العراق

"أمها حيل متأذية".. حياة رهام من التوهّج إلى اغتيالها

رحمة حجة
20 أغسطس 2020

يطغى الأسى على منشورات العراقيين في مواقع التواصل الاجتماعي، بعد اغتيال الشابة رهام شاكر يعقوب، من مدينة البصرة جنوب البلاد.

واغتيلت رهام (30 عاماً)،  أمس الأربعاء،  برصاص مجهولين أثناء تواجدها في سيارتها.

يقول أحد أفراد عائلتها الذي تحفّظ على اسمه، لـ"ارفع صوتك": "كانت عائدة من الجيم (النادي الرياضي الذي تُديره) برفقة أختها وصديقتها الدكتورة (نتحفظ على اسمها)، خارجة من شارع الجزائر باتجاه حيّ الرضا لإيصال صديقتها، أختها أصيبت في يدها بزجاج السيارة المتكسر، وهي في المستشفى حالياً، بينما أصابت رصاصة يد الدكتورة معها".

ومكان حصول الجريمة، تقاطع الجمهوريه في الشارع التجاري بمدينة البصرة، حسب قريبها. 

 لقطة من خرائط غوغل توضح طريق رهام ومكان اغتيالها

ويقول قريب رهام الذي حضر جنازتها اليوم الخميس، إن عدد المشاركين فيها بالعشرات مضيفاً "لكننا فوجئنا بالمئات في انتظارنا عند مقبرة السلام في النجف" 

 

ويصف لـ"ارفع صوتك" حال ذويها بالقول "أبوها وأمها ما اعرف شلون اوصف حالهم.. بس امها حيل متأذية".

وعن نفسه يقول "المرحومه رهام أقرب قريباتي عندي، يعني هية قريبة علي من صغري، أنا جنت دايماً عدهم.. هي المحبوبة عند الكل بحيث خوالي كلهم تعبت نفسيتهم.. قلبها طيب، وأي شخص يحتاج مساعدة تلكاها (تجدها) أول شخص توكف (تقف) وياه".

"بس هيه البنيه الوحيده اللي عندي من أتصل بيها أرتاح" يضيف قريب رهام، متابعاً "يعني هيه كانت كل فترة تجينه وتجيب (تحضر) خواتها وأنا آخذ خواتي ونروح نطلع نفتر (نتجوّل) جانت صديقتي مو بس قريبتي".

ويتذكّر بحزن "أكثر كرايبنه (أقاربنا) يشبهوني بيها، يكلولي (يقولون لي) أنتم تشبهون بعض".

"والله ما اعرف شكول تفكيري مشتت" يقول قريبها الفتى الذي لم يبلغ العشرين من عُمره، في نهاية حديثه لنا. 

وتركت رهام ثلاثة إخوة وثلاث أخوات مع أبيها وأمها، مفجوعين لرحيلها، والجريمة التي لا يُعرف فاعلها.

ويرجّح الكثير من العراقيين أن مرتكب جريمة القتل بحق خبيرة التغذية رهام يعقوب، هم عناصر ميليشيا مموّلة من إيران. 

 

رائدة التوعية الصحيّة في مدينتها

كان لطالبة الدكتوراة والمدربة الرياضية مديرة النادي الرياضي "Dr Fit" في البصرة، بصمة واضحة في حياة النساء والتوعية بأهمية الرياضة والتغذية السليمة، وهو ما بدا جلياً في الصور وفيديوهات البث المباشر التي كانت تنشرها عبر صفحاتها في فيسبوك وإنستاغرام، ويتابعها عليها أكثر من 80 ألف شخص.

مسيرة الأمس #فخر_مملكتي قطعنا مسافة 12.73👣 .. 8.6KM .. من العباسية للجسر الايطالي ذهاب واياب وكانت محطتنه الاخيرة كورنيش البصره(القصور الرئاسية)

Posted by ‎د.رهام يعقوب‎ on Wednesday, August 21, 2019

 

 

وليس من المستغرب كل هذا الأسى والحزن حتى لمن لم يلتقها أو يعرفها في حياتها، على مقتلها، فنشاطها وطاقتها المتوهجة وثقتها العالية بنفسها، وإبداعها في الترويج للصحة البدنية، كانت محط إعجاب الآلاف، ليس من البصرة فحسب، بل في محافظات عراقية أخرى أيضاً. 

