إذا كنت بلا عمل .. فأهلا بك في عالم التحليل السياسي
في صيف 2015، كنت واقفا قرب استوديو الضيوف بالمؤسسة الإعلامية التي أعمل بها في ذلك الوقت، حضر عند وقت النشرة الرئيسية ضيفها من بغداد المحلل السياسي (دون ذكر أسماء)، ومعه شخص يرتدي بدلة بسيطة مع ربطة عنق أبسط، ويبدو من ألوانها انه لم يعتد لبس البدل الرسمية بعد.
بعد التعارف، حاول استعراض خبرته في السياسة، وعندما واجهته برأيي المخالف سرعان ما تراجع ورد عليّ "هل ترى ذلك؟ أتمنى أن تساعدني فأنا أريد أن أكون محللا سياسيا، وأتيت مع الضيف لأتعلم كيف يعمل ويحلل المحللون السياسيون".
بعد سؤالي للضيف الذي خرج من استضافة النشرة عن طالب التحليل السياسي الذي قدم معه، قال لي إنّه "عسكري سابق من أقاربي وليس لديه عمل حاليا، قلت له تعلم التحليل السياسي ومهما كان المبلغ الذي ستحصل عليه فهو أفضل من جلوسك في المنزل".
أدركت حينها أن التحليل أصبح مهنة وليست خبرة، خصوصا وأنا أشاهد طالب التحليل ذلك وقد أصبح محللا يخرج على شاشات عديدة، بينها عربية وليست محلية فقط، آراؤه بسيطة ويتحكم بها المذيع، والشيء الوحيد الذي اختلف لدى ذلك الطالب هو لون شعره المزروع حديثا في تركيا ولون بدلته الرسمية.
وهذا قطعا لا ينطبق على الجميع، وهو ما اتفق معي فيه المتحدثون في هذا المقال.
عندما يكون التحليل تطرف
ما دفعني لكتابة هذا المقال، الذي قد يزعج الكثير من أصدقائي المحللين، هو مشاهدتي لأشخاص (يدّعون الحكمة السياسية) يدعون لمعاقبة مكون كامل على أساس الطائفة، أو لإبادة مناطقهم.
ومحلل آخر يتلوّن وفق سياسة القناة التي تستضيفه، فأحيانا يدعو لضرب وقتل المحتجين، وأخرى يعطي لهم حق الاحتجاج والتظاهر لعدم توفر سبل العيش الكريم وفرص العمل (.....).
ويبدو أن هذا لم يكن رصدي فقط، فعلى المستوى الأكاديمي يؤكد رئيس مركز التفكير السياسي وأستاذ العلوم السياسية إحسان الشمري ما ورد أعلاه، ويقول "هذا الموضوع أصبح خطيرا، خصوصا إذا ما أدركنا أن بعضهم أصبح أداة بيد أحزاب وتوجهات وحتى أطراف لدول خارجية، لتمرير بعض القناعات إلى الرأي العام العراقي".
ويضيف الشمري في حديث لموقع (ارفع صوتك) أن خطورة دورهم لا تختلف عن خطورة مواقع التواصل الاجتماعي، فـ"الاثنان لديهم دور مهم في التأثير على الرأي العام ويمكن أن يغيرا القناعات".
مهنة لا مهنة له
لكن يبدو أن الشارع بدأ يميز بين شخصيات المحللين، "فمن يحرض ضد طرف معين هذا ليس محللا بل مسوقا لأفكار تلك الجهة، لذلك الرأي العام العراقي بدأ يميز بأن هذا الشخص هو تابع" وفقا للشمري.
ويؤيد الكاتب الصحفي حسن حامد سرداح ما ورد، ويضيف أنه في الفترة الأخيرة "أصبح التحليل مهنة لا مهنة له، فالكثير من الجهات السياسية توظف أشخاص دورهم إيصال رأيها وموقفها ويدافعون عن ذلك الموقف أو الرأي".
