"حب تالي العُمُر".. كاتب فلسطيني يدوّن 73 يوماً لبغداد
"كتبت سلاسل كثيرة في شؤون شتى، هنا على الفيسبوك وفي أماكن أخرى، وكان الخروج منها سهلا، كنت أتقيأ سياسة فترتاح معدتي، وأكتب في شؤون أخرى فيرتاح دماغي، وأما الخروج من بغداديات فهو صعب جدا، لأن ما فيها يستقر أبعد من العقل، إنه أصعب على قلبي من مغادرة بغداد عام 1995، كنت يومها عائدا إلى فلسطين، أما اليوم فأغادر لا أعرف إلى أين".
بهذه العبارات، اختتم الكاتب والإعلامي الفلسطيني عماد الأصفر، سلسلة يوميات عن بغداد، مؤلفة من ذكريات وانطباعات ونوستالجيا وحتى أحداث معاصرة لتوقيت كتابته (كرثاء نجم كرة القدم أحمد راضي).
وفي الوقت الذي كتب الآلاف وربما الملايين حول العالم، يومياتهم المنزلية الآنيّة مع الحجر الصحي بسبب ظروف منع التجوّل وإتاحة العمل من بعد، أو التعطّل عن العمل، استجابة لجائحة كوفيد-19، قرّر الأصفر العودة بالذاكرة للعراق، مدة 73 يوماً متواصلة، لينتقل بعدها إلى سوريا، التي وصلت يومها السادس والستين.
بغداديات الاخيرة محبة وشكر بعد 73 يوما من هذه المطولات البغدادية، ينتابني الشعور بالضياع، او الغرق في دوامة لا استطيع...
Posted by Emad Alasfar on Sunday, July 5, 2020
وفي 17 أغسطس الماضي، أعلن الأصفر أن "بغداديات" صارت كتاباً جاهزاً للنشر، حصل "ارفع صوتك" على نسخة إلكترونية منه.
لمّا يكون الفنان خالك . هيك بيطلع غلاف كتابك Nawaf Soliman
Posted by Emad Alasfar on Monday, August 17, 2020
يقول الأصفر لـ"ارفع صوتك" إنه قرر نشر السلسلة على هيئة كتاب، بعد أن أقنعه أصدقاؤه بذلك، فيما صمّم الغلاف الفنان والخطاط نواف سليمان، المقيم في الولايات المتحدة.
ويضيف "أعتقد أنني سأنشر الكتاب إلكترونيا، وبعض الأصدقاء القدامى من أيام بغداد يريدون أيضا طباعة ونشر وتوزيع هذا الكتاب في دبي" آملاً أن تطبع هذه الحلقات في كتاب لتكون موجودة بين أيدي عدد أكبر من القراء العراقيين أو العرب "الذين مروا ببغداد وشربوا من مائها وشايها ودرسوا أو أقاموا فيها أو تزوجوا منها، أو خلقوا ذكريات فيها" على حد تعبيره.
زيارة خاطفة
عاش الإعلامي عماد الأصفر في العراق بين الأعوام (1983- 1995) مع غياب بسيط عنه، ثم زاره عام 2002 يوماً واحداً فقط.
"كان وضعه مزرياً جداً" يصف الأصفر العراق في ذلك العام.
ويستذكر الزيارة بقوله "نزلت في فندق ميريديان وسط العاصمة، وفي الساعة 8:00 مساء بدأت جولة من شارع السعدون، الأكثر ازدحاما كونه في قلب بغداد، لأجد معظم محلاته مغلقة، وعدد قليل من المارة كانوا يسيرون كأن على رؤوسهم الطير، بينما انتشرت الكلاب في الشارع".
بدت له بغداد "مدينة مهجورة" مضيفاً "رأيت رجلا حزينا توحي لحيته وسحنته ووقفته بأنه من المثقفين،، كان يبيع مكتبته الشخصية، آلمني هذا المنظر كثيراً، خاصة وأنا أعرف طبيعة المثقف العراقي، وكيف يعتد بنفسه ويعتز بمكتبته".
ويتابع الأصفر "في اليوم التالي عدت إلى عمّان بطريق البر كما حضرت، ولم أكن قد ارتحت بعد من عناء السفر في السيارة لمدة 12 ساعة".
"أشياء أحبها عن أناس أحبهم"
وعن تاريخ الأصفر مع أدب اليوميّات، خصوصاً في مواقع التواصل الاجتماعي، التي أعطته صبغة جديدة، يقول إنه اعتاد الكتابة بشكل يومي منذ سنوات في صفحته على فيسبوك، حيث تتيح له طبيعة هذا الموقع "المرونة والحرية والتخفف من أي التزام وظيفي" بالإضافة للتفاعل مباشرة مع المتلقّي.
"أحيانا اكتب البوستات القصيرة جداً التي تتوافق مع استعجال رواد مواقع التواصل، لكنني في الغالب أتجرأ لأكتب مقالات طويلة، وواجه ذلك انتقادات وأحياناً عدم استحسان في البداية، ولكن مداومتي على الكتابة واهتمامي بشؤون الساعة، والزاوية غير التقليدية، وغير المكررة التي أتناول الموضوعات من خلالها، خلقت بعض المتابعين النوعيين. وهذا أمر يسعدني" يقول الأصفر.
وعن الموضوعات التي شكلت عناوين يوميات الأصفر قبل بغداد، يقول "واكبت انتشار وباء كورونا، وكافة مباربات كأس العالم بمقالات طويلة تتحدث عن ذكرياتي مع البلد الذي يلعب منتخبه، إن كنت قد زرته مثلا، وعن مواقفه السياسية لا سيما إزاء قضية فلسطين. كانت سلسلة يومية متعبة خاصة مع حدوث مباريتين في اليوم الواحد، لكنها كتابة متنوعة وممتعة لي ككاتب، حيث أشعر أنني حين أكتب ألقي عن ظهري أحمالا ثقيلة، وأفرغ مساحة من عقلي لتدخلها أحداث وذكريات جديدة".
