صورة تعبيرية، من الأرشيف
صورة تعبيرية، من الأرشيف

ترفض سناء وهاب (46 عاماً) الحديث عن مصير والدها لكل شخص يعرفه ويسأل عنه. 

وكان والدها تعرض للخطف والتعذيب الجسدي والإيذاء النفسي عام 2006 على يد جماعات مسلحة خلال الصراع الطائفي.

تقول لـ "ارفع صوتك" إنها "لا تعرف شيئا عن والدها ولا تريد. لأن أخباره قد تؤثر سلباً على حياتها وأسرتها".  

وبسبب معاناته من الاضطرابات النفسية بعد الإفراج عنه من قبل مختطفيه حينذاك، أدخلته العائلة لمستشفى الأمراض النفسية والعقلية في بغداد. 

ومنذ عام 2008، بقي الأب منسياً في المستشفى، تقول  سناء "لا نعرف شيئاً عنه ولا نريد ذلك، خشية أن يؤثر على حياتنا، خاصة بعد أن صار لكل فرد منا أسرة وأطفال". 

وتبرّر تصرفها هي وعائلتها بإهمال أبيهم قائلة "دخول مستشفى الأمراض العقلية والنفسية في البلاد أو تلقي العلاج النفسي، مشكلة مجتمعية خطيرة تجلب العار لي ولأطفالي". 

"شرف" العشيرة

من جهتها، تقول الخبيرة في علم النفس الاجتماعي أحلام ياسين، لـ "ارفع صوتك" إن "درجات الوعي بالأمراض النفسية والعقلية تتفاوت في المجتمع العراقي وفقاً لجنس المريض، فهي تجاه الرجل أقل قسوة من المرأة". 

وتضيف أن "طبيعة المجتمع تتسامح مع الرجل الذي يصاب بمرض نفسي أو عقلي بينما إصابة المرأة تعده أمرا صعبا، وقد يكون من المستحيل تقبله في كثير من الحالات". 

ويجنح الكثير إلى الاعتقاد بأن المرأة التي تظهر عليها أعراض نفسية أو عقلية "جالبة للعار" بالتالي تكون عرضة إلى سلوكيات وعادات متعلقة في "الحفاظ على شرف العشيرة أو العائلة" وفق تعبير ياسين.

وتضيف "يصل الأمر في كثير من الأحيان إلى حبس المرأة وعزلها عن الجميع لإخفاء عارها الذي يلحق بأفراد اسرتها كافة". 

وتتابع "هناك مفاهيم وعبارات دارجة تنتشر في المجتمع حول أسرة المصاب بمرض نفسي أو عقلي، أبرزها القول بأن (أخته مخبلة أو أخوه مخبل) لرفض الزواج من أحد أفراد أسرة المريض". 

في هذا السياق، ترى الناشطة القانونية سلوى ناظم أن أكثر ما شجع على تفاقم نظرة المجتمع السلبية تجاه المريض نفسياً أو عقلياً، هو "انعدام الثقة بمؤسسات الصحة النفسية والعقلية في البلاد".

ويعد مستشفى "الرشاد"، أو كما يطلق عليها (الشماعية) أقدم مستشفى يهتم بالأمراض النفسية والعقلية في العراق.

تأسس المستشفى في مطلع خمسينيات القرن الماضي، ويقع في مساحة كبيرة تقدر بـ 92 دونماً، وحين تم تشييده كان بعيدا عن مركز بغداد، لكن البناء العشوائي أحاطه الآن حتى صارت الدور السكنية مجاورة له.

تقول ناظم لـ "ارفع صوتك": "هناك الكثير من الأقاويل التي تعتبر دخول المصاب لهذا المستشفى أمراً خطيراً". 

ويتفق معظم الأطباء النفسيين ونشطاء المجتمع المدني على أن بعض نزلاء المستشفى يتم استغلالهم، حيث لوحظ أنهم يجوبون الشوارع القريبة منها وحتى في داخلها بهدف التسول. 

في المقابل، يقول إدرايون وموظفون في المستشفى، إن أغلب المرضى "مدخنون" ويشترون بالمال الذي يحصلون عليه سجائر من حانوت المستشفى.

كما تتكرر  المشاجرات بين المرضى، وتصل إلى درجة التشويه الجسدي نتيجة دمج الحالات الخطرة مع غيرها، حسب ناظم. 

وتقول إن "المجتمع العراقي عموماً لا يتقبل فكرة إدخال امرأة أو فتاة إلى مستشفى الأمراض العقلية متحججاً بتعرضها للاغتصاب فيه". 

لذا فإن الداخل إلى هذه المستشفى لن يتم استقباله عند الخروج سواء من أفراد المجتمع أو أسرته، ولأن إدارة المستشفى تفرض أن يتم تسليم المريض أو المصاب إلى أهله أو المسؤول عن إعالته رسمياً، فقد يبقى بين جدران المستشفى مدى الحياة، كما توضح ناظم.  

مستعدون للاندماج

يعاني مستشفى" الرشاد" وهو الوحيد في العراق بتخصصّه، من قلة الملاكات الطبية والخدمات والعلاج والمستلزمات الأخرى، فضلاً عن اعتماده على المتبرعين لتوفير احتياجات مرضاه. 

وفي تصريح سابق لعضو مجلس النواب رعد الماس، وصف المستشفى بأنه "مقبرة للأحياء" مضيفاً "يعاني من نقص واضح في الخدمات وقلة الدعم، والمناطق الخضر المحيطة به تحولت إلى أشبه بأرض قاحلة تغزوها الأدغال، وبقيت بعض أشجار النخيل التي تقاوم الإهمال".

ووفقا لتقارير رسمية يوجد عدد كبير من المرضى "مؤهلين ومهيئين للاندماج في المجتمع الخارجي والخروج من المستشفى الآن، لكن ذويهم يرفضون استلامهم".

وقال مدير مستشفى الرشاد التدريبي للأمراض النفسية والعقلية الدكتور علي رشيد الركابي، إن "المريض لا يخرج من المستشفى أبداً بعد تسجيل دخوله إليه. وباستثناء وحدة الطب الشرعي، يدخل المريض المستشفى مدى الحياة".

وأضاف الركابي، أن "عدداً كبيراً من المرضى الموجودين في المستشفى حالياً ليس لديهم أسباب سريرية لبقائهم فيها.

"فقد تعافوا تماماً من الناحية السريرية ويمكن لهم المغادرة. ومع ذلك، وبسبب الافتقار إلى الصحة النفسية المجتمعية، إلى جانب الافتقار للمرافق السكنية، لا يستطيع هؤلاء وأفراد أسرهم الاندماج من جديد في المجتمع"، يقول الركابي.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.