ويعمل سرداح معدا للبرامج السياسية في إحدى القنوات العراقية، ويقول في حديث لموقع (ارفع صوتك)، إن معظم هذه الشخصيات "تحلل الأمور بدون أي معلومات يرتكز عليها وتطرح مواضيع بعيدة عن الواقع، قد تكون مدفوعة الثمن من أطراف سياسية وحزبية لنقل رأيها إلى الشارع".
وهذا الأمر بدأ يزداد بعد أن فقد الشارع العراقي ثقته بتلك الأحزاب لذلك توجهت لتوظيف "مروجين بصفة مستقلين، فهذه أسهل وأسرع طريق للقوى السياسية لتسقيط خصومهم أو للتحريض ضدهم"، بحسب سرداح.
خلايا التحليل
وبرزت هذه الظاهرة بشكل واضح جدا وفقا للمتحدثين السابقين في مرحلة التظاهرات وبدأت تحرض على ضرب المتظاهرين وتصفهم بالجوكرية أو العملاء.
وكشف مصدر طلب عدم ذكر اسمه، أن هناك مجاميع من المحللين تعود إلى القوى السياسية المسلحة التي تسمي نفسها "محور المقاومة"، وهي الجهات السياسية الممثلة للمليشيات.
وتقسم تلك المجاميع إلى خلايا منها "خلية المهندس والاتحاد الإسلامي".
ويقول المصدر إنه "بشكل مفاجئ ظهرت تلك الشخصيات وفرضت على القنوات، وهددوا الأخيرة بالإغلاق أو الاقتحام، في حال عدم ظهورهم".
مؤهلات التحليل
ويرى رئيس مركز التفكير السياسي، أن من المحلل يجب أن يمتلك جملة مقومات، أبرزها:
- يمتلك القدرة على تفكيك المواقف والأخبار.
- أن يتبع هذا التفكيك استشراف لما يمكن أن يحدث مستقبلا.
- أن يستند إلى قاعدة معلومات.
- أن يكون قريبا من المعلومة وليس من الأحزاب، فبعض القوى والأحزاب السياسية والزعامات تطلق معلومات غير دقيقة وبالتالي يسقط الكثير من المحللين في عملية ترديد هذه المعلومات وهذا خطأ كبير.
- أن يكون من ذوي الاختصاص أو قريبا منه، يبني التحليل على أساس الأكاديمية العلمية ومنهج البحث العلمي السياسي.
- بالإضافة إلى الصفات الشخصية، كالمصداقية والمقبولية والكاريزما.
لكن على أرض الواقع، فإن الصحفي سرداح يرى أن المعيار الأساسي في البحث عن محلل سياسي بدأ يعتمد على "اختيار شخصية تردد كلمات تثير الرأي العام أو الرأي المقابل لتحقق البرامج السياسية أكبر عدد من المشاهدات".
ويتابع "في بعض الأحيان لا تبحث القناة عن المعلومة، بل عن تفاعل الشارع مع المحلل وعدد المشاهدات التي من الممكن أن يحققها".
بدعة في عالم الإعلام
"لا وجود لصفة أو مهنة تسمى المحلل السياسي"، أول ما تحدث به عميد كلية العلوم السياسية في جامعة النهرين عامر الفياض، موضحا في حديث لموقعنا، "ولو افترضنا وجود محلل فلا بد أن يكون عضو مركز بحثي أو نقابة الصحفيين، وعندما تعود إلى هذين المؤسستين لن تجد صفة محلل سياسي لذلك تعتبر هذه المهنة بدعة في عالم الإعلام".
ويوضح الفياض أنه ضمن إطار العلوم السياسية هناك مقررات وكتب متعددة تحمل عنوان محلل سياسي، تشير إلى أن من يريد أن يعمل في التحليل السياسي لابد وأن يتمتع بمواصفات أهمها أن "تكون مواقفه خالية من الانحياز، لأن دوره التحليل والتفسير وليس اتخاذ موقف".
ويرى الفياض أن مسؤولية من يحرض على العنف (من المحللين) تنصرف إلى صاحب الرأي نفسه، فهي "مسؤولية فردية".
ويتابع "مسألة انتحال صفة المحلل أو الكاتب أو المختص من الممكن تلمسها وملاحظتها، ومن يتحمل المسؤولية هو صاحب الشأن".