مئة وستة وخمسون باباً سيُغلق هذه الليلة على بيوت ينقصها فرد، أو اثنان. تغيب أنفاسهم، وضحكاتهم، عبارات "تصبح على خير" و"صباح الخير" بأصواتهم، و"الغدا جاهز كافي تلعب في الموبايل" من أم أو أب أو أخت موجهة لأحدهم.
سيبدأ هذا الواحد بالتناقص من عدّ الصحون والملاعق واستكانات الشاي ولوائح الخرّيجين وميزانية ملابس العيد، وقطع اللحم في وليمة الدولمة يوم الجمعة، سيتلاشى ظلّه رويداً رويداً، ويبقى اسمه كلّما قيل أمام فاقديه، دمعة على ضفة العين، وحُرقة في قاع القلب.
سمعتُ عن أمهات لا ينمن حتى يعود آخر أولادهن إلى البيت، فتبقى قلوبهن ساهرة وقلقة، هل سيحدث ذلك مع أم أمجد مالك البديري؟ كيف ستنسى أنه لن يعود من عمله في مطعم "الجندول" في الديوانيّة هذا المساء؟!
قتل أمجد في التظاهرات، وهو الذي كان يبيع الشاي على أحد الأرصفة في المحافظة، بأقل من ربع دولار لكأس الشاي الواحد، ومقابل أقل من ستة دولارات كأجر يومي في المطعم.
ونشرت صفحة "الديوانية حبيبتي" مقطع فيديو، يُظهر شرطة الديوانية تبعد أمجد بالقوّة عن "بسطة" الشاي، وتصادر معداته، لأنه بعمله "يشوّه الصورة الحضارية ويعيق مسير المارّة" في أيلول/ سبتمبر 2018.
وبنفس الطقم العنّابي، وذات الضحكة، يظهر حمزة علي في لافتة نعيه وممسدّاً على ظهر حصان أبيض. يا ترى هل هي صورة عُرسه أو خطوبته؟ فقد نُشر أنه تزوّج مؤخراً.. يا لحزن ألبوم الصور الذي كان يُقلّب حين تزور المهنئات عروسه، يا حزنها!
أما هذه الأسئلة المفتوحة للوقت، تلك المتناثرة هنا وهناك بين "فيسبوك" و"تويتر"، فلن يعرفها إلا أهالي القتلى وأحباؤهم، فيما سؤالهم للقاتل "لماذا؟" قد يكون بلا صوت، صامتاً ربما مثل عيني القنّاص الذي منح الحق لنفسه بفعل ما فعل.
يقول هشام الهاشمي، وهو باحث في قضايا التطرف والإرهاب ومهتم بالشؤون الأمنية، عبر تغريدة في "تويتر"، إن "عدد شهداء القنص 65 من أصل 104 معظمهم من بغداد".
فيما صنّف المحتجين لثلاث فئات: المفسوخة عقودهم والخريجون الباحثون عن العمل، وأصحاب البسطيات والعشوائيات وسائقي التكتك، ونسبة أقل من 5% من أنصار الأحزاب الشيعية الناقدة والمعارضة للحكومة.
وأفاد أن مفوضية حقوق الإنسان وثقت حصيلة الإصابات والوفيات بين المتظاهرين والقوات الأمنية من يوم (1/10- 6/10) 2019 الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، فكان عدد "الإصابات الكلي: 4035، عدد القتلى 105، عدد المعتقلين : 923، المفرج عنهم :678، أضرار متنوعة :40.
هذا قبل الحصيلة النهائية وفق مصادر نهائة، وكانت 156 قتيلاً ونحو 6000 مصاب.
لكن قتيلاً في التظاهرات ليس من التصنيفات الثلاث أعلاه، إنه حيدر كريم حسن، العامل في وزارة الصحة وطالب الهندسة، علماً بأن الأسماء والصور هنا هي ما وصلنا فقط عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أتاحت عودة الإنترنت للعراقيين، نشر المزيد من فيديوهات وصور ومعلومات حال حجب الإنترنت دون وصولها خلال الأيام السابقة.
