صورة من تشييع أحد  ضحايا النجف/ 6 فبراير 2020/ المصدر: فيسبوك
صورة من تشييع أحد ضحايا النجف/ 6 فبراير 2020/ المصدر: فيسبوك

موسيقى الحزن في لطميّات الكثير من شيعة العراق، والشموع المحاطة بالورد التي توقد في بيوت العزاء. معزّون يُظهرون حزنهم بالنواح أو اللطم على الرأس والصدر والكتفين... بعضٌ من مشاهد الفقد شبه اليومي منذ أربعة شهور في محافظات جنوبية. 

هناك، في بيوت الفاقدين والفاقدات، يُصاغ الوجع إلى أقصاه، وتُمنح مرارة الرحيل الأخير حقّها، ولا يُعيب الدمع أصحابه من الفتية والشبّان والرجال، كما ألفنا سماع العكس في بلاد أخرى، كبرت فيها فكرة "الرجال لا يبكون".

"ارحمني يا وادي النجف.. يالماخذ عزاز القلب.. عايفلي بس جروحه.." تتردد هذه اللطميّة في أذنيّ بينما أبحث عن القصص التي تركها قتلى النجف، ليلة الأربعاء، في ذاكرة الأهل والأصدقاء.

وكان يتردد اسم مقبرة النجف كلمّا قرأت عن تشييع لقتلى التظاهرات المستمرة منذ أكتوبر الماضي، في عدة محافظات عراقية، والخميس، شيّع أهلها قتلاهم، حيث المقام الأخير في "دار السلام".

7 قتلى حسب الوكالات الدولية ووزارة الصحة العراقية، ذهبوا برصاص "ذوي القبعات الزرقاء" الموالين لزعيم التيّار الصدري مقتدى الصّدر، وعشرات مقاطع الفيديو والصورة وبعض الروايات من مكان الواقعة، كلها في رأي أحد قادة التيّار نفسه "تمثيل ودبلجة وأفلام هوليودية مدعومة من أميركا"، متسائلاً "أين الشهداء؟ أين مجالس العزاء؟". 

ورداً على حاكم الزاملي، تم تداول صور وأسماء وحتى محاضر عزاء القتلى في مواقع التواصل الاجتماعي.

ومن أقارب المفجوعين، تصف لنا بنين علي، أخت خطيبة أحد القتلى وهو حسين فاضل سعيد شبع (20 عاماً)، المشهد بقولها "أبوه يقول: بويه إنت مو كتلي (ألم تقل لي) بويه اني حزام بظهرك. اشو كسرت ظهري يبويه لعد اني منو اليدفني (مَن سيدفنني؟) بويه اني ردتك انت تدفني بيدك. ليش رحت!!!".

فيما أخته "تقف في العزاء وتصيح أخويه إرهابي أخويه إرهابي حسين إرهابي تدرون ليش!! لأن موّت كلوبنه (قلوبنا)، كسر قلب أمي، جابلي (أحضر لي) هديه زواجي وذهب" في إشارة إلى التهم التي وُجهت للمتظاهرين بأنهم "مندسون ومخرّبون وإرهابيون يخبئون أسلحة في خيمهم" وردت على ألسنة موالين للصّدر في مواقع التواصل وعبر بعض شاشات التلفزة العراقية.

حسين فاضل، قتل في 5 فبراير 2020 خلال هجوم أتباع الصدر على خيم الاعتصام في النجف

أما خطيبته فغلب عليها صمت البلاء، وكأن الكلام يتشعب في داخلها صراخاً، وفق أختها بنين، مضيفةً "كأنها تقول لماذا ذهبت من دوني؟ أين ضحكتك؟ لم أعد أراك فالتراب يغطي وجهك.. ألم تعدني بأن نكمل دراستنا سوياً ونشتري معاً خاتم الزواج وو... لماذا لم تقاوم الموت وتعد لي؟".

وكان والد حسين قد حضّر له طقم عُرسه، وكانت أمّه بانتظار زفّة أصدقائه والأقارب له، لتفرح فيما بعد بأطفاله، لكنها لم تتوقع أن تراهم يرافقونه للقبر.

وتتابع بنين حديثها لـ"ارفع صوتك": "كان طالباً في معهد الفنون الجميله (قسم المسرح) في النجف، شاباً خلوقاً محبوباً ومتواضعاً، يحلم من خلال مشاركته في ثورة أكتوبر، أن يشهد نهاية الأحزاب الفاسدة، ثم يروي لأطفاله في المستقبل فخوراً بأنه شارك في هذه المرحلة من تاريخ العراق، لكنه قُتل".

ونعى كل من أحمد وأمير، ابني عم حسين، فقيدهما عبر فيسبوك. وحاول "ارفع صوتك" التواصل مع أحمد، إلا أنه كان مشغولاً في محضر العزاء.

