عثمان محمد، ناج عراقي كردي من مجزرة حلبجة عام 1988
عثمان محمد، ناج عراقي كردي من مجزرة حلبجة عام 1988

"لا أستطيع أن أمارس حياتي الطبيعية ووظيفتي كمدرس، لأنني أعاني من ضيق التنفس والإرهاق"، يقول عثمان محمد، الناجي من مجزرة حلبجة، حيث استهدفت محافظة حلبجة الكردية شمال العراق بالقصف الكيميائي.

والتقى "ارفع صوتك" عثمان، للحديث عن تجربته، في "يوم إحياء ذكرى جميع ضحايا الحرب الكيميائية"، المقر من الأمم المتحدة، والموافق 30 نوفمبر من كل عام.

يضيف عثمان: "لا أستطيع أن أمارس وظيفتي كزملائي الذين لا يعانون من أي مشاكل أو آثار التعرض للسلاح الكيمياوي، فأنا لا أتمكن من استكمال درس أو درسين متتالين أو القيام بالنشاطات، لأنني أتعرض لنوبة من السعال وضيق التنفس، إضافة للمعاناة من تأثيرات الإصابة على عيني وجهازي التنفسي".

لم يكن عُمره تجاوز الثمانية أعوام، حين تعرضت حلبجة للقصف الكيميائي، وظل طيلة السنوات الـ33 الماضية، يحمل في مخيلته مشاهد وصور ذلك اليوم الذي غير حياته كلياً، وما زال يعاني من تأثيراتها حتى اليوم.

"كان يوما صعباً ومأساوياً جدا.. كنا مختبئين في قبو منزلنا ونسمع أصوات الطائرات التي غطت  سماء المدينة، والخوف سيد الموقف، وملامح الرعب والقلق على وجوهنا، كما نراه في عيون الأكبر منا سناً"، يوضح عثمان.

مقال حول عثمان وعائلته في صحيفة سويسرية- 1988

وقررت عائلته بعد فترة من البقاء في القبو، الخروج والهرب إلى خارج حلبجة كي تنجو من الغازات السامة.

يبيّن عثمان: "عند خروجنا رأيت مشاهد مأساوية لن تمحى من ذاكرتي أبدا. كانت الأزقة والشوارع مليئة بالجثث، وكنا نمشي عليها، فيما تنهش الغازات السامة أجسامنا. ورأيت الآلاف من أبناء مدينتي يتساقطون على الأرض واحداً تلو الآخر، بعد أن فتكت بهم الأسلحة الكيماوية، وآخرون كانوا يتراقصون ألماً قبل موتهم، إثر تعرضهم لغاز الأعصاب".

وفقدت والدته الوعي في الطريق، فاضطر والده إلى حملها. وتمكنت العائلة من الخروج بصعوبة، وجميع أفرادها يعانون إصابات متعددة، أفقدتهم القدرة على الرؤية في نهاية المطاف، وكغيرهم من المصابين الناجين من حلبجة، نقلتهم المروحيات الإيرانية إلى إيران لتقلي العلاج.

"بعد فترة وجيزة من تلقي العلاج الأولي، نقلنا أنا وإحدى أخواتي إلى سويسرا لاستكمال العلاج، فيما نقلت أختاي الأخريان إلى الولايات المتحدة الأميركية للعلاج، وبعد أشهر أعادونا إلى إيران وسلمونا لدور الأيتام، لأن والديّ لم يكونا موجودين"، يتابع عثمان.

ويشير إلى أن والده وبعد بحث طويل عنهم، وبمساعدة الأقارب، تمكن من إيجادهم، ليجتمع شمل العائلة مجددا.

صحيح أن عثمان وعائلته نجوا من الموت، لكنهم عانوا الكثير خلال السنوات التي أعقبت القصف، إذ فقدوا جميع ممتلكاتهم، وبدأوا حياة جديدة من الصفر.

وكانت الحالة الصحية لوالدي عثمان تتأزم يوما بعد يوما حتى توفيا على أثر الإصابة بعد سنوات قليلة من القصف، وما زالت البقية من عائلته تعاني آثار الأسلحة الكيميائية، وتدهور أوضاعهم الصحية وسط انعدام الأدوية الخاصة بهم والعناية الطبية داخل العراق، كما تمنعهم أوضاعهم المعيشية من السفر خارج البلاد لتلقي العلاج.

كما عائلته "لم تتمكن من العودة إلى الحياة السعيدة التي عاشتها قبل الإبادة الجماعية"، حسب تعبيره، مردفاً "بعد مرور هذه السنوات ما زالت أجواء الحزن والكآبة تطغى على حلبجة، التي تعاني من التهميش والدمار، بينما تظهر آثار السلاح الكيمياوي في كل مكان، خاصة على الصحة والحياة الاجتماعية لسكان المدينة".

ويقول عثمان في ختام حديثه "نحن ضحايا الأسلحة الكيمياوية لم نتلق حتى الآن العناية اللازمة والعلاج المطلوب وإعادة التأهيل النفسي والاجتماعي؛ كي نتمكن من التغلب على الآثار الجسدية والنفسية للإصابة، ولم نتلق حتى الآن التعويضات عما تعرضنا له من إبادة".

وتشير إحصائيات رسمية صادرة عن جمعية "ضحايا القصف الكيميائي" في حلبجة، إلى أن أعداد المصابين المسجلين الذين يعانون من آثار القصف حتى الآن في كردستان يبلغ ٩٧٢ مصابا، توفي منهم نحو ٢٢٠ مصابا جراء آثار الإصابة منذ عام ٢٠٠٣ وحتى الآن.

بدوره، يؤكد رئيس الجمعية لقمان عبد القادر، لـ"ارفع صوتك"، أن "المصابين بالأسلحة الكيميائية في حلبجة، ما زالوا يعانون من آثار الإصابة المتمثلة بضيق التنفس والتهابات مزمنة في القصبات الهوائية وأمراض الرئة وفقدان البصر والمشكلات الجلدية والإرهاق الدائم".

"كما تعاني غالبية النساء اللائي تعرضن للإصابة من الولادة المبكرة عبر العمليات القيصرية أو للإجهاض التلقائي خلال الأشهر الأخيرة من الحمل، بسبب معاناتهن من مشاكل التنفس، إلى جانب مشاكل نفسية مختلفة ومشاكل اجتماعية"، حسب عبد القادر.

وتعرضت مدينة حلبجة في كردستان العراق، للقصف بالأسلحة الكيميائية، شنته القوات العراقية بقيادة الرئيس السابق صدام حسين، في 16 مارس 1988، وأسفر عن مقتل أكثر من خمسة آلاف مدني كردي، وإصابة أكثر من ١٠ آلاف آخرين.

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.