وإذا كانت الأرقام وتكرارها عمل يمكنه تغييب الوجه الإنساني للمقتول وغض البصر عن القاتل، كانت هذه الصور تتناقل من شخص لآخر عبر مواقع التواصل، ربما كي لا يُنسى الدم المهدور، وربما لأن القصة تعيش حتى بعد رحيل صاحبها.
أحمد الغزي مثلاً، يظهر في صورة النعي حاملاً حقيبة مدرسية، التقطها العام الماضي 2018 مبتسماً، ولد عام 1999، وعاش يتيماً بعد مقتل والده على يد النظام السابق بقيادة صدام حسين.
فيما طالب الصيدلة في جامعة ذي قار مهند كامل، المقتول أثناء مطالبته بحقه في حياة كريمة مثل الآخرين، كان الابن السابع لعائلة مكونة من 17 فرداً، يعود إليهم أيام الإجازات، وكان ومجتهداً في دراسته، إذ تخرج من الإعدادية بمعدّل 95%، حسبما نُشر عنه.
وكان آخر منشوراته الظاهرة للعموم مع صورة البروفايل "الموت للعراق أفضل من البقاء حياً تحت ذل واستعباد.. هنيئاً لكم وللعراق" في 1 تشرين أول/أكتوبر الجاري، فيما قتل اليوم الذي يليه بعيار ناريّ.
أما في خانة التعريف على فيسبوك، كتب مهند "لا بأس، سيكون كل شيء سهلاً".
"عاش يتيماً" بهذه العبارة وصفوا ضياء حسين محمد، مواليد عام 1992 في مدينة ميسان (العمارة)، وقتل بعد ربع ساعة من خروجه من بيته، برصاصة في الرأس.
ونعى المنتخب الوطني العراقي لرياضة "الجودو" لاعبه الذي قتل في التظاهرات، علي أكبر. وكان حاصلاً على الوسام الآسيوي في بطولة غرب آسيا.
وفي الصورة التالية، كتبت ناشطة في فيسبوك، عن الشاب أمير الصالحي من محافظة الديوانية، أنه جندي عراقي، كان في إجازة مع أهله، وحين انطلقت المظاهرات قرر المشاركة بها، ليقتل هناك.
كما نشرت صفحة "الخوة النظيفة" صوراً أخرى له تؤكد عمله:
ماذا عن زهرة؟ المتبقيّة بعد اغتيال والديها في بيتهم، حين اقتحم ملثمون مسلحون البيت نحو الساعة الحادية عشرة والنصف، قتلوا الأب حسين عادل، وهو ناشط مدني وفنان تشكلي، ثم قتلوا الأم سارة طالب، وهي مصورة صحافية.
جمع الزوجين حبهما للعمل التطوعي وخدمة المواطنين، إذ التقيا عبر نشاطات متنوعة، حتى في آخر الساعات التي عاشاها، شوهدا يسعفان المصابين بالغاز المسيل للدموع في تظاهرات البصرة.
أحد النشطاء العراقيين في فيسبوك، علّق على صورة الزوجين مع ابنتهما قائلاً "ابنتهما كانت في بيت خالتها، أما الأم فكانت حامل. أخ سارة زميلي في العمل".
معلومات قليلة.. وربما لا يصف الحكاية كاملة، حكاية كل هؤلاء الشبّان الذين ذهبوا بصدورهم العارية مطالبين بسلميّة بحياة كريمة، غير مسلوبة من الفاسدين، لكنها على الأقل لا تجعلهم رقماً، مجرد رقم مرشح للارتفاع أو قابل للتأويل، كي يبقوا أحياء في ذاكرة العراقيين لا فقط في قلوب محبّيهم وأقربائهم.
مصدر الصور والمعلومات: صفحات عراقية في مواقع التواصل، وصفحة الإعلامي والناشط ستيفن نبيل في تويتر.