وربما أكثر نشاط لافت كانت تقوم به، هو حث نساء البصرة على المشي من أجل صحة أفضل، في شوارع البصرة، حيث سارت مئات النساء معها.

في مقابلة إذاعية سابقة مع د. رهام، قالت إن فكرة المشي في الشوارع كانت تخيف النساء من النظرة السلبية أو الاختطاف، لكن لاقت إقبالا كبيراً بسبب الثقة المتبادلة بينها (رهام) وبينهن وأهاليهن، بالإضافة لاحترامهن الشوارع التي يمشين فيها. 

وفي نفس المقابلة، أكدت د. ريهام أهمية العلم والبحث العلمي في كسب الثقة والإقناع بجدوى التمارين الرياضية والتغذية السليمة، فرسالة الماجستير التي أعدتها، ارتكزت على إجراء تدريب ومتابعة مع 60 امرأة لمدة ستة شهور، لإثبات فرضيتها حول أسباب السمنة العديدة خصوصاً الخلل في النظام الهرموني، بالإضافة إلى الضغط النفسي وأسلوب التغذية، والوصول إلى حلول عملية للحد من مشاكل السّمنة في العراق.

كمتا حرصت على نشر ثقافة النظام واحترام القانون والمواءمة بين الحق الفردي والحق العام، من أجل تغيير  إيجابي في المجتمع، دون الدخول في معارك معه.

وأعربت عن طموحها في أن تتولى وزارة الشباب والرياضة في بلدها، بينما كان هدفها المرحلي إقامة ناد رياضي أكبر من الذي تديره، لكي تستوعب أعداداً أكبر من النساء، لكن حلمها بقي معها، حيث أبعدها عنه رصاص القتلة.

صورة من تويتر لأخ رهام

 

#شهيده_الوطن_رهام_يعقوب

في تويتر، تصدّر وسم "شهيدة الوطن رهام يعقوب" تغريدات العراقيين الذين شاركوا حزنهم ويأسهم إزاء الجريمة التي ارتكبت بحق الشابة التي نشرت في حياتها الطاقة والحيوية، والابتسامة أيضاً على وجوه الكثيرين، ونعاها أصدقاؤها ومعارفها على صفحتها في فيسبوك، بينما زاد متابعوها خلال أقل من 24 ساعة على مقتلها لأكثر من 15 ألفاً في إنستاغرام.

 

 

 

"لنا رب عادل"

كانت هذه العبارة جواباً على رسالة أحد أصدقاء رهام، يخبرها فيها عن التحريض ضدها عبر وكالة أنباء إيرانية. 

خية رهام دطلعي تگلي لنا رب عادل ولج متگليلي شنو ذنب اهلج ياساقطين مالگيتوا غيرها هاي رهام تعرفوها شگد ادمية؟؟؟؟ لو متعرفون؟ لاحول ولا قوة الا بالله راحت يم الرب العادل على يد ناس مايعرفون العدالة

Posted by Omar A. Faraj on Wednesday, August 19, 2020

 وفي سبتمبر عام 2018، نشرت وكالة "مهر" الإيرانية للأنباء، تقريراً بالعربية عنوانه "دور القنصلية الأمريكية في البصرة في تحريك الشارع العراقي"، تحرّض فيه على عدد من نشطاء البصرة في احتجاجات ذلك العام، التي اندلعت قبل شهرين من نشر التقرير، بسبب سوء الخدمات الأساسية المقدمة للمدينة النفطية في العراق. 

