مع استمرار النزاعات والحروب في المنطقة العربية، ترتفع أعداد الذين يعانون مشكلات نفسية وتتضاعف معاناتهم يوما بعد يوم في ظل غياب الوعي بالصحة النفسية لتورث جيلا مشوها نفسيا وفكريا.
وتعتمد الأمم المتحدة منذ عام 1992 يوم 10 تشرين الأول/أكتوبر يوما دوليا للصحة النفسية كفرصة لإذكاء الوعي بقضايا الصحة النفسية والعقلية وتأثيراتها وتعزيز سبل رعايتها بخدمات ووسائل متكاملة في المجتمعات.
وحُدد "منع الانتحار" كموضوع رئيسي لهذا العام، إذ تشير المنظمة الدولية إلى أن نحو 800 ألف شخص ينتحرون سنوياً، إلى جانب عدد أكبر كثيراً من الأشخاص الذين يحاولون الانتحار.
وقالت منظمة الصحة العالمية في تقريرها لهذا العام، إن العالم يشهد انتحار شخص كل 40 ثانية.
وتتصدر الدول العربية العالم في نسبة الاكتئاب، مع تفاقم العنف فيها وغياب الاستقرار، تقول منظمة الصحة العالمية.
ولا تكتمل الصحة العامة دون الصحة النفسية، التي تتأثر بالعوامل الاجتماعية، والاقتصادية، والبيولوجية، والبيئية، والحروب والكوارث.
"انتحر شنقاً"
في 4 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، أقدم الشاب اليمني نذير راشد على الانتحار شنقاً بسبب الأوضاع السيئة التي يقاسيها.
"قبل انتحاره كان يشكو لأقاربه معاناته من قلق وضيق في صدره، وكان يرى أن الحياة لا تستحق أن تُعاش.. تدهورت حالته وصار يحدث نفسه ولا يختلط بالآخرين"، يقول أحد أقارب نذير.
ويضيف لـ"ارفع صوتك": "انتحاره سبب لنا صدمة كبيرة وخلف مأساة لأسرته وأقاربه ومحيطه.. لم نكن نتوقع أنه سيقدم على الانتحار فقد كان ملتزماً دينياً ويتمتع بأخلاق حسنة".
ولم يتلق نذير أي دعم نفسي منذ اكتشاف تدهور وضعه النفسي، خصوصاً في آخر خمسة شهور، وهو الأمر الذي يشترك به مع كثيرين يتحرجون هم وأقاربهم من ذلك خشية نظرة المجتمع السلبية نحوهم.
"ليست أولوية"
خلصت دراسة أعدتها مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري، إلى أن 195 شخصاً من كل ألف يمني يعانون من ضغوط واضطرابات نفسية حادة.
الدراسة التي أعلنت نتائجها في اجتماع لمناصرة قضايا الاستجابة النفسية للمتضررين من الحرب في اليمن، نهاية تموز/يوليو 2017 بصنعاء، قدرت وجود حوالي 5.45 مليون شخص بحاجة ماسة لرعاية صحية نفسية متخصصة عاجلة.
وحذرت من أن هذه النسبة تفوق المعدلات الطبيعية بأضعاف وتنذر بكارثة، لكن مسؤولا في وزارة الصحة اليمنية أوضح أن "الصحة النفسية ليست أولوية في اليمن".
وتفتقر اليمن إلى مستشفيات نفسية حكومية، باستثناء مستشفى الأمل للطب النفسي في صنعاء، الذي يدار بالشراكة مع القطاع الخاص، بالإضافة إلى ثلاثة مصحات نفسية مهملة في محافظات الحديدة وعدن وتعز (جنوبي وغرب اليمن).
ولا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين في اليمن 50 طبيباً، بمعدل طبيب واحد لنصف مليون مواطن على الأقل.
يقول استشاري علم النفس العيادي والعلاج النفسي الدكتور علي حسن لـ"ارفع صوتك" إن "الصحة النفسية متضررة لدى كثير من الفئات وبالذات الفئات الضعيفة كالأطفال بسبب الحرب القائمة في اليمن".
وأضاف "لا توجد إحصائيات وطنية واضحة لكن نتوقع أن ما بين 300 ألف إلى 400 ألف مريض يعانون من كرب ما بعد الصدمة، ويشكل المصابون بالكرب والصدمة ما نسبته 30% من السكان، وقد تتجاوز الحالات العقلية أو الذهنية نسبة 5% من إجمالي السكان".
ويؤكد حسن "نحن أمام واقع مخيف جدا... من الصعوبة مواجهة هذه المشكلة ما لم توجد دراسة وطنية تشخص بدقة الوضع الراهن وحجم انتشار المرض".
