يهود العراق.. لم يبق "إلا الذكريات"
اعتاد عمر فرهادي في صغره تسخين الطعام لجيرانه اليهود أيام السبت. واليوم لم يعد هناك وجود لليهود في كردستان العراق كما في بقية أنحاء العراق، لكن إرثهم ما زال موجودا.
وتفيد الرواية التاريخية أن "أبا الأنبياء ابراهيم ولد في أور جنوب العراق"، وفي الجنوب أيضا، حسب روايات أخرى، تقع جنات عدن في قلب أهوار العراق، وهناك أيضا كتب التلمود البابلي.
وبإيمانهم الراسخ بهذه الجذور، عاش اليهود سنين طويلة في هذا البلد حيث شكلوا ثاني أكبر طائفة في بغداد، بنسبة 40% من سكانها، وفقا لإحصاء أجرته الإمبراطورية العثمانية سنة 1917.
لكن خلال القرن الماضي وبسبب الحرب الإسرائيلية العربية، وقيام إسرائيل، فر معظمهم وتمت مصادرة ممتلكاتهم وتلاشت إمكانية عودتهم إلى العراق.
يستذكر الصحافي المخضرم عمر فرهادي (82 عاما) أيامه في حي طاجل اليهودي القريب من قلعة أربيل شمال العراق، كما لو كانت البارحة.
مصادرة الأملاك
يقول فرهادي لوكالة فرانس برس عند زقاق قيصرية أقدم سوق في مدينة أربيل يضم حاليا دكاكين "هنا كان مكان دكان وكشكين آخرين لوالدي. بعدها كل الدكاكين كانت ليهود أكراد".
وفي المدرسة، كان لفرهادي العديد من الزملاء اليهود. وحتى معلم اللغة الإنكليزية كان اسمه بنهاز عزرا سليم.
ويستذكر مدرسه قائلاً "أحد الأيام، جاء يودع معلمنا للغة العربية وهو مسلم أسمه خضر مولود، وكشف أنه مهاجر إلى إسرائيل. احتضنا بعضهما وهما يبكيان"، معتبرا هذه اللحظة "نهاية اليهود في أربيل".
وفي 1948 سنة إعلان اسرائيل، كان عدد اليهود الموجودين في العراق يبلغ 150 ألف شخص، ولكن بمرور ثلاث سنوات رحل 96% منهم.
وهاجر من تبقى منهم بعد الغزو الأميركي للعراق في 2003، الذي دشن 15 عاما من العنف شبه المتواصل.
وتفيد واحدة من الوثائق الدبلوماسية التي نشرها موقع ويكيليكس أن الجالية اليهودية في بغداد كانت تضم ثمانية يهود فقط في 2009.
بينما تشير إحصاءات رسمية إلى وجود 219 ألف يهودي من أصل عراقي في إسرائيل يشكلون أكبر مجموعة لليهود من أصول آسيوية.
وصادرت الدولة العراقية ممتلكات اليهود ومنازلهم، بما في ذلك مدارسهم بينها التي كانت مفتوحة في منطقة البتاوين وسط بغداد، المتداعية بسبب الإهمال.
"ديانة محمية"
ما تبقى هو تاريخ تروي بعضه غرفة في متحف أربيل التربوي لتخليد ذكرى "دانيال كساب" الذي كان مدرسا يهوديا كرديا معروفا للفن، وكذلك جميع الأحياء اليهودية التي لم يبق منها سوى اسمها وتقع في مناطق حلبجة وزاخو و كويسنجق ومدن أخرى في إقليم كردستان العراق.
وأقر برلمان الإقليم في 2015، قانونا يعتبر اليهودية "دينا محميا" وينص على أن يكون لليهود ممثل رسمي "حتى النواب الإسلاميين صوتوا لمصلحته" كما يؤكد المسؤول في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية للإقليم مريوان نقشبندي الذي كان إحدى زوجات جده يهودية.
وتقول سلطات الإقليم إن حوالي 400 عائلة من أصل يهودي تعيش في كردستان العراق، لكنها اعتنقت الإسلام وسجلت رسمياً كمسلمة.
ويؤكد شيركو عثمان عبد الله (58 عاما) الممثل الرسمي حاليا لليهود في الإقليم، لفرانس برس أنه لا يعرف حقيقة مجتمعه.
ويقول "لا أعرف عدد العائلات اليهودية التي لا تزال تعيش في كردستان لأن أغلبهم يمارسون دينهم بالخفاء طالما أن القول نحن يهود يعتبر موضوع حساس في العراق والشرق الأوسط بشكل عام".
وتقدم عبدالله بطلب للحصول على إذن رسمي لبناء مركز للجالية اليهودية لكنه لم يحصل على موافقة رسمية، يقول "أريد أن يأتي زعيم يهودي ليعلمنا العادات الصحيحة لكن هذا غير ممكن في ظل الظروف الحالية".
والصلة بين العائلات القليلة المتبقية واليهود من أصول عراقية في إسرائيل، تتراجع.
يوضح عبد الله لفرانس برس "الآن يهود العراق الذين غادروا إلى إسرائيل في خمسينيات القرن العشرين ما زالوا يجدون طرقا للعودة إلى المنطقة الكردية بهوياتهم العراقية، لكن في غضون خمس سنوات، سيموتون وسيتم قطع العلاقة بأكملها".
"لم يبق سوى الذكريات"
قبل ثلاث سنوات، بدأ تنفيذ أعمال لترميم ضريح النبي ناحوم في القوش بفضل تمويل قدره مليون دولار قدمته الحكومة الأميركية إضافة إلى تبرعات مقدمة من حكومة الإقليم وأخرى من أفراد.
وبصمات اليهود ليست موجودة في إقليم كردستان وحده، بل أيضا في الموصل والبصرة والرمادي والعاصمة بغداد حيث كان يوم العطلة الأسبوعية هو السبت لفترة طويلة بدلا من يوم عطلة المسلمين الجمعة كما هو الحال اليوم.
وكانت هناك عائلات فقيرة منهم في العراق. لكن كانت هناك نخب ما زال العراقيون يستذكرونها، تضم مطربين كبار وفناني للفولكلور الموسيقي البغدادي.
وأشهر هؤلاء كان ساسون حسقيل وزير المالية في أول حكومة عراقية في عهد الانتداب البريطاني عام 1920.
يقول رفعت عبد الرزاق المختص بالتراث اليهودي في بغداد لفرانس برس، إن حسقيل كان "أول من وضع أسس النظام المالي العراقي".
لكن اليوم منزل حسقيل الواقع على ضفاف نهر دجلة، مهجور ودمر جزء منه. و"لا يوجد اهتمام بالموضوع، لا سياسيا ولا في الأبحاث" وفق عبدالرازق.
وأضاف بحسرة "لم يبق شيء، لم يبق إلا الذكريات".