لقطة من فيديو بثته مواقع موالية لداعش تظهر البغدادي أثناء خطبته في جامع النوري
لقطة من فيديو بثته مواقع موالية لداعش تظهر البغدادي أثناء خطبته في جامع النوري

مسلسل الغاضبين من أبي بكر البغدادي، زعيم تنظيم داعش، ما زال مستمرا.

فبعد "النصيحة الهاشمية" و"كفوا الأيادي عن بيعة البغدادي"، انتشرت مع بداية الأسبوع الماضي رسائل جديدة احتجاجا على سياسة البغدادي.

كاتب الرسائل يدعى "أبا جندل الحائلي" (نسبة إلى مدينة حائل السعودية). وهو كما يقول في رسالته من مواليد سنة 1984، وسبق له أن اعتقل في السجون السعودية ست سنوات، قبل أن يلتحق بتنظيم داعش بعد الإفراج عنه.

في صفوف داعش، شغل الحائلي مناصب كثيرة من بينها مسؤول العلاقات العامة في "ديوان البحوث والإفتاء"، وعضو "قسم الرقابة والمتابعة" في "ديوان (وزارة) التعليم" وأمير القسم نفسه في "ديوان القضاء والمظالم".

يقول إن الرسائل الحالية هي في الواقع رسائل سرية أرسلها لأبي بكر البغدادي وعدد من قضاته وولاته في سنة 2018، بالتزامن مع الاستعدادات لمعركة الباغوز، آخر معاقل "الخلافة" في سوريا.  لكنه قرر نشرها علنا بعد فشل جهوده "في النصيحة سرا".

الملفت أن بعض الرسائل وقعها معه مسؤولون معروفون في داعش، بعضهم قتل لاحقا، مثل أبي محمد المصري عضو "اللجنة المفوضة" سابقا (ثاني أعلى جهاز بعد ديوان الخليفة) والذي قتل في ديسمبر 2018، وأبي يعقوب المقدسي أمير ديوان البحوث والإفتاء سابقا (قتل في نوفمبر 2018).

ضمت الرسائل أيضا بيانا شديد اللهجة من تيار "طلبة العلم" (تيار الشرعيين والفقهاء والدعاة داخل داعش) ضد "قادة الدولة" احتجاجا على مقتل أمير ديوان البحوث والإفتاء أبي يعقوب المقدسي والذي يتهم تيار الطلبة قادة التنظيم بقتله.

الخليفة الغائب

تتهم الرسائل أبا بكر البغدادي بالإخلال بوظيفته "كخليفة" بسبب اختفائه الدائم وتركه مقاتلي داعش "ليلاقوا مصيرهم المجهول".

يقول أبو جندل الحائلي في رسالة لأبي الوليد السيناوي والي داعش على الحسكة: "لا يجوز للخليفة ولا لمن ينوب عنه أن يختفي هذا الاختفاء، ولا يُقابل حتى مفوَّضيه".

ويرفض الحائلي التذرع بـ"خطورة الوضع الأمني"، خاصة في ظل حاجة التنظيم إلى زعيمه ببسب التفكك التي عاناه نتيجة الهزائم الأخيرة، وإشاعة مقتل البغدادي نفسه أكثر من مرة.

وتكشف إحدى الرسائل أن عشرة من مسؤولي التنظيم طلبوا لقاء البغدادي. تقول الرسالة إن هؤلاء المسؤولين "قد عزموا عليكَ عزمة أن تقابِلهم زُمرا أو فرادى، بل لو واحدًا من هؤلاء العشرة بالطريقة والمكان الذي تريد". لكن لا يبدو أن البغدادي استجاب لهذا الطلب.

وينتقد بيان تيار "طلبة العلم"، الذي ألحق بالرسائل، بدوره احتجاب البغدادي "عن غير بطانته". ويعتبر ذلك على رأس المخالفات الشرعية التي يعترض عليها الطلبة.

وبعد أسبوع فقط من انتشار هذه الرسائل، أصدر البغدادي شريطا صوتيا هو الأول منذ خمسة أشهر. لكن لا يوجد ما يؤشر على أن هذا الشريط جاء ردا على الرسائل الاحتجاجية.

خلافة بدون شورى

تتهم الرسائل البغدادي أيضا بالاستفراد في الرأي. يقول أبو جندل في "نصيحة" إلى زعيم داعش في أبريل 2018: "يجب علينا التوبة من عدم تفعيل الشورى".

وهذا ما يشير إليه بيان تيار "طلبة العلم" الذي ينتقد "عدم وجود مجلس شورى معروف.. باحتوائه على أهل العلم".

وحسب الغاضبين، فإن الشورى في داعش تقتصر "على من يثق به الأمير فقط" وعلى "ثلة من المتنفذين الذين ينفردون باختيار قرارات مصيرية للجماعة".

