رسمة افتراضية لمسعود العمارتلي / المصدر: مجلّة الشبكة العراقية
رسمة افتراضية لمسعود العمارتلي / المصدر: مجلّة الشبكة العراقية

أشاهد مسلسل "Cable girls" الإسباني، الذي يروي بداية مسيرة التحرر النسويّة في إسبانيا، انطلاقاً من عاصمتها مدريد، حيث أول شركة للهواتف، ومجموعة من النساء من خلفيات متعددة يعملن فيها، والتحديّات التي يواجهنها في مجتمع أوروبي أسس شبكة اتصال داخلية ثم بفضل جهود تلك النساء العاملات في وحدات الكونترول، بدأ يتواصل مع العالم الخارجي.

وأستمع في المقابل إلى أغاني مسعود العمارتلي، كما أراد أن يدعو نفسه، في نفس الفترة الزمنية التي يبدأها المسلسل. 

ففي عام 1928 "كانت النساء مجرّد إكسسوارات للعرض، جمادات لا يمكنها التعبير عن آرائها أو اتخاذ القرار، الحياة لم تكن سهلة على الجميع لكنها أصعب على النساء، وإذا كنت امرأة تعيش في 1928، تبدو الحرية مستحيلة المنال، وبالنسبة للمجتمع أنت فقط ربة منزل وأم، ليس لنا الحق في أن نحلم أو تكون لنا طموحات"، كما يتلو صوت الراوية في أول حلقات الموسم الأول، وهي ليديا، الشخصية المحورية في المسلسل.

ومن مدريد بملامحها الحضرية من مبان وسيارات وقطارات وخروج النساء للعمل، وانتقالهن من القرى للعاصمة من أجل أحلامهن، إلى جنوب العراق، في قرية "الشعبة" ناحية مسيعيدة في منطقة العمارة، قريباً من الأهوار، عاشت مسعودة العمارتلي ريعان شبابها، واكتشفت الرجل المختبئ تحت جسدها، ولم تخش الإعلان عنه.

مسعودة أصبحت مسعوداً، وعرفها العراقيون كذلك، واستمعوا لأغانيها وحزنها وشجن الريف وأوجاع المرأة التي ظلت في جسدها لسنوات طويلة، دون الاكتراث لجنسانيتها. 

يقول الكاتب العراقي سلمان كيوش إن العمارتلي "استقتلَ دفاعاً عن غشاء بكارته ضد اثنين من رشّاكة الشيخ محمد بن عريبي وهزمهما بقندِ ذكورته المفترضة. وهرب ليلًا ليغادر أمّ الطوس وعلا لهاثه حموضة الفزع لأنه علم بجموح رغبة الشيخة فتنة، زوجة الشيخ ابن عريبي، بتزويجه، بوصفه أنثى، من واحد من حاشيتها. ولو تمّ هذا الزواج سيضطرّ مسعود إلى العودة إلى (سْعَيْدة بنت حمود بن عبّود بن دبيخي)، وسيخلع عكاله لأنه سيغدو بلا معنى". (الشبكة العراقية)

وما ذكره في نصّه هي الرواية الأكثر تداولاً لخروج مسعود من جسد مسعودة (سعيدة)، حيث تحرش بها شابان بينما كانت ترعى الغنم وتغني فضربتهما وجرّتهما لخيمة الشيخ الذي تخدم عنده، ليفتتن الجميع بقوتها، وكانت لم تبلغ العشرين بعد، فانتهزتها فرصة لتقدم نفسها لاحقاً على أنها رجل وتعيش ذلك حتى وفاته/ها أو مقتله/ها، فهذا ما لم يتيقّن منه مؤرخو سيرته.

تحقيق الذات

تقول ليديا في "فتيات الكوابل": "في البحث عن المستقبل كان على عديد النساء السفر لمكان بعيد وواسع، بينما تواجه الأخريات القواعد المتخلفة، والمجتمع الشوفيني. في النهاية كلّنا، أغنياء أو فقراء نريد نفس الشيء، أن نكون أحراراً. ولتكون حراً يجب أن نكسر القانون، ونرغب في ذلك بغض النظر عن العواقب، وفقط من يحارب من أجل أحلامه يستطيع تحقيقها"، وهذا ما فعله مسعود تماماً. 

