"ركام وألم ورائحة كريهة".. موصليون يبيعون بيوتهم للسكن في الضواحي
يأمل سعد جرجيس الذي كان يسكن في المدينة القديمة وسط الموصل، في بيع منزله الذي بات مجرد جدران متهاوية، كما أغلب المباني هناك، من أجل شراء بيت جديد في الضواحي.
وانتقل العديد من سكان المدينة الواقعة شمال العراق، تاركين وراءهم أملاكاً من الصعب إيجاد من يريد اقتناءها.
وفي صيف 2017، أقيمت احتفالات رسمية بمناسبة "تحرير" الموصل التي كانت تعتبر بمثابة "عاصمة" تنظيم داعش.
واحتل التنظيم الإرهابي لأكثر من ثلاث سنوات مساحات واسعة من العراق، لكن أهالي الموصل وجدوا أنفسهم بعد ذلك وسط ركام منازلهم ومحلاتهم.
وحتى اليوم، لا يملكون إمكانات إعادة الإعمار، فلم يجدوا مفراً من جمع كل ما لديهم من مال لشراء أراض على أطراف الموصل ومحاولة تشييد منازل هناك.
"بيت مدمر" للبيع
يسكن سعد جرجيس (62 عاما) اليوم مع زوجته وأطفاله الأربعة في شقة استأجرها في حي شرق الموصل، على الجانب الآخر من نهر دجلة.
يقول لوكالة فرانس برس "أحاول منذ أشهر بيع بيتي المدمر كقطعة أرض على الأقل، لكن لا أحد يريد شراءه، لأنه مع كل ما حوله من منازل مهدمة، تفوح منها روائح كريهة تذكر بالموت والدمار".
وتمثل المدينة القديمة حيث تقع منارة الحدباء والجامع الأموي ومنازل وعقارات عتيقة، قلب الموصل وأقدم منطقة فيها، وهي مركز محافظة نينوى المعروفة بـ"أم الربيعين".
ولم يعد سعد يرغب بالعودة للعيش في المدينة القديمة، يقول "عندما أتفقد البيت، تقفز أمامي مشاهد القتل والتفجير والإعدامات التي كان داعش ينفذها".
وتقف هذه الذكريات ومعها الفساد والركود الاقتصادي في العراق جراء انخفاض أسعار النفط الذي يمثل المورد الرئيسي لميزانية البلاد، وراء صعوبة عودة الحياة الطبيعية في جميع المدن التي حررت من قبضة داعش.
يتابع سعد بألم واضح "بيتي الذي اشتريته من قبل بستين مليون دينار (حوالي 40 ألف دولار) لا يساوي اليوم حتى ربع هذا المبلغ، وينطبق هذا على جميع المنازل والمحال التجارية في المدينة القديمة".
في نفس السياق، يؤكد ماهر النقيب، وهو صاحب مكتب لبيع وشراء العقارات، "انخفاض أسعار المنازل في المدينة القديمة بنسبة تصل إلى 50%".
"تحمل هذه البيوت ذكريات مؤلمة لأهلها، ما دفعهم للتخلي عنها" يضيف النقيب لوكالة فرانس برس.
ويشير إلى تلقيه طلبات من سكان المدينة القديمة لشراء عقارات سكنية في أحياء بعيدة عن قلب الموصل كانت أقل ثمنا في الماضي، لكن البنى التحتية فيها الآن أصبحت أفضل.
ويقول النقيب إن من أسباب الانخفاض الكبير في أسعار عقارات المدينة القديمة، أن الحكومة "لم تدفع تعويضات للأهالي ولم تُعِد الخدمات العامة ولم تبن الجسور" بين جانبي المدينة.
وتحت هذه الظروف، أصبح بيع السكان لمنازلهم وعقاراتهم، حتى ولو بربع قيمتها، الخيار الوحيد أمامهم.
من جهتها، تؤكد سلطات المحافظة أنها قدمت 90 ألف طلب تعويض بينها حوالي 50 ألفاً عن أملاك دمرت وقرابة 40 ألفاً عن الضحايا، لكن التعويضات لم تشمل سوى 2500 عائلة حتى الآن.
في المقابل، تحولت مناطق زراعية تمتد على أطراف الموصل التي كانت مركزا تجاريا أساسيا في الشرق الأوسط يسكنها قرابة مليوني نسمة، إلى تجمعات سكنية متفرقة هنا وهناك.
وظهرت أحياء بأسماء مثل "زيونة" و "الفلاح الثانية" و "الجمعيات"، تمر فيها شوارع مغطاة بالإسمنت وتمتد فيها أنابيب مياه شرب وتوجد فيها مكاتب عقارية.
ليست للسكن
يقول يونس حسون (56 عاما)، وهو صاحب مكتب عقارات، إن "عملية بيع الأرض للسكن سهلة جدا ولا تستغرق سوى ساعة أو ساعتين، فيما يتطلب بيع أو شراء العقارات والأراضي القديمة إجراءات روتينية معقدة ترهق الناس الذين أصبحوا يفضلون المناطق الجديدة".
إلى ذلك، تعد أسعار شراء الأراضي في تلك المناطق مغرية مقارنة بغيرها.
ويضيف حسون لفرانس برس أن "سعر المتر المربع من الأرض يعتمد على الموقع ويتراوح بين 100 إلى 300 ألف دينار (حوالي 65 إلى 200 دولار)".
وشجع كل ذلك على تسارع حركة البناء. ويمكن رؤية شاحنات وآليات تتنقل في المناطق الواقعة عند أطراف الموصل حيث أقيمت مدارس خاصة ومحال تجارية وعيادات طبية خاصة.
من جهة أخرى، اشترى عدي حميد (42 عاما)، وهو بائع ملابس مستعملة، قطعة أرض منذ أكثر من عام وتمكن من بناء منزله عليها، يقول "عندما اشتريتها كانت المنطقة خالية تماما".
ويوضح حميد، وهو أب لخمسة أطفال، إلى أن "ثمن 100 متر مربع داخل الموصل يتراوح بين 15 الى 20 مليون دينار (أقل من 13500 دولار)، بينما في المناطق الجديدة تشتري بهذا المبلغ 200 متر مربع".
وتدعي دائرة بلدية الموصل أن الأراضي الزراعية غير مخصصة للسكن، لكن في العراق حيث ما زال هناك 1,2 مليون نازح، لم يعد هناك اعتبار لذلك.
ويؤكد رئيس بلدية الموصل زهير الأعرجي أن "هناك خططا لتوسيع مدينة الموصل (...) ولبناء ضواحي جديدة"، لكنها ما زالت "قيد الدراسة"، رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على طرد داعش من المنطقة.