ويتابع الأصفر "فعلت هذا أيضا مع إضراب الأسرى الفلسطينيين الذي طال كثيرا فألزمت نفسي بالكتابة عن الحركة الأسيرة ولكن من زوايا مختلفة، مثل أغاني الأسرى وأدب السجون والمعتقلات، وعن حالات خاصة وعن عمليات التبادل، والآن أنا منشغل في سلسلة جديدة عنوانها (سوريا التي في خاطري)".
أما "بغداديات" فكانت السلسلة الأطول، يقول الأصفر لـ"ارفع صوتك": "كتبت يومياً وكنت أدقق كمّاً كبيرا من المعلومات، وأكتب بسخاء، إذ لم أكن معنياً بتجزئة السلسلة لعدد أكبر من الحلقات رغم إمكانية وسهولة ذلك، وذلك لأنني كنت أكتب أشياء أحبها عن أناس أحبهم وأعرفهم وأتقاسم معرفتهم مع عدد كبير من الأصدقاء، الذين اعتبروا أن ما أكتبه هو جزء من ذاكرتهم الشخصية".
بغداد حادة المزاج. إن أحبت، أحبت بجنون وإن كرهت كرهت بلا حدود، وإذا سادتها المشاعر القومية عقدا، تلته عقود من القُطرية، وإذا حاربت ببسالة في حرب،استسلمت لاحقاً، وإذا ثارت على طغيان داخلي، سكتت طويلا على طغيان يليه، وإذا تجاوزت فقرها وصارت غنية، ارتدّت سريعا لتصير الأفقر بين شقيقاتها (بغداديّات)
وبعض متابعي "بغداديات" اعتبرها فرصة لتجديد علاقته بزملاء قدامى، كما دعا بعضهم لتشكيل "رابطة لخريجي الجامعات العراقية في فلسطين"، حسب الأصفر.
يقول "كنت سعيداً بتفاعل كثير من العراقيين، خاصة المقيمين خارجه، وكيف أن بعضهم كان يرسل ما أكتب إلى أبنائه على أمل أن يصنع ذاكرة وطنية لهم، حيث ولدوا وكبروا بعيدين عن ثقافة بلدهم".
ويشعر الأصفر بالحزن الكبير على العراق وأهله، قائلاً "الكوارث المتوالية التي تدور على أرضهم تشغل حياتهم بحيث لا يتفرغون لتقديم المزيد من الإنجاز الثقافي المعولم وغير الخاضع لتأثير الجغرافيا أو الواقع".
هذه الذاكرة الخصبة، ورؤية البلد الذي أحبّه، يتداعى في البعيد، لم يكن بوحها خفيفاً دائماً، يقول الأصفر "بكيت في بعض الحلقات وضحكت في أخرى، وفي الختام، أطلت الوقوف، واستصعبت الخروج لكنني خرجت في النهاية حزينا ومحتارا، وكان علي أن أباشر فوراً بكتابة سلسلة جديدة لا لشيء إلا لكي أخرج من جو بغداديات، هذا الجو الذي وضعني في العراق طيلة 73 يوماً متواصلة بعد ربع قرن من الغياب".
بغداد "حب تالي العُمر"
لم تكن الليلة الأخيرة للأصفر في بغداد، سوى إشارة غير معلنة على بدء تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية في العراق، ولكن كيف رآها هو طيلة تلك السنوات، وما الذي يستشرفه من مستقبلها؟
يقول الأصفر لـ"ارفع صوتك": "بشأن مستقبل بغداد وغيرها من الدول العربية التي تهدمت، وقياسا بما قرأنا في التاريخ، أراه مساراً إجبارياً نحو النهوض، إذ خاضته كل الأمم قبل أن تبدأ بتحريم الاقتتال والعنف الداخلي وتلتفت إلى مصالحها".
"هو مسار محزن ويقطّع القلب، لكن الأمل معقود على هؤلاء الشبان والشابات الذين رأيناهم في ساحة التحرير وقد ألقوا عن كاهلهم كل تبعية طائفية أو حزبية، ورفعوا صوتهم عالياً ضد الفساد والمحاصصة، إذ لا يوجد أمل نعقده على غير هؤلاء، لا التدخل الخارجي ينفع ولا المصالحات الحزبية ولا الانتخابات المبنية على أسس غير ديمقراطية، فهو مسار طويل ودامٍ، لكن لا بديل" يتابع الأصفر.
كتب الشاعر الفلسطيني محمود درويش مرة "كيف نُشفى من حب تونس؟"، ماذا لو أبدلناها ببغداد؟ يقول الأصفر "لا يمكن الشفاء من الحب، خاصة حب تالي العمر، فحبي لبغداد هو محصلة وحاصل جمع محبة أماكن وناس وعمر ومشاعر وأحلام....".
ويختم حديثه بمقطع من أغنية لسعدون جابر، كتبها فالح حسون الدراجي:
"انا بهذا العمر حبيت واشكيلك اجيت اعتب
هوى تالي العمر كتال واكثر من هوى ايام الصبا يعذب
يا مرافق زغري وايامي ومعاشر صحوي واحلامي
شلون الحاجب ينسى العين وشيفارق ولفين اثنين
الحبك والراد اشواقك يهواك بوصلك وفراقك
حبيناك شقد مانحب وشقد ما بالعالم حب
ولا تقدر تنساك الروح تريد تظل تريد تروح"