وتوجه الرسائل تهمة أخرى لقادة داعش هي "التهاون بالدماء والتوسع بالقتل للمصلحة والتعزير". وفي الواقع، تعرض تيار "طلبة العلم" لحملة تنكيل شديدة داخل داعش، منذ سنة 2016 تقريبا، شملت الاستتابة والسجن وحتى القتل.

ويعتبر هذا التيار نفسه مهمشا داخل التنظيم لصالح "الأمنيين". لذا فهو يطالب بأن "يكون لهذه الجماعة أهل ذكر؛ أي أهل علم يٌسألون في كل مسائل الشريعة من النوازل وغيرها".

وانتقدت الرسائل أيضا "عدم وجود سلطة قضائية قوية ومستقلة"، معتبرة أن القضاء في داعش أصبح رهينة للجهاز الأمني الذي تحول إلى "جهة تشريعية وقضائية واسعة السلطة ومتعددة الصلاحيات".

وأشار الغاضبون كذلك إلى الفساد داخل التنظيم حيث تغيب "الضوابط الشرعية في موارد بيت المال" وتتم التولية في المناصب بناء "على القومية والقرابة والمعرفة".

حرب التيارات

 قد لا يكون أبو جندل الحائلي معروفا كفاية في صفوف داعش، لكن بالعودة إلى الوراء قليلا نجد اسمه مذكورا في رسالة مسربة كتبها "أمني ولاية الشام" عمر الفاروق في أغسطس 2018، وتعتبر الحائلي من "مثيري الفتنة والشبهات".

وقبل ذلك، في يونيو 2016، ورد اسمه أيضا في جلسة تحقيق أشرف عليها عضوا "لجنة الرقابة المنهجية" (مكلفة بمراقبة التزام الشرعيين بعقيدة داعش) أبو خباب المصري وأبو ميسرة الشامي.

في الواقع، لا تمثل رسائل أبي جندل الحائلي الأخيرة صاحبها فقط، بل تمثل تيارا بكامله عرف إعلاما بالتيار البنعلي (نسبة إلى "الشرعي" البحريني في داعش تركي البنعلي. قتل في ماي 2017)، وهو تيار الدعاة والفقهاء. وتركز في ديوان البحوث والإفتاء.

دخل هذا التيار في خلافات عقدية مع تيارين آخرين هما التيار الحازمي (نسبة إلى رجل الدين السعودي عمر الحازمي الموجود في السجن حاليا) وتيار الفرقان (نسبة إلى أبي محمد الفرقان وزير إعلام داعش. الذي قتل في سبتمبر 2016).

وينتمي أبو خباب المصري وأبو ميسرة الشامي الذي حاكما الحائلي سنة 2016 عقديا إلى التيار الأخير (تيار الفرقان).

وتسبت خلافات عقدية ومنهجية دقيقة، مثل العذر بالجهل وتكفير المتوقف في تكفير المشركين (الناقض الثالث) وحكم ديار الكفر الطارئ، في اندلاع الصراع بين هذه التيارات الثلاث. وكانت جلسات الاستتابة المتبادلة والسجن والقتل أحد فصول هذا الصراع.

فبعد القضاء على التيار الحازمي مبكرا (2015) باستتابة وقتل أكثر من 70 من أعضائه وعلى رأسهم زعيم التيار في سوريا أبو جعفر الحطاب بناء على فتاوى من تياري البنعلي والفرقان، اندلعت الحرب بين التيارين الأخيرين.

وتبادل التياران السيطرة على اللجنة المفوضة (ثاني أعلى هيئة بعد ديوان الخليفة)، ما مكن كلا منها في فترة سيطرته من التنكيل بخصمه.

في الأخير، تدخل الجهاز الأمني لداعش لحسم الصراع الذي كاد يعصف بالتنظيم. وقاد حملة تنكيل ضد كل هذه التيارات.

يقول الباحث المغربي عبد العزيز مزوز في مقال مطول عن الصراع داخل داعش: "أمر البغدادي شخصيا بإعدام أبي جعفر الحطاب ذي الخلفية الحازمية، وقام بحل اللجنة المفوضة وطارد أعضاءها الموالين لتيار الفرقان وأعدم بعضهم كأبي حفص الودعاني، وقام أيضا بحل اللجنة المفوضة البديلة التي يشغل عضويتها شرعيون من تيار البنعلي والقحطاني واعتقل الكثير منهم وأعدم آخرين كأبي يعقوب المقدسي. كل التيارات إذن نالت حظها من المطاردة والقتل والتصفية".

أبو جندل الحائلي هو أحد بقايا هذه التيارات (البنعلي هنا). وهو يخضع مثل غيره من بقايا التيارات الأخرى للمراقبة، كما تقول رسالة أمني ولاية الشام التي تطالب بتتبع آخر مستجدات "مثيري الفتن والشبهات" ومدى التزامهم بالعمل وفقط الضوابط، و"هل لديهم تجمعات أو ما شابه ذلك مما تعلمونه من الظواهر المريبة".

 

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.