منقبّة عن نفايات قابلة للتدوير في مكب قرب أربيل/ رويترز
منقبّة عن نفايات قابلة للتدوير في مكب قرب أربيل/ رويترز

"إذا رفضنا العمل، سنموت من الجوع"، تقول سعاد وعيناها تحدقان في أكوام النفايات، بين يديها كيس فارغ (شوال).

تعمل سعاد نامق في جمع العلب البلاستيكية الفارغة منذ طفولتها، إلى جانب أخواتها، ولم تدخل المدرسة قط.

 تقول "وجدت نفسي منذ طفولتي أتجول مع أمي بحثاً عن القناني الفارغة. رأيت الكثير من الأولاد والبنات مثلي، تجبرنا الظروف على ذلك. وجميع السكان هنا فقراء.."

تسكن سعاد (24 عاماً) مع والدها وأخواتها الأربعة وعائلة أخوها الوحيد بقضاء الحسينية (شرق بغداد) منذ ١٥ عاماً.

تعود إلى والدها يومياً محمّلة بما عثرت عليه، وإن لم تجمع الكمية المتفق عليها بينهما، تكمل البحث في الأزقة وبين البيوت القريبة من منطقة سكنها.

"اعتدت على العمل بين النفايات مع النساء الأخريات"، تقول سعاد، وبسبب معاناة العديد من العاملات من مشاكل صحية، تحرص على تغطية وجهها بقطعة قماش طيلة فترة العمل. 

وكما خرجت سعاد مع أمها طفلة، تكرر المشهد مع ابنتها الصغيرة، إذ تصطحبها لبيئة العمل الشّاقة.

لا تفكر بالزواج مجدداً بعد طلاقها، وتقول عن تجربتها "عانيت كثيراً، كنا نتنقل أنا وأهله كل مدة من بيت لآخر، لأنهم لا يستطيعون توفير إيجار المنزل".

خدمات معدومة

وحيّ الحسينية كان تابعاً لقضاء الأعظمية سابقاً، لكن بعد التظاهر المتكرر للسكان الذين طالبوا بضمها لبغداد من أجل أن تشملهم خدماتها من الماء والكهرباء، تم إلحاقها بالعاصمة.

وهي منطقة مكتظة سكانياً، حيث يبلغ عدد سكانها نحو 258 ألف نسمة، وفق أرقام وزارة التخطيط عام 2013.

​ أحلام بسيطة يحملها محمد وشقيقه بين نفايات أربيل​

وقال النائب عن تحالف "الفتح" حسن سالم، في تصريح له نيسان/ أبريل الماضي، إن "مناطق المعامل والرشاد وحي الوحدة والحسينية تضم أكثر من عشرة آلاف عائلة فقيرة تعتاش على النفايات".

وأكد أن "تلك العائلات تصنف تحت خط الفقر كونها غير قادرة على إيجاد لقمة العيش، فضلا عن انعدام الخدمات في مناطق سكنها".

الحصة التموينية

وإلى "سكلّة" التابعة لمنطقة المعامل، نلتقي علوان ناظم (61 عاماً)، العامل في البناء.

يقول ناظم لـ (ارفع صوتك): "نسكن في بيت للإيجار هنا منذ ٢٥ عاماً، ونعيش على النذر اليسير الذي تجلبه مهنتي في بناء البيوت، وأيضاً مما يكسبه أبنائي الخمسة وبناتي السبعة لقاء عملهم في نبش النفايات".

فكرة شراء بيت ليست في بال العائلة، فبيع المواد القابلة للتدوير من النفايات بالكاد توفر إيجار البيت وطعامهم.

بملامح حزن في وجهه، يقول ناظم "كانت الحصة التموينية الشهرية تعيننا كثيراً في المعيشة، لكننا لم نعد نحصل عليها".

بسبب العوز، لا يتمكن ناظم وعائلته بالإضافة إلى عشرات العائلات مثلهم من الإقامة في مناطق تحظى بمستوى جيد من خدمات الحكومة، ما يُجبرهم على البقاء في المناطق عديمة الخدمات من ماء وكهرباء وصرف صحي كما تفتقر للطرق المعبّدة.

