للعمل بين النساء اللواتي نزحن من ديالى ومنطقة أبو غريب ومناطق أخرى بعد الأحداث الطائفية عام 2006 في العراق.
وارتفعت نسبة النساء العاملات لقاء أجر في القطاعات غير الزراعية من 12.1% في عام 2008 إلى 14.7% في عام 2011.
وكما أم علاء، تتجول سهاد في شوارع بغداد، ولكن ليس للبحث عن قناني المياه الفارغة، بل عن أشياء أخرى، مثل الخبز اليابس، لإطعام الماعز الذي تمتهن تربيته عائلتها.
ورغم أن أغلب راكبات الحمير طاعنات في السن إلى حد ما، إلاّ أن سهاد شابة لم تتجاوز (23 عاماً)، وتعمل على توفير الخبز اليابس من خلال التجوال في الشوارع لجمعه من القمامة، وأحياناً تضطر لطرق أبواب البيوت بحثاً عنه.
وبالنسبة لسهاد، التي تزوجت وهي بعمر (12 عاماً)، ولديها أربعة أبناء، فإن ركوب الحمير في حد ذاته يسبب لها الكثير من المتاعب.
تقول السيدة التي نزحت من ديالى واستقرت مع عائلتها في منطقة الصابئات بعشوائيات بغداد "يعتقد الناس أو أصحاب البيوت الذين أطلب منهم الخبز اليابس أنني متسولة، وبدلا من الخبز اليابس، أحصل أحياناً على المسبات والشتائم".
وتضيف "لا أحب مهمة البحث عن الخبز اليابس لأنها مهينة، ولكن ماذا تفعل عندما يفرض عليك توفير لقمة العيش في بيت اعتاد على عمل بناته بهذه المهن".
وتبلغ نسبة الأمية بين النساء العراقيات (24%) أي ضعف نسبتها تقريباً بين الرجال العراقيين (11%) وترتفع إلى (50%) في الأرياف.
الأعراف الاجتماعية
أتت سعادة (53 عاماً) إلى العاصمة بغداد مع زوجها وبناتها الأربعة من منطقة أبو غريب منذ تسع سنوات. تقول إن العمل الوحيد الذي تستطيع القيام به هو تجميع المواد البلاستيكية التالفة.
وبالإضافة الى المعاناة الذي تواجهها عند التجوال بالشوارع والأزقة، لدى سعادة مشكلة أخرى وهي إجبار بناتها على العمل بنفس عملها من قبل زوجها الذي يرى أن عمل الفتيات والنساء ضروري، ومهمته فقط تحصيل الأمور والاشراف عليهن.
تضيف "تعودنا أن تكون مهمة الزوجة العمل بدلا من الزوج سواء في المزرعة أو الشارع، لذا فإن الفتاة العاملة لدينا مرغوبة ويتقدم لخطبتها الكثير من الرجال".
ولكن سعادة لا تشعر بالراحة من هذه الأعراف رغم أنها واحدة من اللواتي تعايشت معها، "منهكة أنا، ولا أريد لبناتي نفس المصير".
أغلى من المرأة
قصص راكبات الحمير ومربيات المواشي تدور غالبا حول توارثهن لمهمة البحث في الشوارع عما يكفي لتوفير لقمة العيش، وكذلك حول زواجهن وهن صغيرات وحرمانهن من التعلم والدراسة. وفي عام 2016 فقط، سجل 500 زواج قاصر في بغداد والمحافظات.
تقول الخبيرة بعلن النفس الاجتماعي الدكتورة نهلة واثق "حتى الآن لا توجد تدخلات رسمية تمنع معاناتهن، نظرا لأن الكثير من الأعراف الاجتماعية والتقاليد القبلية تساند الرجل في إجبار النساء والفتيات على العمل".
وهذه الأعراف والتقاليد ليست بالضعيفة إذا وضعنا في الاعتبار أن زواج الفتيات يكون مرتبطاً بقدرتها على العمل والانجاب، حسب الخبيرة.
ولا يكتفي الأزواج الذين يؤمنون بهذه التقاليد بعمل النساء بدلا عنهم، بل قد تدفعه الأمور إلى التنازل عن زوجته والاستغناء عنها مقابل الحفاظ على الدواب والمواشي والحمير التي يمتلكها. "يعني هذه الدواب عنده أهم وأغلى من المرأة، أقصد الزوجة".