العراق
يرى اختصاصي علم النفس الدكتور أحمد وعدالله أن المتغيرات والحروب التي شهدها العراق "خلفت انعكاسات واضطرابات سلوكية وأمراضاً نفسية كثيرة منها الخوف من أصوات القنابل والسيارات المفخخة وما شابه ذلك".
وقال لـ"ارفع صوتك" إن "المواطن العراقي يعاني من كثير من الأمراض النفسية التي تحتاج إلى تقديم دعم نفسي واجتماعي لإعادة البنية النفسية بشكل عام للمجتمع الذي يعاني انتشار اضطرابات ما بعد الصدمة والوساوس القهرية بشكل كبير".
وقدّر وعدالله أن نسبة كبيرة جداً من أفراد المجتمع تعرضت لاضطرابات ما بعد الصدمة خصوصا بعد تحرير مناطق واسعة شمالي العراق من تنظيم داعش عام 2017.
وأشار إلى أن الصحة النفسية "ليست ذات أولوية في العراق بدليل اتجاه الظروف نحو الأسوأ وانتشار الأمراض النفسية بشكل عام".
سوريا
تسببت سنوات الأزمة في سوريا بأضرار جسيمة على المستوى النفسي للسوريين في كل مكان؛ إذ فقد الآلاف منازلهم أو اقربائهم أو اضطروا لمغادرة مدنهم، فيما يتعايش عشرات الآلاف مع المعارك والغارات والقصف المستمر.
والأطفال هم الفئة الأكثر عرضة للإصابة بالقلق والاكتئاب والأشكال الأخرى من الأمراض النفسية، ومثلهم اللاجئون أيضا.
وتشير بيانات متداولة إلى أن نصف الأطفال السوريين يعانون أعراض الصدمة، ويعاني ربعهم مصاعب تتعلق بالتطور والمعرفة، ما يعرّضهم للإصابة بالاكتئاب والقلق والاضطرابات السلوكية.
وحرم غالبية الأطفال اللاجئين من التعليم المدرسي في البلدان المستضيفة لهم، وحتى الملتحقين بالمدارس يحصلون على علامات متدنية نتيجة تعرضهم السابق لرضوض نفسية.
وفي دراسة أجريت على 492 طالباً وطالبة (8 سنوات و15 سنة) في دمشق واللاذقية، كان 50.2% من أفراد العينة نازحون، 32.1% منهم مروا بتجارب سلبية.
وأظهرت النتائج وجود اضطراب نفسي محتمل لدى 60.5% من العينة وكانت متلازمة الصدمة هي الاضطراب الأكثر شيوعاً بنسبة 35.1% يليها الاكتئاب بنسبة 32% والقلق بنسبة 29.5%.
وتقول الناشطة السورية في المجال الإنساني والإغاثي نسرين خليل إن "السلاح ومفرزاته من صور ومشاهد قاسية، هي الأشد تأثيراً في النفس، خصوصا بالنسبة للأطفال الذين تبدو عليهم معالم الخوف والقلق من الموت أو الانفصال والخسارة".
وأكدت أن الرسم يعبر بقوة عما يجري داخل عقول الأطفال.
وأظهرت صور رسمها أطفال سوريون حجم تأثير الحرب عليهم؛ إذ بيَّنت دبابات وجنوداً، وغيرها من مظاهر الأسى الذي لم ينسوه.
وانخفض عدد الأطباء النفسيين في سوريا من 100 طبيب في كل أنحاء البلاد بداية الأزمة إلى أقل من 60 طبيبا حتى عام 2015، كما تفتقر البلد لكادر تمريض متخصص وكاف في مجال الصحة النفسية.
هل من حلول؟
بحسب خبراء نفسيين فإن من طرق علاج الحالات النفسية: العلاج باللعب، والرسم، أو برواية الحكايات خاصة بالنسبة للأطفال ضحايا الحروب، وإعطاؤهم مساحةً أكبر من الوقت للتحدث معهم، وجعلهم يشعرون بالقرب منهم والحب وبالأمان وتوفير الحماية وإعادة دمجهم في المجتمع.
وبشكل عام فإن الأكثر أهمية هو تكثيف التوعية بأهمية الرعاية النفسية للجميع، وإعطائها أولوية كافية في برامج ومشاريع المنظمات الدولية الناشطة وتوسيع مراكز الرعاية النفسية في المناطق الأكثر تضررا بذات القدر الذي توليه للأوبئة الأخرى كالكوليرا وغيرها في البلدان العربية المضطربة.