"غير نافعة"

ورغم قرار مجلس الوزراء في تطبيق الإستراتيجية الوطنية الثانية للتخفيف من الفقر في العراق بين (2018 – 2022) منها مبادرة توزيع الأراضي للعائلات الفقيرة التي أطلقت مؤخرا، إلاّ أن الخبير الاقتصادي هادي السامرائي، يعدها مبادرة "غير نافعة". 

يقول السامرائي لـ(ارفع صوتك) "ما الجدوى من توزيع الأراضي السكنية لعائلات لا تمتلك بقية الأموال لغرض بنائها؟".

ويرى أن الحل يكون عبر "تخصيص دخل شهر من عمل ثابت للفقراء، ومنحهم وحدات سكنية جاهزة، كي ينصرف أبناؤهم وبناتهم عن العمالة وينخرطوا في التعليم، وغيرها من بقية الضمانات كالصحية والاجتماعية".

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

A woman walks on a road dug up by workers as part of rehabilitation public works on the outskirts of Baghdad on September 15,…
أتاح الاستقرار النسبي المتواصل منذ خمس سنوات العمل على مشاريع إنمائية في بغداد

تنعم بغداد باستقرار نسبي، بعد نزاعات مدمّرة استمرت عقوداً، أتاحت أشغال تجديد في المدينة من طرقات معبّدة ونظم صرف صحي جديدة إلى فنادق فارهة ومطاعم، وهي مشاريع تسمح للسلطات أيضاً بالدفع ببرنامج عملها أمام الرأي العام. 

فقد جعل رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني من إعادة تأهيل البنية التحتية أولوية لحكومته.

في بغداد البالغ عدد سكانها تسعة ملايين نسمة، تكثر المشاريع الكبيرة لوصل الأحياء العشوائية بشبكات الكهرباء والماء وترميم الطرقات والأرصفة وبناء جسور.

وفي بلد تصدّر عناوين الصحف ووسائل الإعلام على مدى عقود جراء الحروب  والتوترات الأمنية والانفجارات، أتاح الاستقرار النسبي المتواصل منذ خمس سنوات تقريباً وإعلان الانتصار على تنظيم الدولة الاسلامية(داعش)، افتتاح مراكز تجارية ومقاه ومطاعم فاخرة. 

على ضفاف نهر دجلة، يمكن لرواد مجمع "ألف ليلة وليلة" الاختيار بين 12 مطعماً فضلاً عن سلسلة من المقاهي وصالات الاحتفالات ومتاجر وقاعة للعبة البولينغ. خلال عطلة نهاية الأسبوع، يتردد العشرات إلى المكان برفقة العائلة أو الأصدقاء لتناول الطعام أو تدخين النرجيلة وممارسة لعبة البولينغ.

وفتح المجمّع الذي بني في حديقة أحد قصور الرئيس العراقي السابق صدام حسين أبوابه أواخر العام 2022، على أرضٍ هي الآن بيد نقابة الصحافيين التي استأجرت الموقع. وأطلق المشروع "عدد من المستثمرين الشباب المختصين بالشأن السياحي"، وفق المدير التنفيذي للمشروع فلاح حسن.

ويرى حسن أن "العراق أرض خصبة للاستثمار بشكل لا يمكن تخيله" لكنه في الوقت نفسه يشير إلى وجود "معوقات" مثل "الوضع الأمني والروتين الحكومي العقيم" حيث ينبغي المرور "بألف نافذة لتتمكن من أن تأخذ ورقة موافقة واحدة".

 "مناخ الاستثمار ضعيف"

اعتبر البنك الدولي في تقرير نشر أواخر يوليو أن "مناخ الاستثمار في العراق لا يزال ضعيفاً"، مشيراً إلى "غياب تشريعات مؤاتية للشركات، ومناخ أمني غير مستقرّ، وأوجه قصور إدارية وفساد ممنهج" في إشارة إلى الرشوة.

وتسعى السلطات إلى تغيير ذلك الواقع. ويعمل رئيس الوزراء الذي أعرب مراراً عن عزمه على مكافحة الفساد، وجذب المستثمرين الكبار، لا سيما من دول الخليج.

في أواخر أغسطس، شارك السوداني في وضع حجر الأساس لفندق ريكسوس الفاخر ومجمّع سكني، وهو الاستثمار القطري الأوّل في العراق.