صورة من تقرير الوكالة الإيرانية

ومن بين الأسماء المذكورة بالصور كانت رهام، حيث كُتب عنها "رهام يعقوب، إحدى الفتيات العراقيات الناشطات في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي خريجة علوم التغذية، ولديها العديد من المتابعين على حساباتها الاجتماعية، إلا أن منشوراتها لا تتعلق بأمور التغذية فقط بل تقود مظاهرات نسائية في المدينة تحت عناوين رياضية وتعليم وغيرها، إلا أن في الواقع أثرت عن طريق العديد من الأوسمة على أحداث البصرة مثل #نساء_مدينتي و #فخر مملكتي".

والمتابع لهذين الوسمين اللذين استخدمتهما رهام، يلاحظ أنها كانت تروّج عبرهما للنشاطات الرياضية فقط. 

وكانت شاركت في الاحتجاجات 2018، وظهرت في إحدى المقابلات تركز على سلمية المتظاهرين وتؤكد حقهم في المطالبة بتحسين الخدمات في محافظتها، محتجة ومبدية غضبها إزاء قتل المتظاهرين السلميين.

"كنت أتمنى أن تشرب وزيرة الصحة من ماء البصرة لتعرف معاناتنا" فيديو قديم للناشطة رهام يعقوب المصدر: قناة سكاي ميشكان

Posted by ‎Irfaa Sawtak - ارفع صوتك‎ on Wednesday, August 19, 2020

يقول أحمد العلي، وهو أحد الناشطين في احتجاجات البصرة 2018 و2019 حتى الآن، إن واقعة اغتيال رهام حصلت على مقربة من مكان اعتصامهم، أمس الأربعاء، وحين علم به هرع إلى المكان مع بعض رفاقه، وكانوا أخذوا جثتها إلى المستشفى.

ويضيف لـ"ارفع صوتك": "عام 2018 رأيتها في ميادين الاحتجاج، لكن في ثورة أكتوبر ٢٠١٩ لم أرها، إنما كانت على تواصل مع أصدقائنا".

في هذا السياق، يقول أحمد العايدي، وهو أحد المقرّبين من عائلتها لـ"ارفع صوتك": "رهام كانت مهددة منذ 2018 بسبب صور لها مع القنصل الأميركي بمناسبات معينه مثل يوم المرأة العالمي وندوة ثقافيه وفطور رمضاني، باعتبارها ناشطه وشابة فاعلة في المجتمع البصري، وتحمل شهادة عالية مع خبرة بالإضافة لعملها الإذاعي".

لكن "السبب الرئيسي لقتلها ليس صورها في القنصلية الأميركية طبعاً، هذه مجرّد حجة حتى يغتالونها، ولكن السبب لأنها خرجت ضد الأحزاب والحكومة في مظاهرات 2018" يقول أحمد.

ويتابع "أنا متأكد أن أحد الأحزاب عرف أن صوتها مسموع وأنها مؤثرة على نساء البصرة، فبحث عنها وحرّض ضدها لكي يتسنّى له قتلها".

مرّ عامان على نشر الوكالة الإيرانية لتقريرها التحريضي، فهل هو السبب فعلاً لاستهدافها؟ 

يقول الصحافي منتظر بخيت، وهو صديق الراحلة رهام، لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنه تقرير قديم، لكنه كان جزءاً من حملة إلكترونية تحريضية من قبل الجيوش الإلكترونية في مواقع التواصل، استمرت طيلة العامين الماضيين".

ويؤكد "حتى الأسبوع السابق لاغتيال رهام تم تداول هذا التقرير والتحريض ضدها بوصفها عميلة أميركية، كما أخبرتني رهام أكثر من مرة عن الضغوط التي تعيشها بسبب تداول مثل هذه الأخبار".

ويتابع منتظر "الصور في احتفالية القنصلية الأميركية لم تكن سراً، نشرتها القنصلية ورهام نفسها، في يوم المرأة العالمي، وتمت بمشاركة جهات عديدة من وجوه البصرة والإعلاميين وقيادة الشرطة والحكومة المحلية، ليس نشطاء فقط، لكن الجيوش الإلكترونية استخدمتها في حملة ضد رهام بسبب نشاطها في احتجاجات البصرة".