لقد انتقل من الجنوب إلى بغداد باحثاً عن أحلامه، يغني، وليس ذلك فقط، فهو نفسه الكاتب والملحن، رغم تأكيد بعض المصادر على أنه لم يتعلم القراءة والكتابة، لكنه استلهم موسيقاه من أغاني الريف الرعوية ومن حزن الواقع ومرارة الحياة التي عاشها في طفولته.

ويطغى اللحن العراقي الحزين على أغنيات مسعود، تشعر كأنها نواح أكثر منها غناء، حتى يتسلل الحزن لصدرك أيضاً ولو لم تفهم اللهجة التي يتكلمها، أو تتلاشى بعض الكلمات بسبب قدم التسجيل. 

وهناك سبع سنوات مختلف عليها لولادة مسعود، فمؤرخ يقول 1893 وآخر يقول 1900، وتُرجح وفاته عام 1944. 

وفي توثيق لحياة العمارتلي، كتب عامر بدر حسون إنه تزوج في شبابه من فتاة يقال لها اشنينة وكانت زوجة مخلصة وجدت في مسعود راحة البال والخلاص من الخدمة في بيوت الآخرين، لكن مسعود ورط نفسه مجدداً بزوجة ثانية، وقصة هذه الزوجة طويلة وسببت المتاعب الكثيرة لمسعود. 

وأضاف أن الزوجة الثانية "ربما كانت سبباً مباشراً في وفاة مسعود، هذا ما ذكره صديق مسعود وعديله المطرب كريري"، وهذه تشبه الرواية المتداولة أن زوجة مسعود اكتشفت جسده الأنثى بعد الزواج فدسّت له السم في الطعام، بينما تقول رواية أخرى إنه مات بمرض التدرّن الرئوي.

يقول حسّون "غير أن السيد حمد العلاك وهو أقدم موسيقي رافق مسعود ولحن بعض أغانيه يذكر أن مسعود مات نتيجة لتسممه بطعام تناوله في آخر حفلة ساهم فيها، لكن الذي اتهم كاملة (زوجة مسعود) هو اسعيد شقيق مسعود طمعاً في الحصول على مخلفات أخيه وهي قلادة ذهب و40 ديناراً، فاشتكى لدى المحكمة وسيقت كاملة إليها وبعد التحقيق سجنت تسعة أشهر". (الشبكة العراقية).

العراق يحتفي بفنّه

وذكر حسّون في مقاله "مسعود العمارتلي امرأة غيرت ثيابها واسمها لتغني": "في عام 1925 يصبح المطرب المعروف عيسى العمارتلي متعهداً لدى شركات التسجيل العالمية، وذلك بتعاقده مع المطربين المشهورين آنذاك لتدريبهم في بغداد لمدة شهر واحد. وأول مطرب يصطحبه معه إلى بغداد هو مسعود".

وسجّل مسعود أربع أغان بـ(32) روبية، وما إن وزعتها الشركات في العراق حتى لاقت إقبالاً شديداً على شرائها، وعلى أثرها تستدعيه الشركات مرة أخرى وترفع أجرة التسجيل للأسطوانة الواحدة من (8) روبيات إلى (150) روبية، فسجلّ مسعود عشر أغان بـ(1500) روبية عام 1926، والأعوام التي تلتها 1927، 1928، 1930، 1934 شهدت شهرة واسعة لمسعود، وعقد مع كل الشركات عقوداً لتسجيل أغانٍ جديدة.

أفكر بكل هذا الانسجام والتقبّل المجتمعي والاحتواء لشخص مسعود وتقدير فنّه، كما أفكر بالشبّان والشابّات الذين تعرضوا للقتل أو التعنيف الجسدي بسبب جنسانيتهم وخروجهم عن السائد في العراق، حيث نما التطرّف وترعرع في السنوات الأخيرة، أي في القرن الحادي والعشرين، بعد مرور أكثر من 100 عام على ولادة العمارتلي.

وما يحصل في أرض الواقع مختلف تماماً عن التعليقات التي نقرأها في "يوتيوب" على أغاني العمارتلي، فالغالبية العظمى تحتفي بفنّه وقوة شخصيته وسيرته الاستثنائية، بعيداً عن التطرف والإقصاء.

فهل يحدث ذلك لأن العمارتلي "مات" وليس لهم إلا أثره دون الاعتراض على شخصه أم أن الناس الذين نتحدث إليهم ونقابلهم ويكتبون في السوشال ميديا يعيشون بآراء مزدوجة؟

للتعرف على حكاية صورة هذا المقال اضغط هنا 

 

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.