 

 

لافتة العزاء لحسين فاضل

وحسب التغريدة أدناه، كان حسين نشر في "Stories" الخاصة بحسابه في فيسبوك، نداء نجدة بعد اقتحام خيم الاعتصام في النجف.

 

ومن حسابه الشخصي، كانت الصورة التالية أثناء مشاركته في التظاهرات.

 

يكمل المنشد ويُطلق عليه الرادود أيضاً عبر سماعتي الرأس "حافظني بيّاع الشمع.. من ونّتي المفظوحة.. أوقف واطيح على القبر.. مو صاحبي توّه اندفن.. مشدودة روحي بروحه.. ربعي مثلهم ما شفت.. ننثر حكيهم (كلامهم) عالأكل ويصير كلّه ملوحة"، وعلى الجانب الآخر في الحوار مع بنين، تقول "اعتدنا الحزن".

"ولكم هذا اخويه"

لم يكن جميع القتلى السبعة معروفين، ليلة الأربعاء، تحديداً اثنان منهم، ليقوم عشرات النشطاء وصفحات عراقية بنشر صورتيهما بغية التعرف على هويتهما، منهما الشاب، مسلم راشد الشمري، حين كتبت أخته حوراء حمدان "ولكم هذا اخويه".

صورة نشرتها أخته

 

 

ونشرت الشاعرة أم أسامة النجيفي، راثية القتلى، مشيرة لأخ حوراء "لا جبت لا ربيت لا شفته فد يوم.. أبچي (أبكي) عل بزر (ابن) الناس ومفارجه (مفارقة) النوم.. إلى متى نبقى هالشكل ننعى ونلطم؟ يوميه نزف شبان للمقابر تعبنا وتعبت حتى الگاع (الأرض) من عدنا من گد الحفر والدفن".

وصاحب فيديو تشييع مسلم، الذي نشرته أخته، موسيقى لطمية، يقول منشدها "أشيعهم واودعم شلع قلبي صور ربعي.. إيش ما أبكي سكتوني.. طاحوا قبالي وما شلتهم.. يا موت شو مسوّي.. شمّة ورد شمّيت دمتهم.. يا صحبتنا ويا عشرتنا قرينا الفاتحة عليها".

"ابرولي الذمّة"

من كان يعلم أن هذا اللقاء الذي رفض مهند القيسي، الطالب في قسم اللغات بجامعة الكوفة، إجراءه، سيكون "وصيّته الأخيرة" حيث قال "دم الشهداء هو فقط ما يمثلنا".

وقتل مهند في الهجوم المسلح على خيم الاعتصام في النجف، وكانت مطالبه كما قال "واضحة" وهي "تغيير النظام بصورة جذرية لأن النظام كلّه فاسد".

وفي هذه الصورة التي نشرها على حسابه في إنستاغرام، كتب "قم من جراحك قد صبرت طويلاً.. ما عاد صبرك يا عراق طويلاً".

وكان آخر رسائله عبر "Stories" الإنستاغرام "أنا رايح الساحة ابرولي الذم"، في إشارة إلى أنه قد يتعرض للقتل بسبب خطورة الوضع.

"على طاري العزاز اشقد بكينا.. لحد ما حرقت الدمعات العيون.. والله هاي المقبرة اشقد ظامّة اعزاز.. وال بيهم حميّة عيب يبقون" ينشد صوتٌ آخر مصاحب لنسخة ثانية من الفيديو أعلاه.

 

قتلوا طفلاً أيضاً!

صورة لكرار الياسري من صفحته الشخصية في فيسبوك

"انتقل إلى رحمة الله، الشاب الشهيد كرار عدي عالم الياسري، وستقام الفاتحه على روحه الطاهرة في جامع الخزاعل الكبير في شارع المعمل، وسيقام التشييع في جامع الخزاعل الكبير الساعه العاشرة صباحاً" كتب أحد أصدقاء كرار، الذي قتل أيضاً في هجوم موالي الصدر من مليشيا "القبعات الزرق".

 

وعند تقليب صوره في صفحته الشخصية (فيسبوك)، أعلاه كانت الأحدث، وعمره 15 عاماً!

يقول فؤاد، وهو صديق مقرّب لكرار، كان يشاركه دائماً لعب "الببجي" لـ"ارفع صوتك": :ترك كرار المدرسة وهو في صف أول متوسط، بسبب وفاة والده، من أجل العمل وإعالة إخوته الأصغر منه...".

ويضيف فؤاد أن الحالة المادية لعائلة كرار كانت صعبة جداً وكان مؤخراً عاطلاً عن العمل.

كرار مع أخته الصغيرة

 

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.