ويقول "وبسبب التهديد المستمر لرهام، ابتعدت عن البصرة لشهور عام 2018 ثم عادت حين هدأت الأوضاع، وتفرغت للعمل في النادي الرياضي والدراسة لنيل شهادة الدكتوراة، ونأت بنفسها عن احتجاجات 2019 (ما عرف بثورة أكتوبر)".

وعن واقعة الاغتيال أمس الأربعاء، أكد منتظر "شرطة النجدة كانت على بعد 50 متراً تقريباً من إطلاق الرصاص، لكنها لم تتحرك".

"استقرت ثلاث رصاصات في جسد رهام، الأولى في رقبتها واثنتين في الصدر، وحين فقدت السيطرة على مقود السيارة ضربت سيارتها الرصيف" يوضح منتظر.

ويختم حديثه لـ"ارفع صوتك" بالقول "كل ما فعلته رهام أنها أرادت رؤية مدينتها جميلة تنعم بحياة أفضل، عبر نشاطاتها الرياضية والتوعوية، فقتلوها.. صعب جدًا أن تفقد صديقين يملكان هذا الفكر والإنسانية والتأثير الكبير في ظرف أسبوع واحد..."

رحمة حجة

مواضيع ذات صلة:

بدوي يرعى جماله في المناطق الصحراوية بين الأنبار وكربلاء عام في فبراير 2015 (صورة تعبيرية).
بدوي يرعى جماله في المناطق الصحراوية بين الأنبار وكربلاء عام في فبراير 2015 (صورة تعبيرية).

ترك كريم العتيبي حياة التنقل وتربية الإبل في بادية السماوة (مركز محافظة المثنى) جنوبي العراق، واستقر على بعد كيلومترات في مركز المدينة. مع ذلك فإن إرث أجداده البدوي ما يزال واضحاً في لهجته وزيه العربي الذي يرفض التخلي عنهما.

قبل مائة عام كان أجداد العتيبي يشدّون رحالهم ويتجهون صوب البادية دون أن تقف الحدود عقبة أمام مساعيهم نحو البحث عن العشب والماء، قبل أن يعودوا أدراجهم مع بداية موسم الأمطار في العراق، وفقا للعتيبي الذي تحدث لـ "ارفع صوتك".

ويضيف أن "البادية على وسعها بدأت تضيق بنا، فالجفاف ضرب المنطقة، أما من يعبر الحدود بين العراق والسعودية والكويت، فيلقى القبض عليه ويقدم تعهداً يقضي بعدم تكرار التجاوز، بعد أن كان أجدادنا يتنقلون بحرية بين هذه البلدان".

سفينة الصحراء وموجات الجفاف المتتالية في العراق.. عن أهمية الجمال في حياة البدو
"ليس حليب النوق وحده هو ما يجنيه البدوي من فائدته، فهو طوق نجاته في بحور الرمال العظيمة، ومصدر مأكله ومشربه وملبسه. فاللحم للغذاء والفراء للاستدفاء، والجلد لصناعة بعض الحاجيات، ومن وبره يصنع بيت شعره وخيمته، ويستخدم بعره كوقود بعد تيبسه، وبوله للتنظيف وكدواء ومادة لغسيل الشعر وقتل القمل"

وفقا لثائر الصوفي وهو أستاذ التاريخ المتقاعد في جامعة الموصل، فإن "حياة البدو تغيرت بشكل كبير، فلم يبق لديهم بادية نقية تتضمن قيما وتقاليد وطريقة عيش بالأسلوب الذي كانت عليه. البداية كانت مع محاولات التوطين الكثيرة للبدو خلال العهد العثماني، ثم مع احتلال الإنكليز للعراق، وأخيراً مع حكم عبد الكريم قاسم -أول رئيس وزراء عراقي في النظام الجمهوري- ومشروع الإصلاح الزراعي".

حينها كما يوضح الصوفي "منحت عشائر البدو الأراضي وحفر الآبار بهدف استقرارهم. كثير منهم وجد في حياة الاستقرار أسلوب حياة أفضل، مع توفر أرباح من الزراعة".