وقال السوداني حينها "بدءاً من رئيس الحكومة وانتهاءً بآخر موظف، سوف نكون مع المستثمر ومع الشراكة ومع القطاع الخاص الجاد في تنفيذ مشاريع الاستثمار في بغداد والمحافظات وإقليم كردستان". 

وفي كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخراً، أكّد السوداني على أن حكومته جعلت محاربة الفساد "في أولوياتنا".

لكن ما الذي يقف خلف هذه "الطفرة" التنموية في بغداد؟ في مقال له نشر على موقع معهد "الدراسات الإقليمية والدولية"، التابع للجامعة الأميركية في مدينة السليمانية في إقليم كردستان، يرى الباحث حيدر الشاكري أن "الطبقة السياسية العراقية وشركائها في مجال الأعمال قرروا استثمار ثرواتهم في مشاريع محلية هي بمثابة ملجأ للأرباح التي اكتسبت بطرق غير شرعية".

ويشير الشاكري في هذا الإطار خصوصاً إلى "مجمعات سكنية فخمة ومراكز تجارية وجامعات خاصة".

لكن السلطات تعتمد سياسة تحديث البنى التحتية. وتبلغ قيمة الاستثمارات في موازنات السنوات 2023 حتى 2025، 37 مليار دولار سنوياً، وهي تقدّر بثلاثة أضعاف القيمة الفعلية للاستثمارات في العام 2022 وفق البنك الدولي.

وقد أتاحت الاحتياطات المالية الكبرى بالعملة الصعبة التي تفوق 100 مليار دولار والمكتسبة من أسعار النفط المرتفعة، إمكانية طرح تلك المبالغ في الموازنة.

"إلى متى؟"

وأنشأت الحكومة فريق الجهد الخدمي والهندسي، الذي يضمّ جهوداً وفرقاً من وزارات وشركات عامة ومهندسي الجيش والحشد الشعبي، مهمته إعادة تأهيل الأحياء العشوائية "المحرومة منذ أكثر من عشرين عاماً" من الخدمات وفق رئيس الجهد الخدمي في بغداد المهندس عبد الرزاق عبد محيسن. 

تنكّب فرق الجهد الخدمي على العمل في الأزقة الترابية في حيّ الكوفة الواقع على أطراف العاصمة. تحفر جرارات الشوارع من أجل توصيل أنابيب جديدة، فيما تقوم شاحنة بنقل الحطام.

ويقول عبد محيسن الذي يشرف على الأعمال في حي الكوفة إن "هناك أكثر من 1093 عشوائية في محافظة بغداد أعدّت الخطط لها على أن تكون الأعمال بشكل تدريجي".

وأضاف "هناك أكثر من 200 مليار دينار مخصصة لأعمال البنى التحتية من ضمنها المياه والصرف الصحي وإعادة تأهيل الشوارع".

يرحب بعض سكان تلك المنطقة بهذه التغييرات، لكن آخرين ما زالوا يشتكون من نواقص عدة في الخدمات تؤثر على حياتهم اليومية. 

ويشعر أبو علي البهادلي وهو عامل يومي في مجال البناء بفرحة غامرة إزاء هذه التحسينات في حيّه. 

ويقول "مناطقنا كانت محرومة من الخدمات بشكل تام"، مضيفاً أن الوضع في السابق كان مختلفاً، "لا نستطيع أن نخرج إلى الشارع بسبب الوحول التي تسببها الأمطار". 

إلا أن جاره أحمد راضي البالغ من العمر 45 عاماً، لا ينظر إلى الأمور بالإيجابية نفسها ويشتكي من قلة الخدمات والماء والكهرباء.

ويقول راضي وهو موظف حكومي "أعطيني مسؤولا يبقى بلا ماء ساعة واحدة. يريدون أن يعبدوا الشارع قبل إنجاز الماء. لقد تعبنا".

ويتساءل الرجل "متى يكملون الرصيف؟ متى يقومون بوضع نظام تصريف للأمطار؟"، مضيفاً "تأتي من عملك متعباً، لا كهرباء ولا ماء، المجاري منتشرة، أريد أن أعرف إلى متى؟".