أما اليوم، فيتعرض مجتمع البدو في العراق إلى أسوأ حقبة في تاريخه لأسباب اقتصادية وسياسية وبيئية متنوعة. ويعاني أغلب البدو من الفقر والفاقة التي تسيطر على أغلب جوانب حياتهم" كما تقول دراسة بعنوان "التراث الثقافي اللامادي لبدو العراق" للباحث صلاح الجبوري.

 

أعدادهم في تناقص

 

وجود البدو في العراق ليس حديثاً، كما يشير أستاذ التاريخ في جامعة الموصل عامر الجميلي، بل أنه "قديم ومتجذر، وهناك وثائق تشير لوجودهم قبل خمسة قرون".

يقول الجميلي لـ"ارفع صوتك" إن "أهم قبيلتين بدويتين في المنطقة، هما شمر وعنزة، واستقرتا في مناطق واسعة من بوادي العراق الثلاث وهي الجزيرة والمثنى والأنبار، ضمن المناطق الحدودية مع سوريا والسعودية".

ويضيف أن "أعدادهم بدأت بالتناقص مع أول دعوة للتحديث والتحضر، التي اضطلع بها الشيخ عجيل الياور شيخ مشايخ شمر، أوائل القرن العشرين".

أما حالياً "فيصعب حصر تعدادهم السكاني" كما يقول أستاذ التاريخ ثائر الصوفي بسبب "ذوبان أغلب العشائر في النسيج الاجتماعي بالمناطق الحضرية والريفية".

نسبة البدو العراقيين تطرق إليها الباحث هاشم نعمة في دراسة بعنوان "نمو سكان المناطق الحضرية في العراق وآثاره الاجتماعية والاقتصادية".

وأشار فيها إلى أن "الارتقاء الاجتماعي السريع والعاصف في فترة وجيزة لا تزيد على بضعة عقود، أدى إلى اختفاء البدو تقريباً، فقد هبطت نسبتهم، من 35% من إجمالي السكان في القرن التاسع عشر، إلى 4% في عام 1957، ثم إلى 1% في ثمانينيات القرن العشرين. والآن من المرجح أن نسبتهم أقل من ذلك".

في المقابل أشارت دراسة الباحث صلاح الجبوري "التراث الثقافي اللامادي لبدو العراق" إلى "وجود 150 - 170 ألفا من البدو في العراق حالياً".

وفقا لكريم العتيبي، فإن بدو العراق ينقسمون اليوم إلى نوعين، الأول منهما، هو الذي استمر في تربية الإبل والعناية بها والتنقل مسافات طويلة إلى حيث الماء والعشب على طول البادية، أما الثاني فتحول إلى رعاية المواشي (الأغنام والماعز)، ولا تتطلب العناية بها التنقل لمسافات طويلة.

وأشار إلى أن "طبيعة العناية بالإبل والمواشي، اختلفت بشكل كبير خلال العقود الأخيرة، فأصبحنا نستخدم السيارات لنقلها وجلب المياه، ونصطحب معنا مولدات كهربائية ونشتري العلف، هذا كله أدى إلى زيادة التكاليف وقلة الأرباح، وبالتالي أصبح من الصعب الحفاظ على طرق العيش القديمة".

ويقول إن "جلب المياه بالسيارات، غير مجد للبدوي مربي الإبل، ولا يمكنه البقاء في المنطقة عندما يبذر الفلاحون الحنطة والشعير، لذلك يبقى بحاجة للدخول إلى عمق البادية من أجل حيواناته".

 

"الحروب" و "المناخ"

 

أسباب التراجع في أعداد البدو وحجم ما يمتلكونه من جمال ومواش لها أسباب عديدة، فالحروب لعبت كما يروي كريم العتيبي لـ "ارفع صوتك" طدوراً في تقليص قدرة البدو في التنقل مع حيواناتهم".

ويقول إن "أكبر المخاوف بدأت مع مخلفات الحرب التي كانت تنفجر على البدو فيتكبدون خسائر بشرية وتموت حيواناتهم، فاضطروا إلى تغيير طرقهم ومناطق رعيهم مع كل حرب جديدة يخوضها العراق".

يقول أستاذ التاريخ ثائر الصوفي إن "أوضاع البدو المالية تدهورت مع حلول الألفية الجديدة، حين بدأت كميات الأمطار المتساقطة بالتراجع، ومعها أصبحت الأراضي جرداء والعشب يقل يوماً بعد يوم".

ويضيف أن "بادية الجزيرة التي كانت تسمى بسلة العراق الغذائية، لم تعد كذلك بسبب الجفاف، وبالتالي ازدادت البطالة وتخلى الكثير من البدو عن حيواناتهم وسكنوا القرى وساد الفقر بينهم. اضطر بعضهم إلى العمل في التهريب والبعض الآخر انتمى للجماعات الإرهابية في سبيل البقاء حياً".

ويتابع الصوفي: "ذلك الانتماء لم يكن واسعاً، وانتهى سريعاً مع سيطرة الدولة على المناطق التي اجتاحتها تلك الجماعات، فيما تقلصت عمليات التهريب بعد أن عززت السلطات الأمنية مسكها للحدود".

 

"العادات والتقاليد"

 

لا تتعلق التغيرات التي طرأت على المجتمع البدوي في العراق على تعدادهم السكاني فحسب، بل تأثرت أيضا الكثير من "العادات والتقاليد" وطرق العيش التي كانت سائدة.

أهمها بيوت الشَعر التي كانت واحدة من أهم أنواع التراث الإنساني للبدو، فلم يعد هؤلاء ممن يعيشون في القرى والمدن يسكنون فيها.

يقول محمد ناصر الذي ترك حياة البداوة وتوجه للوظيفة الحكومية في المدن: "يبني البدو بيوتاً من الطوب للعيش، أما البدو من مربي الإبل فلديهم بيت قائم ثابت تعيش فيه العائلة في أيام توفر العشب بالقرب من المدن، وفي رحلة الصيف إلى عمق البادية يصطحبون نصف أفراد العائلة للرعي وهناك يستخدمون بيوت الشعر".

ويضيف: "حتى بيوت الشعر تغيرت، فسابقا كانت تصنع من شعر الماعز المقاوم للظروف الجوية، الذي يمنع تسرب الماء في الشتاء ويسمح بدخول الهواء في الصيف. أما حالياً فتتوفر المواد والأقمشة في الأسواق، وقليلاً ما يتم نسج بيت الشعر من قبل البدويات".

ويتابع ناصر: "في السابق، من النادر أن نجد بدوياً يتدرج في الدراسة، لما تتطلبه من استقرار مكاني، أما حالياً، فبفضل الاستقرار في القرى والمدن دخل أبناء البدو إلى المدارس وتخرجوا من الجامعات وتدرجوا في السلم الوظيفي. كثير منهم يفضل الانتساب للقوات الأمنية لما توفره من رواتب مستقرة ومجزية".

ويشير إلى أن "الكثير من تقاليد الحياة البدوية تأثرت، فالصيد الذي كان أجدادنا يتباهون به خلال جلسات السمر في المصايف حين تدور دلال القهوة بين الحاضرين، أصبح اليوم محدوداً".

وحتى سبعينيات القرن العشرين كما يقول أستاذ التاريخ ثائر الصوفي "كان البدو يتنقلون في البادية على الجمال والخيول، لكن مع دخول السيارات إلى حياتهم تركوا الخيل للصحراء لتتحول إلى حيوانات برية، أما في الوقت الحالي، فمن يمتلك الخيل منهم يكون لأسباب الترف".

ويؤكد أن "حياة البدو بمعناها القديم أو كما نقرأ عنها في الكتب والمصادر التي كتبت في النصف الأول من القرن العشرين، لم تعد موجودة إلا في النادر جداً، مع ذلك، فإن البدوي العراقي، مهما ترك البادية واستقر، فإنه يعود إليها في حنين شديد، ويستمر في الحفاظ على تقاليدها من كرم الضيافة والنخوة".